سيدي الرئيس… أخطأت الطريق

لم يكن رئيس الجمهورية مُوفّقا في الخطاب الذي ألقاه أمام ثلّة من نساء تونس بمناسبة عيد المرأة التونسية، لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون
13 أوت هو تاريخ مُقدّس لدى التونسيين، وخاصّة منهم التونسيّات، باعتباره ذكرى صدور مجلة الأحوال الشخصية سنة 1956 التي نفتخر بها أمام العالم، وبالخصوص أمام الشعوب التي ما زالت ترزح تحت أنظمة رجعية ومتخلّفة تحتقر المرأة ولا تعترف بحقوقها الدنيا، على غرار معظم الدول العربية والإسلامية. لكن السيد رئيس الجمهورية كأنّي به ينتهز فرصة الاحتفال بهذه الذكرى الهامّة ليُشكّك في شرعيّة هذه المجلّة مُذكّرا أنها صدرت بأمر عليّ من الباي رغم وجود مجلس تأسيسي يقوم مقام البرلمان في ذلك العهد، ومُذكّرا بأنه كان بإمكان الزعيم بورقيبة أن يعرضها على المجلس للموافقة. ويقول رئيس الجمهورية إن بورقيبة، حسب شهادة المرحوم مصطفى الفيلالي، امتنع عن عرض المجلّة على المجلس النيابي يقينا منه أنها لن تحظ بموافقته، ولسان حاله يقول بأن المجلة صدرت ضد إرادة ممثلي الشعب، وبالتالي فإن شرعيتها مشكوك فيها
ماذا يقصد الرئيس بهذا التذكير ؟ هل هو مُقدّمة للتراجع فيها « لعدم شرعيّتها » ؟ أم هو مُقدّمة لرفض كل مطلب يدعو إلى تطويرها بحجّة أنها ليست مبنيّة على أسس شرعية ؟
إن كان ذلك هو المقصود، فإنه لا بدّ من التذكير بأن المجلّة أُدخلت عليها تحويرات في السنوات 1964 و1981 و1993، وهي تحويرات صادق عليها البرلمان، ممّا يدل على أن السلطة التشريعية صادقت عليها برمتها بما فيها التحويرات الجديدة، وبذلك فإن التشكيك في الشرعية الشعبية لمجلة الأحوال الشخصية يُصبح غير ذي معنى
وأما بخصوص موضوع المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، فلقد عبّر الرئيس عن رفضه له بانتهاج ثلاث مقاربات بشكل موازٍ، وهي مقاربات دينية وسياسية وقانونية
فمن الناحية الدينية، يرى رئيس الجمهورية أن النص القرآني المتعلّق بالميراث واضح بما فيه الكفاية ليضح حدّا لأي محاولة لتجاوز أحكامه. ويكفي في هذا الصدد التأكيد على أن قسمة الورثة تأتي حسب النص « بعد الوصيّة ». وهنا وجب التذكير بأن القرآن « حمّال أوجه » كما قال علي ابن أبي طالب، أي أن القرآن يُمكن قراءته بطرق شتى تتغيّر حسب الزمان والمكان، وهي خاصيّة تُميّزه على سائر النصوص لتجعل منه نصّا قابلا لتأويلات مُختلفة تجعله قادرا على أن يتماشى مع كل الأمصار وكل الأزمنة.. ألم يتمّ تجاوز النص القرآني بخصوص العبودية، وتعدد الزوجات، والتبنّي، وقطع يد السارق، والأمثلة على ذلك عديدة ؟ أم أن الرئيس هو من دعاة غلق باب الاجتهاد ؟ وهنا لا بدّ من التذكير بأن المسلمين دخلوا في سبات عميق منذ أن أغلقوا باب الاجتهاد، وهاهم اليوم عنوان الانحطاط الثقافي والتخلف الحضاري والتأخّر الاجتماعي والعلمي بالمقارنة مع العالم المتقدّم. كما يجب التذكير بأن تونس تمتاز عن سائر الدول العربية والإسلامية بالتقدّم الفكري والاجتماعي لأنها دأبت على الاجتهاد في المسائل الدينية قبل غيرها وخطت أشواطا في هذا المجال. أليست تونس هي أول دولة منعت العبودية، رغم أن القرآن يُجيزها ؟
وأما من الناحية السياسية، فيقول الرئيس بأن القضايا المطروحة، ويعني قضية المساواة في الميراث، إنما هي « قضايا مُفتعلة »، مُبرّرا ذلك بأن الشعب له أولويّات أخرى عبّر عنها في الشعارات التي رفعها إبان الثورة. وهنا لابدّ أن نُذكّر الرئيس بأن أهم شعار رُفع آنذاك هو المطالبة ب »الكرامة »، حتى أن الثورة أُطلق عليها اسم « ثورة الكرامة ». فهل أن نكران الحق في المساواة بين المرأة والرجل يخدم كرامة المرأة ؟ ثمّ أن الرئيس يُفرّق بين العدل والمساواة، ويُعطي أهميّة للعدل على حساب المساواة، فهل من العدل أن ترث المرأة نصف أخيها ؟
بقي الجانب القانوني. وهو جانب حسّاس بالنظر إلى أننا نُخاطب رجل قانون. ومع ذلك أليس من الضروري أن نُذكّر السيد الرئيس أنه يرأس السلطة التنفيذيّة، وأن القوانين التي تُسيّر البلاد هي قوانين وضعية، غير خاضعة للأديان، في دولة « مدنية » حسب الفصل الثاني من الدستور، تضعها السلطة التشريعية. كما نُذكّره هنا أنه هو « الساهر على احترام الدستور » حسب الفصل 72، وأن ذات الدستور ينصّ في فصله 21 على أن « المواطنين والمواطنات مُتساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز ». أمّا إذا كان الرئيس يرغب في التأثير على السلطة التشريعيّة بأفكار جديدة، فهل يعلم أن أفكاره هذه تصب في اتجاه أكثر النواب تزمّتا وتخلّفا ورجعية ؟
لو كنت مكانك، سيدي الرئيس، وتنفيذا لواجب « السهر على احترام الدستور » لعرضت على مجلس نواب الشعب مقترح قانون يضمن المساواة في الميراث تطبيقا للفصل 21 من الدستور، أو لطالبت على الأقل بالتعجيل في النظر في مقترح القانون الذي تقدّمت به رئاسة الجمهورية منذ سنتين، تطبيقا لمبدأ استمرارية الدولة، وهو قانون أعدّته ثلّة من خيرة مُثقّفي البلاد

منير الشرفي