ثورة ثقافية للقضاء على العنف

أصبح العنف مُتفشّيا في البلاد بشكل مُفزع وغير مسبوق. وهي ظاهرة لا بدّ من البحث العميق في أسبابها والنظر جديّا في طرق معالجتها

في البداية يجب ألّا ننسى العنف السياسي الذي عشنا على وقعه طيلة السنوات الماضية، مثل اغتيال الشهداء شكري بلعيد ومحمد البراهمي ولطفي نقض، دون أن ننسى الجنود والأمنيين والمدنيين الذي سقطوا بسلاح الإرهابيين. كما لا ننسى العنف المادي واللفظي الذي ارتكبه « المسؤولون » في السلطة على غرار ذلك « النائب » الذي شاهدناه في البرلمان يقوم من مكانه ويتّجه بخطى ثابتة نحو زميلته ليلطمها على وجهها وعلى جسمها بيديه وبرجليه. ودون أن ننسى ذلك « النائب » الآخر الذي نعت المرأة التونسية بنعوت يرقى ذكرها إلى مرتبة الجريمة الفظيعة، ولا ننسى أولئك الذين قسّموا التونسيين إلى مسلمين وكفّار وما يترتّب عن ذلك من دعوة إلى الاقتتال، ولا ننسى طبعا الأخطبوط الجمعيّاتي الإخواني الذي عاث في البلاد فسادا

هذا العنف السياسي المُخطّط له أتى أكله، خاصّة وقد صاحبته جريمة أكبر، وهي الإفلات من العقاب. إذ أنه لم تتمّ محاسبة أيّ من هؤلاء « السياسيين » قضائيّا من أجل ارتكابهم للعنف المادي واللفظي، حتى أصبح لدى المواطن شبه اقتناع بأن العنف لا يُجرّمه القانون، وأنه بإمكانه أن يُمتّع لسانه بما طاب له من الشتائم والتهديدات، وأنه بإمكانه أن يأخذ معه سيفا أو ساطورا، حتى إذا عاكسه أحد يطعنه به

هذه السياسة المُمنهجة « المتسامحة » مع العنف، إن لم نقل الداعية والداعمة له، تجد تأثيرها الأول لدى الأطفال والشباب الذين فتحوا أعينهم على خطاب العنف المسموح به من جهة، وعلى انعدام العناية بهم من قبل السلطة والحكومات المتعاقبة في العشرية الماضية من جهة ثانية. فنجد معدّل 100 ألف شاب يُغادر المدارس كل سنة ويُتركون في الشوارع حيث تنتعش تجارة المُخدّرات، وحيث تعوّدوا على مشاهدة تراكم الفضلات في الشوارع وحيث احترام إشارات المرور مدعاة للتهكّم والاستهزاء، وحيث الانتصاب الفوضوي سيّد التجارة، وحيث بيع العملة الصعبة على قارعة الطريق أمر عادي، إلى آخر ذلك من مظاهر الفوضى العارمة دون رقيب ولا حسيب

إن تخلّي الدولة عن التربية والتعليم يُعدّ أكبر جريمة اقترفتها سلطة ما بعد 14 جانفي على الإطلاق. ويجدر بنا هنا التذكير بأن الدولة التونسية راهنت على الشباب واستثمرت في التعليم طيلة 55 سنة، في عهديْ بورقيبة وبن علي، رغم النقائص المُسجّلة في هذا المجال في تلك الفترة. وكانت تُخصّص طيلة عقود ثلث ميزانية الدولة إلى التربية. ولقد أتت هذه السياسة أكلها عندما نجحت في تكوين شعب مُتعلّم ومُتحضّر. لكنها تخلّت تماما عن التربية، وعن المدرسة عموما، منذ سنة 2011. وأصبحنا نجد أقساما بخمسة وأربعين تلميذا، ومدارس بدون معلّمين، وبدون دورات مياه. فهذا قسم سقفُه يتهاوى على رؤوس التلاميذ، وهذا قسم تفتقد شبابيكه إلى البلور

أضف إلى ذلك التسيّب في مراقبة بعض المعلمين والأساتذة المُكلّفين من قبل قوى الظلام والرجعيّة بغلق أذهان التلاميذ، فتراهم يلبسون الزي الأفغاني ويُعلّمون الناشئة بأن الأرض مُسطّحة وأن سماع الموسيقى حرام وأن الاجتهاد في الدين كفر، وما إلى ذلك من الدعوات إلى عدم استخدام العقل. هذه السياسة لا يُمكن أن تؤدّي إلى غير النتائج التي نعيشها اليوم من عنف بدون تفكير

هذه الحالة المُزرية لوضعية التعليم ووضعيّة شباب تونس تدعونا إلى إطلاق صيحة فزع وإلى الدعوة الملحّة إلى مراجعة المنظومة التربويّة مراجعة جذرية وعاجلة تأخذ في الاعتبار أهميّة التكوين الصحيح للناشئة، مستقبل البلاد، يقوم بها المسؤولون بالتعاون التام مع المختصّين والمجتمع المدني وتقوم بالخصوص على:
– تثمين إعمال العقل في كافة المجالات، حتى نُجنّب أبناءنا السقوط في محاولات الزجّ بهم في متاهات الشعوذات والخرافات التي يعمل البعض على ترويجها في مدارسنا

– إعطاء الأهميّة القصوى للتكوين الثقافي للأطفال وللشبان وإلزامهم بتعاطي الأنشطة الثقافية والفنية والرياضيّة والعلمية بالتوازي مع الدراسة، وذلك في إطار مُنظّم تشترك فيه دور الشباب والفضاءات الثقافية العموميّة والخاصّة، تحت الرقابة الدقيقة للوزارات المعنيّة

– إعادة النظر في الأدوار التي يجب أن يلعبها كل طرف معني بالتربية في مفهومها الواسع، من مُربّين، وتلامذة، وإدارة، وأولياء

هذه المراجعة يجب أن ترقى إلى الثورة الثقافية التي يشترك في القيام بها كافة الوزارات المعنية بمستقبل الشباب، وبالتالي مستقبل البلاد، ونعني وزارات التربية والتعليم العالي والثقافة والطفولة والتشغيل، إلى جانب جمعيات المجتمع المدني الحقوقية

هي ثورة ثقافية تُؤسس لمجتمع واعٍ ومُتشبّعٍ بمبادئ الدولة المدنية المُتحضّرة، وبقيم الجمهورية والمبادئ الكونية لحقوق الإنسان، بعيدا عن التعصّب والحقد والكراهية والعنف

منير الشرفي