تَأخر الحسم كثيرا، ولا يجب أن يتأخر أكثر: الدولة التونسية دولة مدنية أو لا تكون

قبل الخوض في هاته المسألة الجوهرية، يجب أن نستعيد بذاكرتنا الظروف التاريخية التي دفعت الزعيم الحبيب بورقيبة إلى التنصيص في الفصل الأول من الدستور التونسي على أن الدين الإسلامي هو دين الدولة التونسية، والعربية لغتها إلى جانب أن نظامها أصبح جمهوريا

وهنا يكون من المؤكد أيضا استرجاع حدّةِ المعارضة التي سبق أن لَقِيَهَا قبل ذلك، سَنِّ مجلة الأحوال الشخصية بما تضمنته من منعٍ لتعدد الزوجات وإعلاء مكانة المرأة والإجبار على تعليمها وإعطاءها الحق في إبداء رأيها في اختيار زوجها وبالتالي في مساواتها مع الرجل. ولقد كانت هذه المعارضة نابعة من شيوخ الفكر الديني المحافظ آنذاك. وانطلاقا من هذا المُعطى، يُمكننا أن نَفهم السبب الأصلي والحقيقي الذي دفع هذا الرجل حادّ الذكاء، الحَداثي، إبن عصره والمُتشبِّع بقيم عصر الأنوار، إلى التنصيص على هذا الفصل، دون الذهاب مباشرة إلى إعلانها دولة مَدنِية تماما. وقد مكّنه هذا التصرف الذكي والحكيم من إمتصاص موجة الغضب العالية في حينه، إضافة إلى الغضب السابق وتحقيق الإجماع والطمأنينة لدى هؤلاء الشيوخ بما كان لهم من تأثير على شرائح الشعب الواسعة، يٌنافس التأييد والإعجاب الذي يحظى بهما الزعيم لدى الشعب التونسي

فهل ما زالت نفس الظروف المشار إليها قائمة الآن، ومانعة من حذف ما تضمنه الفصل الأول من الدستور من تنصيص على أن الإسلام دين الدولة؟ أم أن تطور الظروف الثقافية والإجتماعية والقانونية في تونس والإنفتاح الذي أصبح يعيشه العالم منذ عقود، بقوانين وإتفاقات ثنائية ومتعددة الأطراف وأممية، ترتكز الدول المعنية بها والمشاركة فيها والمنضوية في إطار منظماتها، على دساتير تٌقر بمدنيتها بقطع النظر على ديانات مواطنيها. ومن هنا نصل إلى فتح باب ضَلَّ مغلقا لزمن طويل وحان الوقت، ومنذ مدة لفتحه، ألا وهو باب المُواطنة

فمِن دون التنصيص في الدستور على مدنية الدولة بشكل أصلي ومتفرد وغير مُلتبَس، يبقى المجال مفتوحا لغير المقتنعين بمدنية الدولة، والهادفين إلى إرساء دولة دينية كي يواصلوا مناوراتهم من أجل تفتيت أركان الدولة الحديثة، وإعاقة عبورها إلى دولة مدنية كاملة الأركان والأوصاف، وجرِّها في المقابل إلى أن تكون دولة دينية. ولعلَّ الحصان الرابح الذي يروضونه لإيصالهم إلى ذلك الهدف، هو الحجر على عقول المواطنين لتيسير التحكم فيها حتى يكون أصحابها رعايا لا مواطنين، : يُؤتمَرون بالمعروف ويُنهَون عن المُنكر

ويبقى العنصر الضروري والأساسي كركيزة للدولة المدنية هو القانون الذي يتحتَّمُ إعلاءه صراحة، فَيصَلاً ومرجعًا في تنظيم علاقات المواطنين بعضهم ببعض في الظروف العادية وعند النزاعات، وكذلك لضبط العلاقات بينهم وبين الدولة بمختلف مؤسساتها

غير إن إزالة التنصيص على إسلامية الدولة من الدستور، والإعلاء من قيمة وشأن القانون والإجماع على أن المواطنة هي مُقوِّم أساسي من مقومات الدولة المدنية، هي عناصر واجبة وغير كافية للاطمئنان إلى فهم وقبول العبور من دولة مُلتَبِسَة الهوية، بين دينية ومدنية، إلى دولة مدنية واضحة المعالم، لا بدَّ من امتلاك الأدوات والقدرة من حيث الكفاءات، على إقناع المواطنين والمواطنات، مهما كانت ديانتهم، ودرجة إيمانهم وإلتزامهم أو عدم تدينهم بأنهم محميون بالقانون، بعد أن تمَّ تخليصهم من هيمنة مَن يلتحفون بالدين لغايات شخصية أو سياسية، فيستملون بعضهم، ويُكفّرون بعضهم الآخر، بأن يُصبحوا أحرارا في تفكيرهم وفي ضمائرهم وفي مُعتقداتهم، بحماية القانون لهم، مع إحترام غيرهم من المواطنين فيما يعتقدونه ويمارسونه، طالما أنهم لا يُخالفون القانون ولا يتسبَّبُون في ضرر لغيرهم. وهذه من أوكد عناصر إزالة أسباب الشحن والتفرقة بين المواطنين لأسباب ظاهرها ديني، وهي بعيدة كل البعد عن الدين، وباطنها سياسي يخدم أهدافا تُبقِي على تَخلف الأفراد والجماعات والشعب بأسره، في نهاية المطاف

ومن هنا نفهم الضوضاء التي بدأت تظهر علاماتها هذه الأيام، تعليقا على الخبر الذي تحدَّث عن احتمالية تعديل الفصل الأول من الدستور. وهو الفصل الي اعتمدته حركة النهضة ومُختلف التنظيمات والمنظمات الدينية المتحالفة معها والمرتبطة بها، أساسا في حملتها منذ 2011، وبلغ ذروته عند مناقشة النسخة الأولى من الدستور الذي أعدَّته، من أجل إضافة فصل ينص على أن الشريعة هي مَرجع الحُكم للدولة

لكن ضغط المجتمع المدني، بالتزامن مع الهزات التي مرَّ بها المجتمع التونسي عموما، بفعل الاغتيالين الشنيعين اللذين ذهبا بحياة إثنين من أنقى المناضلين الوطنيين الشهيدين شكري بالعيد، في مطلع 2013 ومحمد البراهمي، يوم الاحتفال بعيد الجمهورية من نفس العام، مما أنضج موجة مقاومة المدِّ الرجعي المتطرف بما تبلور في شكل اعتصام قوي أطلق عليه « إعتصام الرحيل » قبالة المجلس التأسيسي، وقد كان ذلك مع ما قامت به جبهة الإنقاذ ورباعي الحوار من جهود لفتح قنوات الحوار مع مختلف الأطراف والوصول إلى إتفاق على إرساء حكومة مُؤقتة تحضر لإنتخابات رئاسية وتشريعية، تُدشِّن لمرحلة جديدة، وهو العنصر الذي كان له تأثير كبير في التخلي عن النسخة الأولى من الدستور، والوصول الى نسخة جديدة، مَبنية على توافقات تمّت المصادقة عليها في 27 جانفي 2014

وبذلك أُعتقد أن تونس قد نجت من خطر إحتراب داخلي وحرب أهلية، والبداية مع مرحلة جديدة في دولة حديثة، ولكن قد خاب ضن المتفائلين بعد انتخابات 2014، بما أقدم عليه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وحزبه نداء تونس من توافق مع حركة النهضة التي برغم ما أظهرته من التزام بقواعد اللعبة الجديدة، فقد استأنفت العمل سريعا وبأكثر تستر مُمكنا، المُضي في توفير عناصر أخونة الدولة برمتها، بتمكين عناصرها وأتباعها ومناصريها من مفاصل الدولة جميعها. وهذا ما جعل حاملي لواء الدولة الحديثة المدنية، يتفطنون إلى أن بقاء الفصل الأول من الدستور على شاكلته القديمة إنما رضيت به حركة النهضة ووافقت عليه، حتى يكون لها مرجعا في السعي إلى السير بالدولة إلى طابع ديني، يُتوج في يوم من الأيام بإعلان الخلافة. وما للحملة التي شنّتها، بفصائلها المختلفة، وصولا إلى أيمة المساجد، على تقرير لجنة المساواة في الحقوق بين المرأة والرجل في الحقوق، بما فيها المساواة في الإرث، في 2018، لدليل على ما قلته في هذا السياق، وهو ما دفع بالرئيس الراحل الباجي قائد السبسي نفسه بالإقرار في آخر فترة حكمه، قبل وفاته، في حديث خصَّ به قناة تلفزيونية خاصة، بأنه قد عجز في جعل حركة النهضة تتبنى، قلبا وقالبا، مبدأ مدنية الدولة، برغم تظاهرها بذلك. الأمر الذي دفعه إلى قطع الحوار معها وبدء مرحلة جفاء مُعلن، كانت سِمته الأبرز قبوله لجنة الدفاع عن الشهيدين بالعيد والبراهمي وإعلانه، في جلسة لمجلس الأمن القومي، أنه قد دعى إلى متابعة هذا الملف، والعمل على توفير كل الضمانات القانونية للفصل فيه، فتُوفي الرجل قبل أن يتم ذلك

إذًا، ولختم هذا المقال، أقول بتلخيص شديد لا نجاة لهذه الدولة ولهذا الشعب إن لم يتم الإعلان بوضوح كاملٍ عن مدنية الدولة التونسية وعن إعلاء القانون والمواطنة، ركيزتين أساسيتين فيها

بقلم خديجة توفيق معلَّى