شتّان بين سعادة وطنية خام و الناتج المحلي الإجمالي

هنيئا لمن أراد قانونا للمالية 2022.. أخيرا أصبح لتونس ميزانية وقانون مالية وميزان اقتصادي للعام الجديد في وثيقة «شرعية» «ومشروعة» وقع إعدادها حسب رئيس الجمهورية قيس سعيد في : إطار حرص الدولة على بعث رسائل إيجابية لمختلف الفاعلين الاقتصاديين في الداخل وشركاء تونس والأطراف المانحة في الخارج فضلا عن البحث عن تحقيق استقرار التوازنات المالية العمومية سنة 2022 لانطلاق التعافي على المدى المتوسّط

والرسائل الإيجابية، علاوة على كونها مهمة لشحذ العزائم والنفخ في المعنويات المنهكة، ضرورية للداخل والخارج، للطمأنة ولضمان استمرار عمل الدولة وهذا في تقديرنا الفخّ الذي وقعت فيه منظومات الحكم المتعاقبة منذ ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة، فتحْت عنوان استمرار الدولة والحذر من التغيير الجذري والقطع مع المنوال الاقتصادي القديم – وهي مغامرة يلزمها بداية مشروع وطني جليّ وجرأة واضحة على التنفيذ والإنجاز – يتم كل سنة استنساخ القوانين القديمة مع إدخال تحويرات طفيفة في مستوى الفرضيات المعهودة سواء في علاقة بنسبة النمو المنشودة أو سعر النفط في العالم أو قيمة الدينار أوغيره

ولهذا السبب لم تقطع منظومات الحكم المتعاقبة مع «عادة» اللجوء إلى قوانين المالية التكميلية «السيئة» وفق خبراء الاقتصاد، والتي هي في المحصّلة عملية حسابية تقنية لتصويب جدول الجمع والطرح المختل إن جاز القول جراء عدم النجاح في تنفيذ بنود الميزانية الأصلية مع مرور الزمن

ومن أكبر المفارقات في قوانين المالية منذ 2011 توزيع الاعتمادات على السلط حيث ما تزال ميزانية رئاسة الجمهورية على سبيل المثال زمن «الثورة» في نفس صدارة ما قبلها، زمن «الديكتاتورية وسنوات الجمر»، والحال أن الصلاحيات لم تعد هي نفسها على الأقل إلى حدود العام الجاري، دون أن ننسى الاعتمادات الضعيفة لوزارات استراتيجية كالتربية والتعليم والثقافة وهي حقائب سيادية بمنطق الوظيفة الاجتماعية ودورها الحضاري

وما يمكن رصده هذا العام، أو بالأحرى هذا الأسبوع هو الكلام «الإيجابي» في ظاهره لرئيس الجمهورية المسؤول عن ضبط السياسة العامة للدولة تحت سقف التدابير الاستثنائية بطبيعة الحال في تقديم قانون المالية 2022 الذي كنّا نمني النفس أن يكون جاهزا قبل هذا التوقيت وأن يحظى بالقراءة ولِم لا الإثراء من قبل القوى المدنية والاجتماعية والسياسية بحكم المرحلة وأهمية الاشتراك في صياغة الحلول للخروج من الأزمة المركّبة

لقد فنّد الرئيس في البداية صحّة الوثيقة «المسرّبة» التي تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام ذات المصداقية بخصوص مشروع قانون المالية لسنة 2022 لدرجة خال فيها البعض أن تناقضا جوهريا سيظهر في الوثيقة «الصحيحة» التي قد تكون بالفعل تضمّنت الجديد لكنها لا يمكن أن تخرج كما أسلفنا عن دائرة القديم لذلك يمكن القول أننا اليوم بصدد «ميزانية الرئيس» التي لم تقطع مع الماضي

وبالعودة إلى الكلام الايجابي والمطمئن، ليس ثمة أجمل من الحديث عن تحقيق العدالة الجبائية خصوصا وقد اعتدنا على أن يدفع الفقير «ما يتم الاستيلاء عنه من قبل الفاسدين». ليس ذلك فحسب، « تونس دولة فقيرة في بلاد ثرية.. ليس لأن هناك نقصاناً في الثروات، بل لأن هناك سطواً على أموال الشعب التونسي»، وعليه سيدفع «الفاسدون» الثمن عبر إعادة أموال الشعب ومحاكمتهم محاكمةً عادلة حسب رئيس الجمهورية دائما

لكن لسائل أن يسأل وما علاقة هذا الكلام الجميل بقانون المالية ؟ العلاقة يمكن إيجادها سواء من خلال التشريعات التي بشّرنا بها الرئيس نفسه لتحقيق العدل، أو الأيسر من ذلك من خلال أحكام قانون المالية الذي يجب أن يتنزّل في سياق ديمقراطي اجتماعي يقطع مع المنحى الليبرالي وإن كان ثمّة مجال للتضحية فلتكن تضحية جماعية وليس على حساب الفقراء كما جرت العادة

هو مجرد شرح للأسباب إذن، وأدب ونثر لن يخفي حقيقة عدم القطع مع المقاربة القديمة لمشاريع الميزانية التي تضرب في العمق كما قال أستاذ الاقتصاد لطفي بن عيسى محرّك النمو وهو الاستهلاك، فمرابيح الإجراءات الجبائية التي تضمّنها مشروع الميزانية جيّدة بالنسبة «للتوازنات الكمّية»حسب رأيه وقد تساهم في تعديل النسب، لكن كل ذلك سيمّس من القدرة الشرائية للمواطن وبالتالي سيؤثر على الاستهلاك وبالتالي «تقاسم الفقر» وهو الاستنتاج الذي يخلص إليه دائما كثير من المختصين الذين يحذرون أيضا من القطاع الموازي

كم نحن بالفعل بحاجة كما همس رئيس الجمهورية قيس سعيد لأحد وزرائه إلى « سعادة وطنية خام » أو إجمالية  بدل « الناتج المحلي الإجمالي » ، على الأقل لتغيير مخرجات بعض استطلاعات الرأي التي تضع الشعب التونسي في ذيل الشعوب السعيدة وتبرز أن نسبة التشاؤم وفقدان الأمل في الحاضر والمستقبل جدّ مرتفعة وهو ما يفسّر تفاقم ظاهرة الهجرة النظامية وغير النظامية على حد سواء وخصوصا خلال هذه السنة وأشهرها الأخيرة على وجه التحديد

شتّان بين «البي إي بي» و«البي أن بي»، ومع ذلك فإن خللهما الاثنين أو غياب أحدهما لن يزيد الأزمة الراهنة إلا تعقيدا وإطالة، ولا نخال أن سعادة وطنية يريدها الشعب ممكنة ويمكن أن تتحقق خارج ناتج محلي إجمالي معدّل وعادل ومتوازن وصلب وجلاّب للرفاه والعيش الكريم.. هذه هي العبر التي تحدّث عنها المؤرّخون وعلماء الاجتماع وصنّاع الحضارة والزعماء الحقيقيون والشعوب الجديرة بالاحترام التي إن أرادت فلا بد أن يستجيب لها القدر

بقلم: مراد علالة