اليسار و قضية محاكمة الطاهر الحداد في 1930

لئن كان الثعالبي سنة 1904 محسوبا في صف الموالين لفرنسا وحتى الموظفين في خدمة غاياتها التوسّعية وحظي بحسن ظنّ النخبة السّياسية الفرنسية في تونس وتمّت مقاضاته في ظرفيّة تاريخيّة لم تتبلور فيها بعد التناقضات بين الحضور الفرنسي والحركة الوطنيّة فإنّ الطاهر الحدّاد على عكس ذلك كان سنة 1930 وراءه عشر سنوات من النضال الإجتماعي والوطني ضدّ السّياسة الإستعمارية بالبلاد منذ انخراطه في الحزب الحرّ الدّستوري التونسي (1920) ومشاركته محمّد علي الحامي في تجربته لبعث جامعة عموم العملة التونسية (1924-1925) واضطهد من أجل ذلك. لكن لئن عرف كمعاد للإستعمار وثائر ضدّ نتائج سياسته على المستوى السّياسي و الإجتماعي والثقافي والإقتصادي فإنّ الحدّاد لم يكن هو أيضا رافضا للمدنيّة الغربيّة برمّتها بل أنّ مشروعه في النهوض بالبلاد يستلهم أسس التقدّم من تجربة الدّول الغربيّة والتي يراها الحدّاد في العلم والعمل والتنظيم وقوّة رأس المال . غير أنّ سنة 1930 ليست سنة 1904 إذ بلغت التناقضات بين المجتمع الأهلي التونسي والحضور الإستعماري مرحلة من التقدّم ونضجت أكثر القوى الوطنيّة وكانت على أبواب تحوّل كبير سوف تعرفه بداية الثلاثينات

لذا سوف تكون ردود فعل قوى اليسار الفرنسي تجاه قضيّة الحدّاد في اعتبار لتلك المعطيّات والمستجدّات

وبالفعل رغم أنّ القوى اليسارية الفرنسية قد بلغت مستوى من التهيكل والإنغراس سنة 1930 إذ كان على المستوى النقابي (نقابات الكنفدرالية العامّة للشغل…) أو على المستوى السّياسي (فدراليّة الحزب الرّادكالي، فدراليّة الحزب الإشتراكي، فرع الأمميّة الشيوعية بتونس…) أو الإجتماعي (رابطة الدّفاع عن حقوق الإنسان والمواطن، رابطة التعليم …) فإنّ قضيّة الحدّاد لم تحظ بالإهتمام إلاّ من قبل الإشتراكيّين. بينما غابت المواقف المؤيّدة من الرّادكاليين مثلا هؤلاء الذين ساندوا الثعالبي بحزم هل لأنّ قضيّة الحدّاد كان يراها التيّار الرّاديكالي كما تراها الصّحف اليمينيّة التي أهملت الموضوع هي أيضا قضيّة داخليّة تهمّ الأهالي المسلمين أو لوعيهم بأنّ الخطاب الرّادكالي المعادي للدّين ولرجاله إن كانوا مسلمين أو مسيحيّين لا يخدم مصلحة الوجود الفرنسي بتونس ويفقد فرنسا حليفا موضوعيّا لوجودها ؟ نعتقد أنّ ذاك السّكوت يجد تفسيره في المبرّرين معا. أمّا إهمال الشيوعيين لمسألة الحدّاد ورغم ما قام حولها من جدال في الصّحف التونسية وفي الرّأي العام هذا إذا استثنينا حضور بعض المناضلين الشيوعيين في حفل تكريم الحدّاد يعود في تقديرنا إلى أنّ شعبة الشيوعيين كانت آنذاك في حالة من الوهن بعدما منعت من الوجود القانوني منذ ماي 1922 وما تلى ذلك من اضطهاد ومحاكمات لمناضليها ومنع لمنشوراتها ولم تعرف انتعاشة إلاّ مع بداية الثلاثينات

وخلافا لبقيّة التيّارات السّياسية الفرنسيّة وحتى القوى الوطنيّة كان موقف الإشتراكيّين داعما للحدّاد في محنته رغم الخصومة التي قامت بين الحدّاد ورفـــاقه من جـــامعة عموم العملة (1924-1925) مع الإشتراكيّين الرّافضين زمنذاك استقلاليّة العمّال الأهليّين واتهامهم بتقسيم وحدة الطّبقة العاملة والتعصّب والشوفينية ونال الحدّاد شخصيّا من زعيم الإشتراكيين آنذاك جواشيم ديرال نقدا لاذعا متهما إيّاه بالتعصّب والتحجّر الفكري ورغم ذلك الماضي القريب انبرى الإشتراكيون وخاصّة بقلم زعيمهم الدّكتور كوهان حضريّة يدافعون عن الحدّاد معتبرين محنته وتكفيره والمطالبة بمنع نشر كتابه هو بمثابة ممارسات « محاكم التفتيش » و « تذكّر بالعصور الوسطى » عصور اضطهاد الكنيسة لمخالفيها وكتب كوهان حضريّة في « تنيس سوسياليست » : « حتى وإن وافقنا على رأي شيخ الإسلام واعتبرنا كتاب الحدّاد قد خرق المقدّسات ويدخل في باب الكفر فإني أعلن باسم حريّة التفكير : أنّ الطاهر الحدّاد له الحق المطلق أن تكون له أفكار تخرق المقدّسات وحتى أن تكون إلحادية. أقول إنه من الظلم أن يضرب الحدّاد في عرضه وفي عائلته وفي مصدر رزقه لأنه عبّر علنا عن أفكار تخصّه » . وكان موقف الزعيم الإشتراكي الآخر « أندري ديران انقليفيال »  أكثر عمقا وصرامة في مناصرة الحدّاد مذكّرا في مقال له بالجريدة الإشتراكيّة بتاريخ 29 نوفمبر 1930 أنّ الحدّاد لم يفعل أكثر من أنه أوّل القرآن حسب اجتهاده شأنه شأن المصريّين أو الأتراك فسلمته الإدارة الفرنسية « لعدالة محاكم التفتيش في الجامع الأكبر، إنها لفضيحة ! ». مضيفا : « لكن ليست فضيحة في أن يتأثر الباي وأن تطالب حاشيته بتسليط العقاب على الحدّاد وتحكم محكمة خاصّة عليه بالطرد من حضيرة المسلمين لأنّ نظاما قائم على الدّين سوف يؤدّي حتما لهذه النتائج من التعصّب والتعسّف ان كان الدّين آت من مكّة أو من رومة أو جيناف أو من القدس ». وينتقد الإشترراكيون بشدّة موقف المثقفين التونسيين من الحدّاد ومن حريّة التعبير، موقفهم المندّد به أو الصّامت على اضطهاده ويسائلهم ديران انقليفيال في المقال ذاته : « أريد أن أوجّه عناية أصدقائي التونسيين للخطر الذي يحدق بهم برضاهم الطائش ذاك على ذاك الظلم الذي كان ضحيّته أحدا منهم. لا يهم جوهر الجدل الدّائر ولا تهمّ أطروحة الحدّاد فإنّ الأمر الخطير هنا هو أنّ تونسيّا لم يتمكّن من تبليغ أفكاره بأمانة حول قضايا اجتماعية مختلفة دون أن يلقى أشدّ العقاب. وأقول لأصدقائي التونسيين الذين جرحت شعورهم الدّيني أطروحة الحدّاد ونادى بعضهم بقتله والآخرين بصلبه إنهم حكموا آنذاك على حريّتهم في التفكير وفي التعبير بالإعدام(…) إنكم بقتل حريّة الفكر وحريّة الكتابة عند الحدّاد تقتلون حريّة الجميع وعن قريب يتبيّن لكم ذلك بعد أن يكون قد فات الأوان » . وينتقد الإشتراكيون الصّحف الفرنسية في سكوتها المريب عن اضطهاد الحدّاد شأن صحيفتي « لاديباش تينزيان » أو « لو بتي متان » أو اصطفاف إحداها وهي « لا تينزي فرانساز » إلى جانب المتزمّتين من الشيوخ المسلمين وإعابتها على كوهان حضريّة « قلة أدبه » مع شيوخ الإسلام.
وتوجّه نقد الإشتراكيين بصفة حادّة إلى سلط الحماية التي باركت مظلمة الحدّاد وأمضى مسؤولون منها على قرار العدليّة التونسية بعد إستشارة إدارة الدّاخلية في عزل الحدّاد من خطته كعدل اشهاد « وسقوط عدالته » وتلحيده وإخراجه من حضيرة المؤمنين معتبرين ذلك « خيانة للمبادئ التي تقوم عليها الجمهورية الفرنسية اللائكية والدّيمقراطية » ويكتب ديران انقليفيال : إني لمغتاظ كيف يعقل أنّ خمسا وعشرين سنة (منذ محاكمة الثعالبي) من الحماية لم تفلح في تلطيف صرامة نظام سياسي قام أصلا لتحضير حكم المماليك ويبدو أنه على عكس ذلك قد تبنى أساليبه

كما أهاب الإشتراكيون بالأحرار للوقوف إلى جانب الحدّاد ووجّهوا نداء إلى « رابطة الدّفاع عن حقوق الإنسان والمواطن » للتدخل لدى السّلط الفرنسية والمقيم العام بتونس للدّفاع عن الحدّاد مذكّرين تلك المنظمة أنّ أوّل مبدإ ترفعه هو حريّة الفكر

وكان لموقف الإشتراكيين هذا أثر كبير على الحدّاد الذي أصيب بخيبة عميقة في بني قومه وتوجّه لزعيم الإشتراكيين يشكره على دعمه له ويهديه نسخة من كتابه : امرأتنا في الشريعة والمجتمع
.
كيف نفهم هذا الموقف من الإشتراكيين ؟ رغم اللهجة الأبويّة والإستعلائية أحيانا في ردود فعل قيادي الفدرالية الإشتراكية وفي سجالهم مع صحف التونسيين المناهضين للحدّاد نعتقد أنهم بموقفهم ذلك كانوا أوفياء لقيم تقوم عليها العقيدة الإشتراكية من إعلاء للعقل ولحريّة التفكير والمعتقد وعداء للتزمّت الدّيني وإيمان بقيم العدل والمساواة ووقوفهم إلى صف مثقف مضطهد سنة 1930 لم يمنعهم ثانيا من فتح أعمدة جريدتهم في باب « حق اللجوء » للدّستوريّين الجدد سنة 1934 عندما اضطهدهم المقيم العام بيروطون- باسم الدّفاع عن حريّة التعبير-، ممّا كلفهم منع صحيفتهم لحوالي سنتين

خــــــاتمة

إنّ موقف شيوخ القرار في الزيتونة من مسألة حريّة الفكر لم يتغيّر طيلة الفترة المدروسة وحتى بعدها لأنهم بقوا سجيني نظام معرفي وقيمي تقليدي لم يتمثل قيم الحداثة القائمة على العقلانية وحريّة الفرد وتحييد الدّين ولم يستوعبوا منطق الزمن الحديث الذي نزعت فيه القدسيّة عن العالم فأضحوا جزءا من الماضي ونشازا مقارنة مع ما كان ينادي به (ولا زال) دعاة الإشتراكية من حريّة العقل وخرق المحرّمات وإعلاء صوت الإنسان

الأستاذ عميره عليّه الصغيّر