الدكتورة نائلة السليني تواصل فتح ملفّ ثروة الغنوشي : شهد شاهد من أهلها (1)

تتالت الأحداث هذه الأيام الثلاثة الأخيرة بشكل لافت في بلدنا.. وذلك نتيجة إلحاح المجتمع المدني عن مصادر ثروة الإخواني راشد الغنوشي..فإذا بالسؤال حارق.. وإذا بالغنوشي برم من كثرة السؤال.. وإذا ببيان الحركة ينزل بمثابة البيان العسكري الآمر الناهي والمهدّد.. وإذا بسدنة الشيخ يهجمون هجوم داحس على كلّ من سأل أو فكّر.. وإذا بالقياديين ينتظمون لينسجوا مشاريع أجوبة يبدو أنّها أقنعتهم وأقنعت مريديهم ولكنّها كانت قاصرة عن إشفاء غليل السائلين من خارج المعبد

سؤال بسيط ألقى به التونسيون، وهو سؤال خلّده التاريخ الإسلامي وقد ألحف به أحد المسلمين عمر بن الخطاب، فقال له « من أين لك هذا؟، ولم يغضب عمر على عادته.. ولم يضرب السائل بالدرّة.. وإنّما اكتفى بالجواب، لأنّه عليم بأنّ السائل ناطق بلسان الجماعة وأنّ جوابه سيكون إجابة موجّهة إلى جماعة المسلمين.. فأيّ كفر فيما سئل؟؟ وأيّ زيغ فيما ظنّه الناس؟؟؟

تجنّد القياديون ليجيبوا نيابة عن الغنوشي وليذكروا في البداية أنّ الثراء تأتّى له من بيع كتبه.. ومن يصدّق مثل هذا الزعم!!! فالكتب متروكة في مدارج المكتبات وسعيد من بيعت مؤلّفاته في معارض التخفيضات.. وعندما عجزوا عن إيقاف الألسن نزل تعليق يفيد بأنّ الرجل ينعم بالبذخ على « وجه الفضل ».. ولعمري تلك شهادة سيخلّدها التاريخ، وتحيلنا على المثل المشهور  » ربّ عذر أقبح من ذنب »، لأنّه فتح أبوابا أخرى على زعيمهم هو في غنى عنها: إذ من هؤلاء الأثرياء الذين لهم من المنازل والسيارات الفخمة حتى يتفضّلوا عليها إلى الغنوشي؟؟؟ حقّا والله إنّ هذا الكريم الذي أهدى الغنوشي بيتا حال حلوله بتونس لأشبه أن يكون مثل أبي أيوب الأنصاري الذي اسكن الرسول الطابق السفلي ببيته طيلة 7 أشهر، ولأنّ الرسول لا يريد أن يحوز ملك غيره بنى حجرات حول المسجد الذي تم بناؤه في الأرض الخلاء التي بركت فيها الناقة، حتى يقيم فيها

لذلك رأينا من واجبنا أن نفتح هذا الملفّ، حتى نفهم وندرك، وإن كان الرجل بريئا فهنيئا له وإن كان مذنبا فليحاسب. وتلك هي مهمّة المجتمع في بلد يرى نفسه بدأ يرسم في كتاب الديمقراطية قصّة. وحتى لا نرمى بالتجنّي رأينا أن ننطلق من شهادات قياديين من النهضة حتى تكون لنا أرضية سليمة من داخل التنظيم نفسه

ملاحظات عامّة باعتبارها قاعدة أساسية لتحليلنا

أعلنت الحركة كما بينّا في بيانها الأخير عزمها على الالتجاء إلى القضاء ضدّ كلّ من يسأل عن مصدر ثراء الغنوشي.. وذلك اجتهادا من منظّريها لتكميم الأفواه وفرض خطّ أحمر يحاكي الممنوعات العقدية قداسة؛ وغاب عن هؤلاء أن يستحضروا ذاك الرصيد الهائل من التهم التي صدرت عن قياديين من داخل المعبد والتي تعتبر أهمّ محرّك في النفوس الحية والمعذّبة بنار الحيف الاجتماعي أن تنطلق السنتها بالسؤال الباحث عن جواب يشفي الغليل. والملاحظ أيضا أنّ هؤلاء القياديين من الحركة كانوا لا يجدون حرجا في نشر مؤاخذاتهم عن الغنوشي وأبنائه وصهره، وبالتالي انطلقت تلك التصريحات حرّة، وهي ملك لجميع الناس تؤوّل بحسب الأنفس والأهواء، وليس للتنظيم مؤاخذة ايّ كان بما قد ينتهي إليه تحليله.

شهادات من داخل التنظيم

وخاصّة منها تلك الشهادات التي أدلى بها أعضاء اختلفوا مع الشيخ ونقدوا سياسة المحاباة والمكيالين. وفي الحقيقة تصنّف هذه الشهادات إلى أصناف: منها التي قام بها أصحابها بعد أن أعلنوا خروجهم الرسمي عن المعبد، ومنها تلك التي رواها أصحابها للمقرّبين منهم مثل أبنائهم، ومنها أيضا تلك الشهادات التي يرفعها بعض من قيادات الحركة عندما يستشعرون ظلما سينالهم أو ضيما يعانون منه. وهي في نظرنا شهادات مفيدة جدّا في تقصّي الحقائق، لأنّ الأدبيات في امبراطورية الإخوان كثيرة وفيما يملكه الغنوشي تبعث على الحيرة والسؤال: ونظرا لكثرة هذه التصريحات خيّرنا، ونحن أحرار لغزارة المادّة الإخوانية، أن نكتفي بما نراه مفيدا في مقالنا ونحتفظ بالتصريحات الأخرى عسى أن نوظّفها في مآرب أخرى

لعلّ أهمّ شخصية نفتح بها حفل الشهادات هي شخصية محمد بن سالم، رجل آثر البقاء في التنظيم و « نشر غسيلهم » كلّما لاحظ انزلاقا في أحوالهم السياسية.. تجده حاضرا بمشاكساته، وقد يكون لهذه السياسة التي سلك تأثير في أن يقرّر الغنوشي إبعاده عن عضوية أخرى في مجلس النواب لهذه الدورة. نحن نذكر له هجومه العنيف ضدّ سياسة شيخه القائمة على تقريب أهل بيته على حساب شخصيات قيادية في الحزب. ونكتفي في هذا السياق بالوقوف عند ما حدث في خريف 2019، أي في خضمّ الحملة الانتخابية، وعند تصريحاته الإذاعية في توصيف الواقع الإخواني بتونس، وعند عبارته الشهيرة  » نعم هناك مرتزقة في النهضة.. وثمّة ناس تمشي على كروشها في النهضة ».. ونعتقد أنّ العبارة تحمل من بلاغة البيان ما يكفي لأن نستنتج أنّ التنظيم قائم على المال لا على المبادئ، وأنّه قد دخله متسلّقون، وطبعا لا يكون التسلّق سوى لأجل المال لا غير.. وطبعا لم يواصل بن سالم في سياقه النقدي لمزيد من التوضيح في مصادر هذا المال الذي يسعى إليه الإخوان من داخل المعبد عسى أن يلعقوا منه ولو قليلا.. ولا تقصي هذه العبارة أيضا إمكانية التأويل بأنّ الغنوشي وأهل حظوته هم أوّل من يذوق عسيلة هذه النعم… » وما تصح الصدقة إلاّ ما تتجزّى الرعية ». ولعلّ أهمية هذا التصريح تكمن في أنّه أتى متلازما مع اتهام بن سالم الغنوشي بمحاباة صهره وحمايته، وبسحب البساط من مورو في سبيل تلميع صورة بن عبد السلام.. فإذا بنا ندرك أنّ شقين ظاهرين يقسمان ظهر التنظيم بتونس: شقّ الغاضبين وعلى رأسهم مورو وبن سالم، وشق الموالين والعترة بقيادة الغنوشي وعصبته.

الشخصية الثانية التي نقف عندها هي شخصية زبير الشهودي الذي اكتفى بالاستقالة من المسؤوليات وقنع بالانتماء لا غير، أي بعبارة أخرى اختار مقعدا قريبا من الأبواب للخروج. ولعلّ أهمّ ما يحتفظ من موقف الشهودي هو مساندته الضمنية لردّة فعل بن سالم، خاصّة أنّه صرّح بقراره في نفس الفترة التي انتفض فيها بن سالم على الغنوشي وصهره. ورغم أنّ حيثيات الاستقالة ليس لها علاقة وثيقة بموضوعنا فإنّها تتقاطع مع ما يمكن أن ترسّخ في ذهن الناس من إيحاءات ذات صلة بالمال الموازي، إن لم نقل المال المقتَنَص. يذكر الشهودي في النقطة الثانية من رسالة الاعتذار :  لاخواني في حركة النهضة الغالبية الخلص منهم دون الاقلية الفاسدة والمفسدة : أعتذر إليهم لانتقادي العلني لرئيس الحركة الاستاذ راشد الغنوشي والذي أطلب منه اعتزال السياسة وان يلزم بيته ومحرابه ويبعد صهره رفيق عبد السلام وكل القيادات الذين دلسوا إرادة كبار الناخبين في اقصاء مباشر لكل المخالفين في الراي من نساء وشباب وقيادات تاريخية

ليختم الرسالة بموقف لافت يفتح أبوابا من التأويل، ويطلق عنان الفهم، وليس لأيّ إخوانيّ في التنظيم القدرة على كبح جماح ما قد نذهب إليه من استنتاجات تفتح مباشرة بابا عنوانه « من أين لك هذا؟ ». إذ يقول : « وفي الختام أشهد الله أنني لم المس مالا عاما ولا تلقيت رشوة ولا ازديتها (كذا وردت اللفظة ولعلّه يقصد فعل أسدى يسدي.. فعربيتهم متعثّرة في أحيان كثيرة) والله على ما أقول وكيل وقد صرحت بممتلكاتي ودخلي للهيئات الوطنية المختصة ». فإن كان الشهودي، وهو المواطن العادي الذي لم يتقلّد مسؤوليات مباشرة في الدولة، يلمّح بإمكانية استيلائه على المال العام غير أنّه متعفّف فكيف للغنوشي أن يبرّئ نفسه وهو القريب من سلطة الدولة ويحرّك خيوطها بوجه محجوب تارة ومكشوف تارة أخرى؟

المأخذ الثاني الذي دفع بالشهودي إلى التخلّي عن مسؤوليته الحزبية يقوم على استئثار الغنوشي بالحكم المطلق في الحركة، ويقف عند مسألة هامّة ورد ذكرها في اللائحة التقييمية للمؤتمر 10، فقد وردت فقرة في الصفحة 45 تشير إلى أنّ عضو مجلس الشورى ليس له دور في إدارة شؤون الحركة  » نظرا إلى مبدأ الفصل بين السلطتين التنفيذيّة والشوريّة علاوة على عدم قدرته على منع تجاوزات القيادة التنفيذيّة لقراراته وتوصياته..:  نتج عن ذلك أن غابت المحاسبة التي ينصّ عليها القانون الأساسي لمجلس الشورى. وفي هذا السياق يتساءل الشهودي:  فهل يُعَدّ هذا الحرص على إعلاء الدّيمقراطية في الحركة وتكريس مخرجات المؤتمر العاشر نزاعا حول شرعيّة ما تمسّ مثلا من صلاحيات رئيس الحركة ومكتبه التنفيذي وتنازِعُهُما على أمر يدخل في دائرة الصّلاحيّات الموكلة إليهما بمقتضى التّعاقد القانوني؟

هي مآخذ في ظاهرها تتصل بطريقة تسيير الحركة، وفي باطنها تحتمل أوجها كثيرة من التأويلات، ولعلّ أهمّها أنّ الغنوشي هو المتصرّف المطلق، وله اليد العليا في الشؤون المالية للتنظيم والإملاءات السياسية داخليا وخارجيا، سيما وأنّ الرجل حُفظ عنه أنّه يكاد لا يصحب معه في حلّه وترحاله سوى صهره أو ابنه لا غير، كما حفظ عنه أنّه المتصرّف المطلق في مالية الحركة: فلا وجود لمكلّف بالمالية، أو مراقب.. ونحن فيما نورد من ملاحظات لا نحكم بقدر ما أنّنا نعيد ما يذكر في المواقع الاجتماعية أو في الأشرطة الوثائقية، وما يقابلها من صمت الغنوشي والقياديين، ولا يفوتنا تاريخ صهره القريب في تجربته الوزارية وملحمة الشيك الصينيّ الذي لم يبتّ فيه القضاء إلى يومنا هذا. هذا غيظا من فيض، والتونسي ليس بالخبّ، ولا ينخدع، بل هو أعقل من أن يُخدع. ثمّ إنّ السؤال عن مصادر التمويل حقّ مواطني لا يختلف فيه اثنان

شخصية ثالثة كان لها التأثير البليغ في دفع الناس إلى التفكير فيما يملك الغنوشي، ونعترف أنّه كان لها فضل في إنارة العقول، ونقصد مراد النوري « حقوقي ولاجئ سياسي سابق بباريس ». كانت له 8 منشورات في صفحته بالفايسبوك.. والجميع يعلم أنّ الفايسبوك قد تحوّل فعلا إلى إعلام بديل للإعلام الرسمي بالبلاد، لما ناله من أذى المحاصرة والمراقبة والجمود. ونظرا لغزارة المادّة في مسألة الفساد المالي للغنوشي وتمكّنه من شريان التنظيم الاقتصادي، ونظرا لما في منشوراته من دقّة تاريخية وإحالات يقتضي الوقوف عندها لتقصّي مختلف الشبكات العنقودية التي تسيّر هذه الإمبراطورية المالية التي يتربع الغنوشي على كرسيها.. رأينا من الصالح أن نفرد له مقالا خاصّا

الدكتورة نائلة السليني

نشر هذا المقال في جريدة صواب الرأي