الفساد يعصف بآمال التونسيين

لم أشعر يوما بمقدار من الخوف على بلدي مثل ما شعرت به لحظة في غضون الأسبوع الماضي وأنا أستمع إلى حوار في إحدى الإذاعات مع السيد رئيس جمعية القضاة التونسيين. فقد استقر في ذهني ما أقدر أنه مستقر في أذهان عموم البشر أن القضاء هو السبيل المضمونة إلى العدل عندما تضيق أمام المرء سبل العدالة وعندما يقع ضحية ظلم الظالمين، مثلما استقر في الوعي الحديث أن القضاء العادل المستقل عن كل السلط والمحتكم إلى القانون وحده وإلى ضمير القاضي النزيه هو الضامن لاستقرار الدول ولنماء البلدان والعمران. أما في الحالة التي أشرت إليه فقد فهمت من ذلك الحوار ما يلي: قضاء مشمول بالفساد الذي ينخر جل مفاصل مؤسساتنا وقضاة فاسدون لا يتورعون عن الارتشاء والانخراط في التغطية على الفاسدين، وسلطة تنفيذية لا تتورع بدورها عن التدخل في القضاء ولا عن التغطية على القضاة المقدوح في نزاهتهم ولا عن تعطيل الإجراءات التي تسمح للهيئة القضائية ذات السلطة، مجلس القضاء العدلي، بالتحقيق معهم ومحاسبتهم بما يمكن أن يثبت عليهم من تهم، ولا عن إصدار مقررات قاضية بالرجوع في إحالة مجموعة من القضاة على مجلس التأديب بل إن الأمر وصل إلى حد المسارعة بإقالة وزير العدل السابق لمنعه من الإمضاء على قرارات الإحالة بحق القضاة المشمولين بالتتبعات ، والسلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل تفعل ذلك استجابة لضغوط أوقعتها عليها أحزاب ممثلة في السلطة التشريعية، فهل معنى هذا أننا إزاء منظومة متكاملة تتضافر فيها السلط الثلاث على تسهيل الإفلات من العقاب؟ وماذا بقي من دولتنا في هذه الحال؟ لسنا في موقع يسمح لنا بالاطلاع على خفايا الأمور وإنما المواطن التونسي البسيط مثلي عندما يسمع هذه الأخبار ويفهم منها ما يفيده ظاهر معناها لا يملك إلا أن يتساءل: ما الصحيح من هذا؟ وإذا كان ما فهمه صحيحا من سيوقف سيل الفساد الطاغي إذا كانت السلط الثلاث في موقع شبهة؟ من سيراقب من ومن سيحاسب من؟ هل انغلقت دائرة الفساد وأطبقت على دولتنا وعلى مؤسساتها؟ لقد أصبحت ملفات الفساد خبزا يوميا ينام التونسي ويصحو على أخباره ، ولكن أن يتعلق الفساد أو شبهات الفساد بأشخاص أو حتى بمجموعات أو مؤسسات خاصة غير أن يتعلق بالسلط التي تتمثل فيها الدولة ، ففي الحالة الأولى يظل أمل المواطن في أن تقوم أجهزة الدولة ومؤسساتها بدورها في التحقيق والمحاسبة وإيقاع العقاب قائما، أما في الحالة الثانية وعندما تصبح هذه السلط جميعها مشبوهة أو متورطة في التغطية على الفساد وفي تسهيل الإفلات من العقوبة فإن أخف النتائج هي اهتزاز ثقة المواطن بدولته

أتذكر خروج عدد من القضاة بعد أقل من شهر من قيام الثورة إلى الشارع رافعين شعار « القضاء على عصابة القضاء » وكان خروجهم مؤشرا على أمرين متناقضين : وجود فساد في صلب الهيئة القضائية ووجود إرادة من داخل هذه الهيئة نفسها لتصحيح المسار بوضع حد للفاسدين وتطهير القضاء منهم فماذا نجد بعد عشر سنوات من هذه التظاهرة؟ هل وضعت خطة للقضاء على ذلك الفساد؟ هل طبق من تلك الخطة إن وجدت ما يحقق تقدما في هذا المطلب؟ هل وضعت الإجراءات المناسبة والآليات الضرورية للتفعيل والتطبيق؟ لا يبدو أن الأمر كذلك بدليل تزايد ملفات الفساد وبدليل وجود من يعتبر من داخل الهيئة القضائية نفسها أن الفساد « لم يعد يقتصر على انحرافات فردية وإنما أصبح ظاهرة ممنهجة ساهمت في تفشيها عدة قوى »(المفكرة القانونية ليوم 15/11/2016) وهذا قبل خمس سنوات تقريبا من هذه المحظة التي انفجرت فيها ملفات تؤشر إلى أن الظاهرة بصدد التحول إلى منظومة شاملة تجاوزت السلطة القضائية إلى سائر السلط لم تفلح في الحد منها كل الجهود الفردية وكل الإجراءات الجزئية وكل الاقتراحات التي تقدم بها أفراد أو هيئات من داخل السلطة القضائية أو من خارجها، فلا نظام انتداب القضاة تمت مراجعته للتقليل من احتمالات تسرب عناصر قابلة للفساد، ولا نظام التكوين الأساسي بالمعهد العالي للقضاء تغير في الاتجاه الذي يسمح له بالتلاؤم مع التغيرات الحاصلة في القضاء وبتكريس مبادئ الاستقلالية وبضمان التقيد بالقانون وبأخلاقيات القضاء ونزاهة القاضي، ولا ظروف العمل تحسنت حتى تكون مناسبة للأداء المطلوب ولا تحسين ظروف القضاة بهدف تحصينهم من الانحرافات صمد في وجه الارتفاع المتزايد لمستوى المعيشة رغم الزيادات المتكررة في أجور القضاة. يضاف إلى كل ذلك ما ينفلت من حين لآخر من معطيات تؤكد تدخل السلطة التنفيذية والتدخل السياسي في القضاء

لم يبق أمامنا من أمل سوى في النزهاء من القضاة الذين يخوضون معركة متواصلة من أجل الحفاظ على استقلالية القضاء وتطهيره من الفاسدين والتصدي لكل الانحرافات الفردية وإيجاد الآليات المناسبة للمراقبة والمحاسبة، وفي بعض جمعيات المجتمع المدني التي تقوم بدور رقابي هامّ سمح بفضح ملفات متزايدة تتعلّق بالفساد ما كان المواطن بإمكانه أن يعرفها لولا هذا العمل الرقابي مما ساهم في تنمية وعي متزايد بخطورة هذا الملف وحركة ضغط متصاعدة مطالبة بفتحه جديا وبإصلاحه مما حدا برئيس الحكومة إلى التعهد بوضع كل الإمكانات الضرورية لمكافحة الفساد. إضافة إلى قيام البعض من نواب الشعب، وإن كانوا قلة، بدورهم الرقابي المنتظر منهم في هذا المجال. ويبقى انضمام تونس إلى الجهود الأممية من أجل مكافحة الفساد وإرساء معايير تعزيز استقلالية القضاء ونزاهة القضاة منفذا آخر من المنافذ الممكنة عسى أن ننقذ بلادنا من هذه الآفة التي تعصف بآمال التونسيين في دولة عادلة وفي قضاء مستقل ونزيه

بقلم زهية جويرو