بعضهم أكل من كل الموائد… لِمَ يصرّون على مغالطة الرئيس ؟

ما تزال تلك العبارة التي أطلقها رئيس الجمهورية الأسبق زين العابدين بن علي تحتفظ بوقعها في آذان وعقول كثير من التونسيين وحتى غير التونسيين حين قال «غلطوني» في إشارة إلى حاشيته التي قدّمت له على ما يبدو صورة وردية عن الأوضاع في البلاد وأوهمته بأنه القائد الفذ الذي يقود «الثورة الهادئة» ويعبر بتونس نحو الغد وأنه خيار المستقبل

والحقيقة أن مغالطة الحاشية ودور المحيطين بالحاكم ليس أمرا جديدا مستحدثا أو مستوردا وهو فوق كل ذلك ليس حكرا على التجربة التونسية وقد عرفنا مع جميع الرؤساء هذه الظاهرة، ويحتفظ التاريخ البشري القديم والحديث والمعاصر بضروب كثيرة من الأمثلة التي تبيّن حجم الجرم الذي اقترفته «الحاشية» في حق الحاكم والأهم من ذلك في حق البلاد والعباد

هذه الأيام، وتونس تعيش على وقع حراك سياسي واجتماعي كبير مفتوح على عديد السيناريوهات، تُطرح عديد الأسئلة الحارقة صراحة حول المقاربة الاتصالية لرئاسة الجمهورية والمضامين التي يريد ساكن قرطاج أن يبلغها لعموم التونسيين وللعالم خصوصا وأن «المتطوعين» للحديث عنه وباسمه بصدد تجاوز الكثير من الخطوط الحمر وبعضهم في تقديرنا بصدد مغالطته كي لا نقول توريطه والإساءة إليه. صحيح أن رئيس الجمهورية قيس سعيد أوضح في أكثر من مناسبة أنه «مستقل» وأنه غير متحزّب ولا علاقة له بالأحزاب وليس أدلّ على ذلك من صمته وتفضيله حتى مجرد تحية الأحزاب التي دعمته في مشروعه السياسي وتكبّدت مؤخرا عناء الحملة الاستفتائية وهو أمر يتكرر للمرة الثانية حيث سبق أن اجتنب شكر الأحزاب التي دعمته في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية عام 2019

هذه الأيام، اجتهد كثيرون في تفسير مشروع الرئيس والغريب أن الكثير من هؤلاء الكثر لم يكونوا في الحملة التفسيرية للرئيس قبل وصوله إلى قصر قرطاج، والأغرب أن فيهم من أكل من موائد كثيرة من قبل كما يقال. وللتدليل على ضعف «الحجج» التي يستعملها هؤلاء الأنصار الجدد القدامى للرئيس المقيم في قصر قرطاج، لا تهم الأسماء بقدر ما تعنينا تفاصيل هذه الحجج التي يدرك أصحابها ربما أكثر منا أنها واهية

إن دفاع شخص مثلا عن رئيس الجمهورية وعمّا يعتبره مقاربة اجتماعية لسيادته، سمحت بترويج توظيف عاطل عن العمل من أصحاب الشهائد الذين طالت بطالتهم واليا على واحدة من المدن التونسية، كنصر مبين على البطالة والاهتمام بهذه الفئة المظلومة من المجتمع التي تضم زهاء مليون عاطل عن العمل ربعهم من أصحاب الشهائد

ليس ذلك فحسب، وقع بعض هؤلاء الأنصار في تناقضات رهيبة عندما شيطنوا الأحزاب وخوّنوا السياسيين ظنا منهم أن الرئيس لا يريد الأحزاب والمتحزبين وأن عهد هذه الوسائط التقليدية انتهى فإذا بالأحزاب نفسها تضفي الشرعية التي بحث عنها قيس سعيد لتمرير دستوره ضمن مشروعه السياسي وخارطة طريقه سواء كانت الأحزاب مؤيدة أو معارضة له وستستمر هذه المقاربة في أفق الانتخابات التشريعية المزمع تنظيمها نهاية السنة بقطع النظر عن موقف هؤلاء الأنصار

وحتى في علاقة بالمجتمع المدني، لم يتردّد كثيرون من «الأنصار»، وخصوصا في الفضاء الافتراضي، في الإساءة لمنظماتنا وجمعياتنا واتحاداتنا المهنية لمجرد أنها عبرت عن احترازها وتحفظها المشروع في تقديرنا بحكم وظيفتها ومرجعيتها والحال أن المجتمع المدني كان وما يزال الرئة التي تتنفس بها تونس بكل موضوعية وهو ما توصلت إليه أغلب الدراسات الاجتماعية والتاريخية والسياسية، والطريف أن هناك من جادت قريحته باقتراح الوساطة بين هذه الوسائط والرئيس وكأن الرئيس تعوزه القدرة والحجة والوظيفة للقيام بذلك 

ولعل من بين المطبات التي وضعها بعض «الأنصار» للرئيس هو المزايدة عليه وعلى القوى المدنية والسياسية في الموقف من الإدارة الأمريكية بعد التصريحات الأخيرة للخارجية الأمريكية والسفير الأمريكي المعيّن ببلادنا وقد تصل «التخميرة» حدود إحراج ساكن قرطاج الذي يعلم القاصي والداني أن «العلاقات الاستراتيجية» بين تونس وواشنطن والمصالح الأمريكية بالأساس أكبر من أن تحكمها ردة فعل استعراضي في الشارع

لقد فوجئنا هذه الأيام بانخراط أحد ضيوف تونس ممن واكبوا الاستحقاق الانتخابي الأخير في الحملة التفسيرية، وفي الوقت الذي حجبت فيه رئاسة الجمهورية خبر اللقاء المطول بين عبد الباري عطوان وبين الرئيس قيس سعيد نشر الضيف شريط فيديو تحدث فيه عن فحوى اللقاء ونسب لرئيسنا ما يستوجب الوضوح والتوضيح

من حق الضيف وهو إعلامي مخضرم أن يشيد بمضيّفه لكن المجالس بالأمانات كما يقال ولا نخال أن الرئيس قيس سعيد طلب منه مديحا أو ترويجا أو تفسيرا أو ردا على واجب الضيافة الذي هو من شيمنا العربية والإسلامية أو كان يتصور وهو مدرّس القانون أن ينقل عنه حكاية راش جاءه إلى القصر من أجل رشوته فهذه واقعة لها انعكاساتها القانونية

إن أكثر ما يفسد الحكم هو إلى جانب غياب المشروع الوطني المناسب وجود ما وصفه وتحدث عنه المؤرخون وعلماء الاجتماع بشأن أسباب زوال الحكم وللحاشية في هذا السياق نصيب الأسد

بقلم : مراد علالة