النهضة بوجهين مكشوفين..وبخطابين متناقضين

* التطورات السياسية والقضائية الأخيرة تفتح الباب أمام متغيرات ومسارات قضائية فارقة في قادم الأيام تنذر بالسيء للبعض وبالخير لتونس ولطيف واسع من التونسيين وهو ما يحمّل القضاة مسؤولية الرد على الجميع والبرهنة على كونهم منتصرون للحقيقة
* إن إقدام الشيخ على توقيع « نصين » في ظرف وجيز دليل على أنه لم يعد قادرا على مسك مقود التنظيم حتى في غياب خصومه علاوة على جنوحه المعهود لإظهار الوجه الوديع لا الصدامي وفي نفس الوقت رمي الأبناء في المحرقة كما حصل تسعينات القرن الماضي

*******

في غضون يوم ونيف، قدّمت قيادة النهضة موقفين وقراءتين للوضع العام بالبلاد أقل ما يقال فيهما أنهما متناقضين ومتنافرين، الأول صدر في شكل مقال لراشد الغنوشي بأسبوعية «الرأي العام» القريبة أو المحسوبة على الحركة فيما جاء الثاني في بيان المكتب التنفيذي الموسّع للنهضة الملتئم مساء الخميس 18 نوفمبر 2021، بتوقيع الرئيس الغنوشي نفسه

قد يذهب البعض إلى أن التناقض والاختلاف هو سنّة الله في جماعات الإسلام السياسي ومن بينها تنظيم النهضة، فعادة ما يتميز الخطاب لدى هؤلاء «المجاهدين» بالازدواجية وبتعدّد القراءات والمواقف والتصويبات والإعادة إلى السياق، غير أنّنا هذه المرّة وفي مراكمة للمواقف المعلنة خلال الفترة الماضية نذهب إلى التأكيد بأن من بقي في النهضة بعد استقالة مجموعة هامة منها ـ وهو أمر يظل دائما موضع تحفظ ـ يعيش حالة غير مسبوقة من الارتباك التي تؤكد ما ذهبنا إليه سابقا أيضا من أننا أصبحنا إزاء «نهضة» جديدة لا تمت لنهضة ما قبل 2021 بصلة ومن يدري قد يتطور الأمر إلى وجود «نهضات» متعددة

المسألة ليست هينة والاختلاف الذي يرقى إلى درجة التناقض في «النصين» يبرز لنا اليوم نهضة، أو بالأحرى قيادة نهضاوية مترنّحة فقدت البوصلة وضاق بها مجال المناورة وأصبحت أوراقها مكشوفة ووضع رئيسها تحديدا محل سؤال خطير

إن إقدام الشيخ على توقيع «النصّين» في ظرف وجيز دليل على أنه لم يعد قادرا على مسك مقود التنظيم وفرض رأيه حتى داخل المكتب التنفيذي الذي يغيب فيه خصومه المباشرون «العلنيون» علاوة على جنوحه المعهود للتنصل والهروب وإظهار الوجه الوديع لا الوجه الصدامي في نفس الوقت الذي يرمي فيه بأبناء النهضة إلى المحرقة كما فعل في تسعينات القرن الماضي

ولمن لم يطلع على النصين فتجدر الإشارة إلى كونهما حملا نفَسيْن متوازين لا يلتقيان

ففي مقال تحت عنوان «عن الثورة والديمقراطية والشعبوية… شهادة للتاريخ : كيف نقوّم حدث 25 جويلية وكيف نتعامل معه؟» قدم الغنوشي رئيس النهضة ورئيس البرلمان المعلّقة اختصاصاته اعترافا صريحا غير مسبوق بعدد من الأخطاء التي ارتكبها هو وحزبه خلال العقد الأخير في علاقة بإدارة الحكم وإبرام التحالفات الحكومية والحزبية. ليس ذلك فحسب «فرغ قلبو» وفاجأنا بالقول بأن القرارات التي اقدم عليها رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 25 جويلية 2021 «معبّرة عن إرادة شعبية صادقة متعطّشة إلى التغيير ضائقة ذرعا بالحكومة وحزامها» ويخلص الشيخ في النهاية إلى أن إجراءات الرئيس جاءت وكأنه يفتح قناة أكسيجين في أجواء مختنقة بالكوفيد، الأكسيجين الذي عجزت عن توفيره حكومة المشيشي للمختنقين، وهكذا عندما يتأخر عن الفعل الإنقاذي الواجب ممن يجب عليه القيام به، يغدو مشروعا بل واجبا على غيره

ويتدارك نسبيا بالتعبير عن الخشية من أن تكون القرارات : بداية حكم عسكري مقنّع على طريقة أمريكا اللاتينية أو سافر على الطريقة العربية الإفريقية

لقد جاءت اعترافات الغنوشي مدوية في تقديرنا، فليس من العسير على قيادة تنظيم عقائدي أصولي الاعتراف اليوم بأن النهضة مثلا دخلت الانتخابات في 2019 «دون رؤية واضحة للمستقبل» وتلاحقها حملات إعلامية حول علاقتها بما يسمى الجهاز السري والتسفير والعنف والثراء ومع ذلك يعلّق أحد أبرز أبناء التنظيم سمير ديلو بأن مواقف الشيخ الأخيرة : جاءت متأخرة وأغضبت الكثيرين

ما الذي تغير بين عشية وضحاها حتى نتحول من الإقرار بأن ما أتاه قيس سعيد «فعل إنقاذي» بل و«مشروع وواجب» إلى العصيان والاعتراض على كل شيء بما في ذلك إصدار قانون المالية التكميلي 2021 بمرسوم واعتبار ذلك غير دستوري؟ الأهم والأخطر والأدق من كل هذا تحميل سعيّد مسؤولية التحريض على القضاة ! هل أصبحت النهضة وقيادتها على وجه الخصوص حريصة على استقلال القضاء بخلاف غيرها من التونسيين وهل عرفت تونس تحت حكمها إعمالا كاملا للحقوق والحريات سياسية كانت أو اقتصادية واجتماعية؟

ليس في الأمر سرّ بعد التطورات السياسية والقضائية التي عرفها الأسبوع الجاري والتي تفتح الباب أمام متغيرات ومسارات قضائية فارقة في قادم الأيام تنذر بالسيئ للبعض وبالخير لتونس ولطيف واسع من التونسيين وهو ما يحمّل القضاة مسؤولية الرد على الجميع والبرهنة على كونهم منتصرون للحقيقة ولا شيء غير الحقيقة ويدحضون بالتالي كل اتهام وكيد طالهم جراء سلوكات فردية وشاذة

لقد أصدرت الدائرة الجنائية بمحكمة الاستئناف بسوسة يوم الثلاثاء الماضي حكمها في قضية الشهيد لطفي نقض رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحين بتطاوين وأحد مؤسسي نداء تونس، وقضت بالسجن لمدد تتراوح بين 16 عاما وعام واحد بحق 10 مدانين

وكما هو معلوم وبعيدا عن النبش في العلاقة المباشرة بين النهضة والجريمة يمكن القول أن الحركة، بالمفهوم السياسي والقيمي، تتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية عن مقتل لطفي نقض باعتبار حصول الجريمة زمن حكمها المباشر تماما مثل اغتيال الشهيدين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي وعديد من بواسل مؤسستينا الأمنية والعسكرية وكذلك المدنيين

ويظل السؤال اليوم هو حول المسؤولية الجزائية بما أن كثيرا من اللبس ومن التصريحات ومن اللقاءات المباشرة بين قيادات في النهضة و«المتهمين» وكذلك بعض المعطيات التي قدمتها هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي والموجودة كما قيل في محاضر الابحاث، وحتى التصريحات الأخيرة المدوية لأحد العاملين السابقين في سفارة تونس بسوريا، جميعها معطيات مربكة ومسبّبة للترنّح

ألم يقل النائب عن النهضة علي فارس في كلمته في المجلس الوطني التأسيسي ذات يوم ان على الحكومة تكريم من خرجوا ضد حزب نداء تونس في مدينة تطاوين والتي أدت الى مقتل ممثل الحزب لطفي نقض وأن من خرجوا ضد حزب نداء تونس هم شرفاء تطاوين ولا يجوز سجنهم؟

ألم تصدر النهضة يوم 17 نوفمبر2016 بيانا دعت فيه إلى ضرورة احترام الحكم القضائي الابتدائي الصادر في قضية المنسق العام لحركة نداء تونس في تطاوين وأكدت فيه أنه لا مصلحة لتونس في التشكيك فيه وانبرى قادة الصف الأول في تهنئة «المتهمين» في المباشر بعد التنصل مما سمي بروابط حماية الثورة؟

ما الذي تغير اليوم، ربما القليل تغيّر لكن الثابت الوحيد هو أن تونس يجب أن تتعافى وأن تظهر الحقيقة، ليس حقيقة من نفّذ من «الأدوات» الآدمية للأسف، وإنما من دبّر وخطّط وموّل وتستّر على كل أذى لحق بالبلاد والعباد وهو ليس بعسير عن قضاتنا ومحاميينا وإعلاميينا ونخبنا وقوانا السياسية والمدنية الوطنية المؤمنة دائما بأن تونس الجديدة ما تزال ممكنة

بقلم: مراد علالة