الدستور؟ … أيّ دستور مليء بالتناقضات؟

الفصل الأول من الدستور ينصّ على أن « تونس دولة (…) الإسلام دينها (…) ». غير أن هذا الفصل بقي غامضا منذ وضعه في دستور 1959. فهو قابل لعديد التأويلات من جهة، كما أنه من جهة أخرى تمّ وضعه منذ البداية من أجل إرضاء بعض التوازنات السياسية والدينية بشكل لا يُمكن ترجمته إلى الواقع. ولقد تمّ الإبقاء عليه دون تغيير في دستور 2014 لنفس الأسباب. والأكيد هو أن الدين علاقة بين الإنسان والخالق. فإذا كان المقصود هو أن الإسلام دين التونسيين، فهذا لا يجوز باعتبار وجود مواطنين تونسيين لا يتديّنون بالإسلام، لهم نفس حقوق وواجبات المسلمين إزاء الدولة والمجتمع وأمام القانون. وإما إذا كان المقصود هو أن الإسلام دين الدولة، فإنه لا يُمكن لدولة أن يكون لها دين، كما بيّن ذلك الرئيس قيس سعيّد عندما قال بأن « الدولة لا تُصلّي ولا تصوم ولا تدخل الجنة »، وهو مُحقّ في ذلك. كما أن إسناد دين بعينه إلى الدولة يُخالف الفصل السادس الذي ينصّ على أن « الدولة كافلة لحرية المعتقد والضمير ». فكيف لها أن تكون كافلة لأديان مُتعدّدة وهي مُتديّنة بدين بعينه. أما التناقض الأكبر فنجده بين هذا الفصل والفصل الثاني الذي ينص صراحة على أن « تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب، وعلوية القانون. ». والدولة المدنية هي دولة لا عسكرية ولا دينية

ونظرا لما سبق، فإن علاقة الدولة بالأديان تبدو أكثر وضوحا في الفصلين الثاني والسادس حيث أنها كافلة لحرية معتقدات المواطنين على أن تبقى مدنية، أي لا دينية

نأتي الآن إلى الممارسة

فرئيس الجمهورية الذي أقسم على احترام الدستور، نجده يُخالفه في عديد المناسبات. ويكفي أن نلاحظ إصراره على الظهور بمظهر المُتديّن وعلى نشر صوره وهو يُصلّي في الجامع، أو حتى على الأرض في مكان قاحل، أو نشر صوره وهو على مائدة الإفطار ليُؤكّد لنا أنه يصوم في رمضان، حتى نفهم أنه شديد التديّن وأن تديّنه ليس أمرا شخصيّا بينه وبين خالقه، وإنما هو أداة بروباغاندا سياسية يخرج بها عن ثوب رئيس لدولة مدنية، إذ كان يُمكن له أن يُمارس شعائره الدينية في بيته باعتبار أن تلك الممارسة إنما هي فعل شخصي ذاتي بحت. زد على ذلك ما نجده باستمرار في خطبه من مرجعيات فكرية، وهي مرجعيات لا تمتّ بصلة بالفكر المدني الحداثي وإنما هي مرتبطة إجمالا بالتاريخ الإسلامي، حتى أن رسائله تُؤرّخ بالتقويم الهجري

الخلط بين الدين والدولة المدنية يأتي بشكل أوضح وأخطر عند حديث الرئيس عن موضوع الميراث في خطاب 13 أوت 2020 الشهير، حيث اعتمد على النص القرآني، مُتنكّرا للدستور الذي ينصّ في فصله 21 على أن المواطنين والمواطنات : متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز

خرق الدستور وتجاوز مدنية الدولة نُسجّله أيضا، وبشكل يكاد يكون يوميّا، من قبل سائر المسؤولين في الدولة وخاصة منهم رئيس الحكومة

فهشام المشيشي شكّل حكومة تتألّف من عشرات الوزراء لا نجد من بينهم سوى امرأة واحدة. وفي ذلك تجاوز صارخ للفصل 46 الذي ينصّ على أن الدولة : تضمن تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة في تحمّل مختلف المسؤوليات وفي جميع المجالات

تجاوز آخر مُفزع ومُريب قام به المشيشي عند دفاعه بشكل حازم وعنيف عن المكتب المشبوه لجمعية « علماء المسلمين » الإرهابية، ضاربا عرض الحائط الفصل السادس من الدستور الذي ينصّ على أن الدولة « تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف وبالتصدي لها »، وهو فصل يصف بدقة ما تقوم به جمعية القرضاوي، من دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف، غير أن المشيشي لم يقم بالتصدّي لها كما يأمره بذلك الدستور، وإنما هو تصدّى لمن واجهها وطالب بغلق ذلك المكتب

وفي تنكّر آخر للدولة المدنية، وفي الوقت الذي تتخبّط فيه البلاد في مشاكل اقتصادية واجتماعية وصحيّة لم تشهد تونس لها مثيلا طوال تاريخها، لم يجد المشيشي من المبادرات التي يتعيّن عليه القيام بها غير الاحتفال بذكرى غزوة بدر، وهي ذكرى يُحتفل بها رسميّا لأول مرة في تاريخ تونس، وربما في العالم. والمقصود من تحوّل رئيس الحكومة إلى القيروان بهذه المناسبة لا يُمكن، في اعتقادي، تأويله بغير رغبته في الإعلان بأن اهتمام الحكومة بالرموز الدينية العتيقة يفوق اهتمامها بشؤون الدنيا، مهما كانت خطورتها. وفي ذلك طبعا رسالة إلى قوى الإسلام السياسي كعربون ولاء وكاستعداد لدعم التمشّي المُراد به إقامة الدولة الدينية في ربوعنا

لم يكتفِ الإسلاميّون إذن بوضع دستور أخرق، مليء بالتناقضات، بل ها هم يتجاوزونه كلما سنحت لهم الفرصة لذلك. والواضح أن التجاوزات تقع بالخصوص في كل ما يخصّ الفصول التي فُرضت عليهم من قبل النواب المُعارضين في المجلس التأسيسي بعد الضغط الذي حصل أثناء اعتصام الرحيل سنة 2013، والذي أُجبروا إثره على القبول بمبدأ التوافقات، ولسان حالهم يقول: ها نحن نتخلّى عن بعض المبادئ الإخوانية، ولكن انتظرونا في التطبيق

بقلم منيرالشرفي