دعكم من التآمر على صاحبة الجلالة

لسنا ندري إن كان رئيس الحكومة هشام المشيشي كان ينوي منذ تكليفه بتشكيل الحكومة وضع يده في يد الترويكا الجديدة ويتظاهر بالاستقلالية وعدم الاعتماد على الأحزاب في حكومته على أن يقبل فيما بعد بقبول الاصطفاف وراء النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة، أم أنه كان صادقا في البداية ثمّ اضطرّ إلى اللجوء إلى الترويكا ليضمن « حزامه » السياسي والبرلماني، ويضمن بذلك بقاءه ؟
الإجابة عن هذا التساؤل لا تكتسي أيّة أهمية باعتبار أن النتيجة واحدة، وهي أن رئيس الحكومة هو اليوم حليف الترويكا، وبالتالي يُمكن القول بأن النهضة وأتباعها استرجعت هيمنتها على السلطة التنفيذية، بعد أن ضمنت هيمنة لا يُستهان بها على السلطة التشريعية
الخطوة التي أقدم عليها المشيشي يوم الإثنين الماضي بسحب مشروع القانون الذي يتضمّن تعديلا للمرسوم 116 المتعلق بالإعلام السمعي البصري مثّلت نقطة تحوّل كبرى في مسار الحكومة الجديدة من حيث الشكل ومن حيث تداعياتها السياسية
فمن حيث الشكل، لا بدّ في البداية بأن نًذكّر بتاريخ هذا المشروع. فلقد أخذ الكثيرَ من جهد الخبراء وأهل الذكر، ومن ذوي الاختصاص من عدة منظمات وجمعيات مهنية منذ عهد يوسف الشاهد. وإذا برئيس الحكومة يُقرر سحبه قبل يوم واحد من عرضه على المجلس فاتحا الباب أمام مبادرة الترويكا الجديدة، مبادرة تخدم أصحابها قبل أن تخدم القطاع، وتؤسس للفوضى بدل النظام والانضباط لأبجديات المهنة. وعند سقوط مبادرة الترويكا بسبب الضغوطات الشعبية الكبرى، فاجأتنا رئاسة الحكومة ببيان تدّعي فيه أن سحب المشروع إنما كان يهدف إلى مزيد التمعّن في فصوله وفي مدى تطابقها مع الدستور، وكأنّ مستشاري رئاسة الحكومة لا يعرفون أن سحبه يفسح المجال أمام تمرير المبادرة الأخرى. ثمّ أن الادعاء الوارد في هذا البيان يُفنّده التصريح الواضح لرئيس كتلة حزب « قلب تونس » الذي أكّد فيه أن المشيشي استشاره قبل سحب مشروع الحكومة. هذه التناقضات تُبيّن أن سحب المشروع الحكومي لم يكن من منطلق مبدئي أو قانوني، وإنما كان موقفا سياسيّا بامتياز، مُتجاهلا مبدأ استمرارية الدولة الذي عبّر المشيشي عن تمسّكه به في مجالات أخرى
ومن حيث التداعيات السياسية، يُمكن الاستنتاج أن المشيشي اختار بكل وضوح التحالف مع الترويكا الجديدة المًتكوّنة من « النهضة » و »قلب تونس » و »ائتلاف الكرامة »، بعد أن تبخّر أمله في دعم رئيس الجمهورية
لجوء المشيشي إلى الأحزاب، التي شكّلت تحالفا قويّا في ظاهره، يعود دون شك إلى اعتقاده أنه بحاجة إلى « حزام سياسي » يُساند حكومته. إلا أنه يُخطئ في هذا التمشّي عديد الأخطاء 
فحزب النهضة لم يعد بالقوة التي كان عليها في السنوات الأخيرة، ناهيك أن رئيسها هو أقلّ السياسيين شعبية حسب كافة عمليات سبر الآراء طيلة السنة الماضية، كما أنه أصبح اليوم مُنقسما بشكل جليّ وعلني، إلى حد أن كتلته النيابية لم تعد « مضمونة » وأنه لا شيء يُؤكّد تصويت أعضائها مًستقبلا في اتجاه رئيس الحزب. ولا يفوت أحدا أن هذا الحزب حكم البلاد بصفة فعلية وأدّت سياسته إلى ما نعاني منه اليوم من أزمات في كافة المجالات
كما أن حزب « قلب تونس » مُنقسم أيضا بين مناصري رئيسه المُتحمّس للمبادرة التشريعية الخاصّة بالإعلام والتي تخدمه شخصيّا بإضفاء شرعيّة على قناته غير القانونيّة، وبين المُتشبّثين بالمبادئ الأصلية التي قام عليها الحزب ودافع عنها في حملته الانتخابية
واما الطرف الثالث للترويكا، وأعني به ائتلاف الكرامة، فالجميع يُلاحظ خطابه التكفيري والعنيف، ممّا يُسيئ أيّما إساءة إلى مسانديه
على هذا الأساس، يمكن الاستنتاج أن رئيس الحكومة اختار الحصان الخاسر في معركته الوجوديّة، الحصان الذي يدّعي القوة والحال أنه هشّ للغاية وأنه مرادف للفشل
وإذا اعتبرنا أن رئيس الحكومة في حاجة فعلا إلى « حزام سياسي »، ألم يكن من الأجدر به أن يلتجئ إلى كتل برلمانية أخرى أقل رجعية وأقل شبهات، وأكثر تمثيلا للشعب ؟ علما بأنه، إذا تمّت اليوم انتخابات تشريعية جديدة، حسب ما يُؤكده سبر الآراء، لأصبح لدينا برلمان مُغاير تماما للبرلمان الحالي بعد أن انكشفت حقيقة ضحالة عدد كبير جدّا من النوّاب ومنسوب عنفهم. ألم يكن من الأجدر به أن يعتمد على مساندة نخبة البلاد ومجتمعها المدني ؟
وفي كل الحالات، فإن المشيشي، باختياره التعبير عن مساندته للتروكا الجديدة الهشّة بواسطة تبنّيه بشكل غير مباشر لمؤامرة ضد الإعلاميين، قد خسر مرّتين. الأولى بافتضاح أمره وقد تبيّن أن عشاءه مع الغنوشي والقروي ومخلوف ترك فيه استقلالية حكومته التي سيكون مآلها دون شك مثل ما آلت إليه الحكومات السابقة، كما خسر ثقة الإعلاميين الذين برهن لهم أنه مستعد للتضحية بهم في سبيل بقائه.
ولعلّه بهاذين الخسارتين يتأكّد أن سلطة الإعلام أقوى ممّا كان يتصوّر، وأن الإعلام لن يعود إلى بيت الطاعة مهما تآمر ضدّه المُتآمرون، وسيبقى مُتشبّثا بالنزاهة وبأخلاقيات المهنة بمساندة القوى التقدمية والمدنية

منير الشرفي