الفخفاخ يَتَحَدَّى.. ويُنْشِدُ معزوفة الاستقرار

إن سألتم الله فاسألوه البخت… هذا القول المأثور ينطبق على الكثير من رموز مرحلة الانتقال الديمقراطي المتعثرة ببلادنا وخصوصا أولئك الذين رمت بهم الأقدار في أعلى المراتب بقطع النظر عن التاريخ والجغرافيا كما يقال، فمن لم يحتجّ مثلا ولم يوقّع عريضة قبل 2011 صار حاكما باسم الثورة بعدها، ومن فشل في الحكم أوفي الانتخابات ظل أو عاد الى السلطة وتشبث بتلابيبها وسقطت في الطريق مقولات الشرعية والنضالية والكفاءة والتكنوقراط وخصوصا : التجارب المقارنة

وجميل أن يعترف بعض هؤلاء أنه اكتشف لذة خدمة تونس بعد ملحمة 14 جانفي 2011 غير المكتملة، والأجمل إظهار النوايا الطيبة للاجتهاد في تحقيق الإنقاذ والإقلاع وحتى تحقيق أهداف الثورة، بيد أن النوايا الطيبة وحدها لا تكفي والتحديات القائمة لا تسمح بالتجريب والمغامرة صراحة لذلك لا مناص من إعادة النظر في الكثير من المسائل ومن طرائق العمل التي لن تفضي الى نتائج مختلفة بما أن المقدمات ليست جيدة

إن انطلاق عمل منظومة الحكم بعد انتخابات 2019 بشقيها الرئاسي والتشريعي كان متعثرا ويتذكر الجميع ما حصل في مجلس نواب الشعب في الأيام الاولى لتركيز هياكله أي رئاسته ولجانه بناء على توافقات وحسابات لم تفض الى ضمان مرور النسخة الأولى من الحكومة وهي مفارقة غريبة لأننا بنفس الكتل النيابية حصلنا على حكومة جديدة اعتبرتها النهضة حكومة وحدة وطنية مع ضرورة توسيعها فيما اعتبرها آخرون مثل حركة الشعب حكومة الرئيس والمحصلة سيان بما أن من وقع اصطفاؤه بوصفه «الأقدر» لم يكن سوى أحد جرحى الانتخابات بشقيها الرئاسي والتشريعي أيضا فإلياس الفخفاخ حل في المراتب الأخيرة في السباق نحو قرطاج ولم يظفر حزبه التكتل بأي مقعد في البرلمان وها هو يقفز رغم كل ذلك إلى رأس السلطة التنفيذية وفق دستورنا الجديد

كرة الثلج

الاطلالات الأولى لساكن القصبة الجديد وهو المُزكّى من ساكنها القديم، كانت مغرية اتصاليا فالرجل أجاد الحديث للتونسيين بلغتهم ونجحت مقاربته الواقعية والبراغماتية في كسب الثقة ومثّلت جائحة الكورونا ونجاح تونس بكل مكوناتها في الخروج منها بأخف الاضرار فرصة «بخت» نادرة ليؤسس عليها رئيس الحكومة برنامجه الذي لم نطالع منه سوى وثيقة التعاقد الحكومي التي لم توقّع بعد والانطلاق بالتالي في طريق الانجاز واستثمار حصاد المرحلة

وللأسف تطفو الى السطح ما صارت تعرف بقضية تضارب المصالح وملكية رئيس الحكومة لشركات وأسهم، وهو وإن كان حقا مشروعا ودليلا على النجاح الشخصي فإن ملابسات وتفاصيل حوّلت الرجل الى «متهم بريء الى أن تثبت إدانته» وحتى شركاؤه في الحكومة يقفون معه الآن في انتظار نتائج التحقيقات على أساس هذه القاعدة مع ترجيح فرضية نقاوة وسلامة ما فعله

في غضون ذلك، حضر الياس الفخفاخ في مجلس نواب الشعب قبل ايام وشكر حكومته على «الانتصار» في الحرب على الكورونا وأكد أنه بريء وأن إدانته «تبطى شوية» وبشّرهم وعموم التونسيين بالانقاذ وبداية الجديات

للأسف كرة الثلج استمرت في التضخم فازداد حرج الرجل وحرج وزرائه والكيانات السياسية الداعمة له خصوصا مع التصريحات المتواترة المألوفة لرئيس هيئة مكافحة الفساد والتي تصنع : البوز

إعلان مفاجئ

وفي غياب المنجز الواقعي الذي يغير الانطباع السلبي للمواطنين الى إيجابي، اضطر ساكن القصبة الى التعويل على الذات وعلى الاتصال السياسي وكان الاختيار ذكيا وموفقا بالاجابة عن اسئلة حوار صحفي مطوّل مع موقع نواة، موقع له مصداقية قبل 2011 وبعده وحائز فوق كل ذلك على جائزة نجيبة الحمروني المغاربية لأخلاقيات المهنة الصحفية لعام 2020 التي اسندتها اليه جمعية : يقظة من أجل الديمقراطية والدولة المدنية

في هذا الحوار كشف الياس الفخفاخ ما في جعبته، وسار على نهج سلفه يوسف الشاهد الذي فك الارتباط مع ساكن قرطاج وراهن على الاستقرار الحكومي واستمات في الدفاع عنه الى آخر رمق ووجد في حركة النهضة حينها خير سند

الوضع مختلف اليوم، لكن رئيس الحكومة الحالي اختار الدفاع عن نفسه بطريقة مشابهة وبشجاعة والحق يقال، وحين سئل عن التجاوزات الحاصلة في مواجهة المحتجين في تطاوين قال انه يعتذر باسم الدولة وذكرنا بانه ديمقراطي اجتماعي وأن حكومته بصدد العمل على صياغة خطط وبرامج حقيقية وواقعية لتنفيذها في آجال مضبوطة على حد تعبيره وللسنوات الخمس القادمة

وهنا بشّرنا مرة أخرى بإيقاف العمل بسياسة التداين الخارجي لما لها من تداعيات سلبية وخطيرة على السيادة الوطنية وتعهد بتعبئة الموارد الداخلية والتعويل على التداين الداخلي والتصدي للتهرّب الضريبي وانتقد أصحاب الرأي المطالب بإلغاء أو تعليق أو جدولة الديون علاوة على القول بعدم المساس بميزانية التنمية ودفع الاستثمار الخاص وتعزيز منظومة المبادرة الذاتية والتوجه نحو الاقتصاد التضامني الاجتماعي وإيلاء العناية للجهات وإنجاز المشاريع الجهوية مثلما جاء في الحوار

هروب الى الأمام

المهم في الحوار عنصران حسب رأينا، أولهما التوضيحات بخصوص الجدل المثار حول مسألة «تضارب المصالح» وهنا أكد أنه يحترم القانون وأنه تخلى عن أسهمه في شركاته قصد توضيح الأمور في إطار حسن النية والالتزام بالمصداقية وتأسيسا لثقافة الديمقراطية القائمة على أسس الشفافية والرقابة، وثانيهما الإعلان المفاجئ عن «نجاح ونجاعة الائتلاف الحكومي إلى حد اليوم» وهو نجاح لا يحتاج وفق رأيه سوى إلى تعزيز الثقة داخله أكثر من توسيعه وتعزيز روح الوحدة واللحمة التي تميّز بها عمله في فترة مجابهة كورونا وخلص الى أن المفروض اليوم استمرار هذه الحكومة الى حدود نهاية العهدة الانتخابية

أجل، إنه يتحدث عن نجاح الائتلاف الحكومي المكون بالاساس من حركة النهضة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب وبعض الأحزاب الصغيرة بقي لا ندري في أي مجال ,أي زمان تحقق النجاح وتحققت النجاعة وإلا بماذا نفسر الاحتجاجات الاجتماعية وغضب المنظمات الاجتماعية أجراء وأعرافا وتحذيرات الخبراء والمختصين من أننا مقدمون على ايام عجاف إذا لم تكن ردة الفعل على الأزمة متعددة الجوانب قوية وفاعلة؟

قد يكون هروبا الى الأمام، وقد يكون مفعول سحر هذا المقعد في القصبة الذي لم يخرج منه ساكن بالسهولة التي دخل بها، يدخل قائلا أنه «يتقبل كل الرؤى المطروحة» لكنه يتمسك في النهاية بضرورة معاضدة مجهود الائتلاف داخل الفريق الحكومي لخوض معارك الاصلاح والانجاز ومكافحة الفساد وهذا بطبيعة الحال لا يتم إلا من خلال الوصفة السحرية : الاستقرار في الحكم والقطع مع ظاهرة تغيير الحكومات لضمان تنفيذ مشروع إنقاذ الدولة والمرفق العام وضمان مستقبل الناشئة والكلام هذه المرة لإلياس الفخفاخ. ومثلما انتظرت هذه الناشئة بعد 2011 و2014 و2019 منقذا للدولة نأمل ألاّ يطول الانتظار في أفق 2024

بقلم مراد علالة