بَوْلُ البعير » لا يُداوي الكورونا »

سؤال غريب عن مجتمعنا بدأ يُطرح هذه الأيام في بعض الأوساط حول ما إذا كان اقتناء جرعة من اللقاح المُنتظر ضد وباء الكورونا حلالا أم حراما، إذا كان مُخترعُه كافرا. وعبارة « كافر » تُفيد عند الإسلاميين غيرَ المسلم، حتى إن كان مؤمنا بالله

قد يكون من المفيد تذكير هؤلاء أن آخر اختراع طبي قام به مسلمٌ يعود إلى عدة قرون، وأن الأدوية التي يستعملونها منذ أن وُلدوا هي من صنع الكفار، وأن كل الآلات التي يستعملونها يوميّا مثل آلة الطبخ وآلة الغسيل والساعة اليدوية والهاتف والسيارة… كلها من صنع الكفار. كما يبدو أنه من الضروري تذكيرهم بأن بول البعير لم ينفع ضد أي مرض

المشكل لا يكمن في وجود فئة من المسلمين سخيفة ومحدودة الذكاء إلى هذا الحد على سطح كوكبنا. بل يكمن في تواجدها في بلادنا وفي عصرنا هذا، بعد قرابة القرن من نشر فكر الطاهر الحداد والحبيب بورقيبة وبعد ستين سنة من اعتماد برامج محمود المسعدي التنويرية في مختلف مستويات التعليم

العودة إلى غلق الأذهان لدى بعض التونسيين، ونأمل أن يكونوا قليلي العدد، جاءت نتيجة لسياسة هدّامة جديدة دأبت خلال السنوات الأخيرة على نشر الفكر المُتزمّت الذي يعتمد بالأساس على

أولا : منع التفكير في كل ما يتّصل بالدين، حتى أننا أصبحنا نشاهد أناسا يُفترض أن يكونوا مُثقّفين بالنظر إلى الشهادات العليا الحاصلين عليها، ولكنهم يرفضون الخوض في أي مسألة دينية، مُتمسّكين بمفاهيم أجدادهم ورافضين لأي محاولة لتحديثها

ثانيا : ربط الدين بكل مجالات الحياة، بما فيها السياسة والعلوم والثقافة. فكانت النتيجة أن يسمح أحد الطلبة لنفسه تقديم أطروحة دكتوراه يزعم فيها أن الأرض مُسطّحة، وأن يسمح رئيس بلدية لنفسه إخراج فرع لرابطة حقوق الإنسان من مقرّه ليُهديه إلى جمعية قرآنية

ثالثا : تقسيم مجتمعنا إلى « مسلمين »، وهم المُتطرفون الظلاميّون، وإلى « كفار »، وهم المسلمون التحديثيّون. هذا التكفير ولّد العنف والإرهاب. والإرهاب أدخل الرعب بين الناس لدرجة أن من يُحكّم عقله ويجتهد في شؤون الدين والدنيا أصبح يخشى الإفصاح عن أفكاره خوفا على حياته، مثل ما كنّا حذرين عند الإفصاح عن آرائنا زمن الدكتاتورية، بل وأكثر

الاجتهاد عند هؤلاء ينحصر إذن في البحث عن مزيد الانغلاق، على أن إعمال العقل يجب أن يكون في اتّجاه التباري في البحث عن أقوم الطرق المُؤدية إلى القرون الماضية البعيدة، تلك القرون التي كان فيها « العلماء » لا يفقهون من المعارف ربع ما يفقهه ابن الست سنوات في عصرنا هذا. وللتدليل على ذلك نجدهم يحشرون الدين، بل هم يحشرون الله، في كل مكان وفي كل مجال وفي كل لحظة، وهو حشر لا علاقة له بالمنطق في أغلب الأحيان. فتفقد العلاقة بالله كل ما تتطلبه من عمق وخشوع لتُصبح أشبه ما يكون بعلاقة الأجير الخنوع مع مُؤجّر مُتسلّط، ويُصبح العبد في هذه الحالة منافقا وصوليّا أكثر من كونه مؤمنا مُقتنعا، قدريّا انهزاميّا أكثر من كونه مُفكّرا وخلّاقا

وهنا تتدخّل المصيبة الكبرى، مصيبة الحلال والحرام التي تصل أحيانا إلى حد الإلقاء بالأنفس إلى التهلكة اعتقادا منهم بأن ذلك « إرضاء لمشيئة الله ». فتجد أناسا يرفضون ارتداء الكمامة حتى لا يمنعوا الكورونا من هتك أجسامهم إذا أراد الله لها ذلك، ويعتبرون ارتداءها حراما. كما أن في العديد من الأدوية التي يقتنيها المريض، بقطع النظر عن دينه وعرقه، توجد مُكوّنات تحتوي أحيانا على نسبة من الكحول، أو حتى في بعض الأحيان على ألياف عضلية مُستخرجة من جسم الخنزير، فيها شفاء لبعض الأمراض. فعوض أن يحمي المريض جسمه بذلك الدواء حتى يُشفى من مرضه، نجده يمتنع عنها بسبب ما تحتويه من موادّ مُحرّمة. وهنا يفقد التحريم كل معانيه ومقاصده

فالمُحرّم هو منطقيا ما يضرّ بالنفس أو بالآخر. لكن العقل الإسلاموي، الذي أخذ إجازة طويلة المدى لينعم في شقاوة جهله، يُخيّر الخوض في مسألة الحلال والحرام بدل التفكير في الصالح والمُضرّ، والخوض في تصنيف البشر بين مسلمين وكفّار بشكل سطحي مقيت بدل تصنيفهم بين من ينفع الناس ومن يعمل على حجز أكبر عدد من الجواري في الجنة. ولا غرابة في أن ينتهي بهم هذا التفكير، أو لنقل عدم التفكير، إلى الاقتداء بأجداد الأجداد والالتجاء إلى بول البعير للتداوي من الكورونا وغيرها من الأمراض الفتّاكة

منير الشرفي