الجهل والانحراف مرادفان

زار مواطن تونسي إحدى الدول الإسكندنافية، ودخل لأول مرّة إلى محطة الميترو في تلك الدولة. فلاحظ وجود أربعة معابر للدخول حيث يقف المسافرون في طابور منتظم ينتظر كل واحد منهم دوره في هدوء تام ليُسجّل تذكرته قبل الوصول إلى الرصيف، ولاحظ أيضا وجود معبر آخر لا يوجد أمامه طابور وليس فيه الآلة الخاصة بطبع التذاكر. أي أن هذا المعبر يُمكن المرور منه نحو الرصيف بدون انتظار وبدون تذكرة

أثار هذا المعبر انتباه صاحبنا، وخامرته طبعا فكرة المرور منه. لكنه أراد أن يفهم سرّ هذا المعبر المتروك، واتّجه بالسؤال إلى السيدة المُشرفة على المحطّة، فأجابته: « هذا الممر مُخصّص للذين لا يملكون ثمن التذكرة ويسمح لهم بالسفر مجانا ». سألها المواطن التونسي ثانية: « لكن بهذه الطريقة يُمكن لمسافر أن يمرّ من ذلك الممر حتى لو كان لديه ثمن التذكرة ». هذا التساؤل أثار دهشة المسؤولة، وأجابته : كيف ذلك؟ ولماذا لا يدفع ثمن التذكرة إن كان قادرا على ذلك؟ أيُعقل هذا؟

إن موضوع عدم القيام بالواجب نحو المجموعة غير مطروح في هذا البلد، بل إنه يُثير الدهشة. والسلطات الحاكمة لا تقوم بأي اجراء لتفادي وقوعه، لأنه لا يقع ولأنه لا يخطر ببال مواطني تلك الدولة أن يتجاوزوا القانون أو أن يجرؤوا على السطو على حق الغير أو حق المجموعة، حتى أن السجون هناك تكاد تكون خالية

سنوات ضوئيّة تفصلنا عن هذه العقلية. فالمواطن عندنا يسير في الشارع وحواسّه الخمس في حالة استنفار من المارّين حوله خوفا من أن يُنزع منه ما بيده عنوة. وإن انتزع منه أحد المارّين شيئا ما، فلا فائدة في البحث عنه أو في أمل استرجاع ما افتُكّ منه

أحد الأصدقاء علّق على الوضع قائلا: « لو كنّا نُطبّق شرع الله، وقطعنا يد السارق، لما وصلنا إلى هذا الحدّ من النهب وانتشار السرقة في بلادنا ». لكن هذا الصديق ينسى أن « شرع الله » في قطع يد السارق كان في زمن ليس فيه محاكم ولا قوانين ولا سجون، وأننا نعيش زمنا فيه، علاوة عن كل ذلك، ميثاق عالمي لحقوق الانسان ينصّ على حرمة الجسد، كما ينص الدستور التونسي في فصله 23 على أن الدولة « تحمي كرامة الذات البشرية وحرمة الجسد، وتمنع التعذيب المعنوي والمادي ». زد على ذلك أن صديقي نسي أن سكان هذا البلد كلهم « كفّار » ولم يسمعوا قط بكلمة « حرام »، وأنه لم يحدث أبدا أن تمّ فيه قطع يد سارق، وإنما تمتاز هذه البلاد عنّا بثقافة لا علاقة لها بالأديان، ثقافة نحن أبعد ما يكون عنها، ثقافة الواجب وثقافة العمل

فالمشكلة إذن ليست مشكلة إسلاميّة ولا حتى دينية، وإلّا كيف نُفسّر عدم وجود السرّاق في بلاد الكفرة وكثرتهم بشكل مُتزايد ومُخيف في شعب أغلبيّته الساحقة من المسلمين؟

فلنبحث عن أسباب تفشّي هذه الظاهرة بعين أكثر واقعيّة وموضوعيّة بعيدا عن الحلول السهلة واللا إنسانيّة

إن المواطن التونسي الذي يبحث عن الرزق بواسطة انتشال ملك الغير هو في حاجة إلى ثلاثة أشياء

فهو في حاجة إلى المال حتى يجد قوته وقوت عائلته. والمال المشروع لا يتمّ الحصول عليه إلا بالعمل. لذا وجب الحصول على موطن رزق. والبطالة المتفاقمة في بلادنا هي نتيجة لعدم قيام الدولة بواجبها في هذا المجال، ولقد جاء في الفصل 12 من الدستور أن « العمل حق لكل مواطن ومواطنة، وتتخذ الدولة التدابير الضرورية لضمانه على أساس الكفاءة والإنصاف. ولكل مواطن ومواطنة الحق في العمل في ظروف لائقة وبأجر عادل. » فإذا قامت الدولة بدورها وبواجبها في ضمان حق العمل لمواطنيها لما وجد التونسيّون في انتشال ملك الغير الحلّ في إيجاد لقمة العيش

وهو أيضا في حاجة إلى أن يعي بقيمة العمل، وبأن العمل ليس حقّا فحسب، بل إنه أيضا واجب. وليس من الطبيعي أن يرفض العاطل عن العمل ما يمكن أن يتوفّر له من مواطن الرزق بأيّ تعلّة كانت. وها نحن نشاهد آلاف الأجانب، من الدول الإفريقية بالخصوص، يعملون في تونس في شتى المجالات، حتى في جني الزيتون، وهي مواطن شغل يرفضها التونسيّون باعتبارها « مُهينة »، وكأن انتشال متاع الغير أكثر شرفا من بعض المهن. فالعمل في جميع الميادين أشرف من البطالة

أما أكثر ما يحتاج إليه المواطن التونسي بشكل عاجل ومُلحّ حتّى نقضي على انحراف الشباب فهو الزاد الثقافي والمعرفي بما فيه الأخلاق والتربية على الأسس المدنية الصحيحة. ولقد فقدت بلادنا منذ سنوات عديدة السياسة التي تُولي العناية اللازمة للتعليم وللثقافة كما كان الشأن في تونس في فترة بناء الدولة المدنية الحديثة عندما كانت ميزانية التعليم تفوق ثلث ميزانية الدولة. فالتربية هي آخر ما فكّر فيه كل من شارك في السلطة خلال السنوات الأخيرة، ولقد تجاهلت الحكومات التي تداولت على السلطة، ربّما عن قصد، أهميّة المضامين التنويرية في البرامج التربوية والثقافية، ممّا أدّى إلى ما وصل إليه شبابنا اليوم من فراغ ثقافي وجهل معرفي وانحراف أخلاقي

 

بقلم منير الشرفي