الجامعة و الإرهاب

تفاعلا مع وقفة الدستوري الحر اليوم (25/12/2021) امام وزارة التعليم العالي للتنبيه لخطر غزو الفكر التكفيري الجامعة التونسية انشر هذاالجزء من بحث لي في الموضوع
لا نعتقد إننا كجامعيين فرادى أو هياكل ولا كذلك كسلط إشراف لنا معرفة دقيقة بمدى انتشار الإرهاب بين طلبة جامعاتنا و لا بين الإطار العامل بها.هنا لا نتحدث فقط عن الإرهاب في مراحله المتقدمة من التنظم و تكوين الخلايا و الشبكات و التفجير ، بل عن الإرهاب عامة كفكر و عقيدة و كنشاط استقطاب وعمل.فقط تفاجئنا الأخبار التي توردها وسائل الإعلام و من حين لآخر على اكتشاف خلايا من بين الطلاب في علاقة مع تنظيمات ارهابية محلية او خارجية لإستقطاب الأتباع او للإعداد لعمل ارهابي و لعلّ الدراسة الوحيدة التي تستحق قدرا من الثقة هي تلك التي انجزها « مركز البحث في الإرهاب » لدى المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية و الإجتماعيّة بتونس و الصادرة في اكتوبر 2016 حيث تفيد هذه الدراسة أنّ نسبة هامة من الشباب المتورط في الإرهاب في تونس مرّوا بالجامعة كطلبة او تخرّجوا منها و قد وصل البحث هذا من خلال معالجة الملفات القضائية لألف متهم بالإرهاب الى أنّ »هناك اكثر من 64,3 لم يقدموا اجابات واضحة في خصوص المستوى التعليمي .أما بالنسبة لبقية الإرهابيين نجد منهم 40% حاملين لشهادة جامعيّة او لديهم مستوى جامعي »1

كذلك يمكننا أن نستدلّ على اكتساح الإرهاب للوسط الطلابي بالنتائج التي توصل لها بحث قام به الإتحاد العام لطلبة تونس و صرّح بنتائجه في أفريل 2015 ، و أتى فيه حسب جريدة الصباح (10/07/2015)
أنّه « فجر حقائق صادمة حول اعتناق الطلبة للفكر التكفيري الداعشي حيث نشر نتائج دراسة ميدانية في الجامعات التونسية أظهرت أنه ما بين 800 و 1200 طالب وطالبة التحقوا رسميا بجبهات القتال في سوريا والعراق (…) وإنّ هذه الدراسة أنجزها الإتحاد بعد تواتر معلومات من كل الجامعات والمعاهد العليا تفيد بانّ هناك أعدادا كبيرة من الطلبة ينقطعون عن الدراسة ويتوجهون لليبيا أو سوريا أو العراق للقتال صلب الجماعات الإرهابية… وتقول الأمينة العامة للإتحاد أنّ «هذه الحقيقة الثابتة تبرز بما لا يدع مجالا للشك أن الجامعة التونسية ترزح تحت طائلة مشروع تكفيري خطير يجب التصدّي له وقطع الطريق أمامه.وتضيف أماني ساسي «حسب هذه الدراسة فان كليات ومعاهد تونس والوسط الغربي والجنوب هي في طليعة المصدرين للطلبة الملتحقين بصفوف القتال… وهم حسب الإحصائيات التي جمّعتها الدراسة أكثر من 800 طالب وقد تصل هذه النسبة الى 1200 طالب، 17 بالمائة من بينهم إناث بعضهن من طالبات طب ذهبن للإسعاف والمساعدة الطبية كما وقع إيهامهنّ بذلك (باعتماد هذه النسبة سنجد أنها في حدود 136 طالبة ) ..بينما هناك بيننا 1100 طالب يؤمنون بهذا الفكر ويتحينون الفرصة للتوجّه إلى هناك أو بينهم من أراد السفر للقتال ولكن تم منعه كما وانه اليوم لدينا ما بين 70 و 100 طالب موجودين في سجن المرناقية لهذا السبب ».2

و مهما كانت درجة الثقة التي نمنحها لهذا التقرير الطلابي اليساري فانه لا محالة عاكس لحقيقة تؤكدها مؤشرات أخرى عديدة منها استشراء قيم و سلوكات « التيار السلفي » بين طلبتنا كانتشار اللباس الطائفي بين الذكور و الإناث وتطويل اللّحي و تحفيف الشوارب و الأخطر تحدي قوانين الدولة التي تعتبر لدى متبني « الفكر السلفي » قوانين وضعية مناقضة للشريعة الإلهية حيث مثلا تم رصد انتشار ظاهرة الزواج العرفي و قد اتى في المقال الآنف للذكر لجريدة الصباح انّ  » دراسة ميدانية قام بها عدد من الطلبة في ديسمبر 2012 أن ظاهرة الزواج العرفي انتشرت بنسبة 80 بالمائة في صفوف الطلبة السلفيين في الجامعات التونسية وبنسبة 20 بالمائة في صفوف الطلبة المتعاطفين معهم.وقد أثارت هذه الدراسة صدمة لدى النخب التي رأت فيها نكوصا عن قيم ومبادئ الجمهورية وضربا لمكاسب الأحوال الشخصية..وحسب الدراسة فان المستجوبين برّروا الأمر بان « الزواج العرفي هو زواج شرعي وهو الحل الشرعي للعلاقات الجنسية المنتشرة في صفوف الطلبة » وقد شملت العينة 1200 طالب وطالبة يدرسون بخمس كليات.كما قدّرت الدراسة أنّ هناك ما بين 700 و800 حالة زواج عرفي في صفوف الطلبة ».3

كذلك عرفت جامعاتنا حضورا صارخا في مناسبات عدة لرموز التيار السلفي الإرهابي بنصب الناشطين فيه لخيامهم الدّعويّة داخل أسوار المؤسسات الجامعية أو أمامها لنشر عقيدتهم التكفيريّة و حتى « غزوها » لفرض اختياراتهم على الجامعات من ترسيم « المنقبات » من أتباعهم أو فتح مساجد عشوائية بحرم الجامعة او فرض قطع الدروس عند رفع الآذان. و كانت البداية يوم 8 أكتوبر 2011 عندما هاجم ملتحون كلية الآداب بسوسة بدعوى فرض تسجيل احدى المنقبات و اعتدوا على عميد الكلية و هددوا بالقتل كاتبها العام و الحادثة الأضخم كانت تلك التي احتل فيها السلفيون بداية من 7 فيفري 2012 كلية الآداب بمنوبة و عطّلوا الدروس فيها لمدة طويلة و اعتدوا على عميدها و نزعوا العلم الوطني و رفعوا راية داعش على مدخلها و كان مطلبهم الأساسي السماح للمنقبات من أتباعهم بحضور الدروس و كان يدعم هؤلاء المستبيحين لحرمة الكلية حزب النهضة الحاكم آنذاك

و ليس من الغريب أن تكون نسبة الطلبة مرتفعة من بين الإرهابيين التونسيين الناشطين في الخارج ( في سوريا و العراق بالخصوص) او في تونس و لنا نماذج صارخة منهم كانوا تورطوا في الأحدث الإرهابية التي عرفتها تونس في الثلاث سنوات الأخيرة .في عملية دوّار هيشر(وادي الليل) في ضواحي العاصمة تونس يوم 24 اكتوبر 2014 و في تصادم مع قوات الأمن مع خلية ارهابية متحصنة بأحد المنازل قتلت طالبة الهندسة أمينة العماري المعروفة ب »أم ايمان » وهي تطلق الرصاص على قوات الأمن و كانت تابعة للجناح الإعلامي لكتيبة عقبة بن نافع الإرهابية4. و في العملية الإرهابية التي استهدفت السواح في متحف باردو في 18 مارس 2015 والتي ذهب ضحيتها 22 قتيلا كان أحد الإرهابيين اللذين قتلا في الهجوم الى جانب التلميذ صابر الخشناوي طالب اللغة الفرنسية ياسين العبيدي كذلك في عمليّة الهجوم على النزل السياحي بسوسة في 26 جوان 2015 و التي أودت بحياة 40 سائحا أجنبيا كان بطلها الإرهابي سيف الدين الرّزقي (أصيل قعفور من ولاية سليانة) طالب المجستير بالمعهد العالي للعلوم التطبيقية و التكنولوجية بالقيروان.أمّا طالبة المدرسة العليا للعلوم و تقنيات الصحة (اختصاص توليد) بالعاصمة و الموقوفة على ذمة القضاء فاطمة الزواغي أصيلة دوّار هيشر بالعاصمة فانها تبرز كقيادية في تنظيم أنصار الشريعة الإرهابي ومكلفة بالجناح الإعلامي فيه تحت كنية « أم قدامة » ، كما كان من ضمن الإرهابيين الأربعة في آخر عملية ارهابية جدّت حتى كتاب هذه الورقة، أي عملية جنعورة بقبلي في 12 مارس 2017، طالب مرسم بكلية الآداب بالقيروان و لقي حتفه في مجابهة مع قوة الأمن و الأمثلة عديدة على هذه الوجوه الطلابية المتورطة في الإرهاب الناشط أو الكامن

المهم أن نعي كجامعيين و كسلط إشراف درجة الخطورة التي تتهدد جامعاتنا و نطرح الطرق و الوسائل القادرة على تحصين طلبتنا و مؤسساتنا و نرتقي بها الى الأفضل

2- أي استراتجيات علمية و ثقافية لتحصين جامعاتنا ضد الإرهاب ؟

نحن على وعي بأنّ عمليّة تحصين الطلبة من خطر غواية الفكر التكفيري و تسليحهم فكريا لعدم السقوط في شرك الإستقطاب الإرهابي هي عملية معقدة تأخذ في عين الإعتبار كل المحددات التي تجعل فردا في المجتمع ارهابيا.ليس اذن التعليم وحده الذي سيكسب الشاب مناعة ضد الإرهاب. لعله من الشروط الأولى في هذه العملية المركبة، التي تتدخل فيها ضرورة الدولة و العائلة وغريهما من الفاعلين الاجتماعيين، هي الأخذ بعين الاعتبار تلك الشروط الموضوعية و النفسية التي تهيئ شخصا ما ليكون ارهابيا ( هشاشة الوضع الاجتماعي من بطالة و فقر و تهميش ، و انكسار الوئام العائلي و عدم الإنسجام مع المحيط البشري، والحالة النفسية للمعني التي ما تكون عادة متأزمة…) و ما يسهل و يدفع للانخراط في جماعات الإرهاب من قوى و مصالح دولية في اطار خدمة استراتجياتها و توظيف تلك الطاقات البشرية في مشاريعها و مخططاتها التوسعية. فالأخذ بهذه الشروط و تفكيكها و التعامل معها بوضع الخطط لإبطال تأثيرها على الشباب المستهدف هو من أوكد واجبات الحكومات المسؤولة على أمن مواطنيها و سلامة دولها

المدخل الآخر و الخطير لتحصين الشباب ضد الإرهاب و هنا فئة الطلبة، لا يبدأ في الواقع بدخول الجامعات بل منذ السنوات الأولى للتعليم.تحصين النشء يبدأ منذ التعليم الابتدائي و خاصة في الإعدادي و الثانوي عندما يكون الشاب يبحث عن هويته الخاصة و بناء شخصيته.هذا يتطلب اطارا تعليميا ليس فقط قادرا على التكوين المطلوب و له من المؤهلات و التكوين الجيد الذي يسمح له بالقيام برسالته التربوية على احسن وجه بل له من الوعي الكبير بخطورة ما يتهدد تلميذ اليوم وطالب الغد من الإنجرار وراء الخطاب الإرهابي و استقطابه في شبكاته . و يضحى الأمر اخطر عندما يصبح المدرّس في حد ذاته متعاطفا مع الفكر التكفيري و الجهادي او حتى من نشطيه كما بينت عديد الحالات التي تفطنت لها المصالح الأمنية

هذا يشترط اعادة النظر في البرامج الرسمية المقدمة للتلاميذ في كل المراحل و خاصة التي لها علاقة بالتاريخ الإسلامي و بالدين عامة في مواد التربية الإسلامية و التربية المدنية و التاريخ و النصوص المدرجة في مواد العربية و الفرنسية علاوة على برنامج الفلسفة للسنوات النهائية من التعليم الثانوي و التي يجب أن تكون كلها قائمة على منهجية ثابتة في الإختيار ولها أهداف معرفية علمية و تربوية محددة لا فقط تعليم الأساسي للمتعلم من مهارات في الكتابة و العدّ و التحصيل لكم من المعارف بل و خاصة تكوين القدرة على التفكير و اعمال العقل و الإستيعاب الواعي لما يتلقاه من معلومات.كذلك تربية النشء على القيم الإنسانية المتعارف عليه في المواثيق الدولية من قيم التسامح و عدم التعصب الديني او العرقي و اعتبار كل الأديان متساوية و ليس هنالك دين أرقى من الآخر و غرس الإيمان بحقوق الإنسان في بعدها الكوني و نبذ العنصرية و الكره و غرس قيم السلم و التحابب بين البشر و بين الشعوب.
هذه الروح الجديدة في التعليم يجب ان تشمل كذلك الجامعة 

لكن قبل ذالك هل جامعاتنا تقوم بدورها في تحصين طلبتها ضد الإرهاب ؟

يمكن أن نجيب، دون سقوط في المبالغة، بالسلب.مما يعني أن الجامعة التونسية و خاصة اقسام العلوم الإنسانيّة والاجتماعية لم تقم بدورها كما يتوجّب في « تلقيح » عقول الطلبة ضد خطر التشدد الديني و أفكار التّكفير و الكراهيّة، وان كانت ليست مسؤولية السقوط في التطرف الديني ملقاة على عاتق الجامعة لوحدها كما أسلفنا القول. و من هنا تأتي ضرورة استفاقة الوسط الجامعي و تدارك الأمر بإيلاء قضايا الإرهاب الإهتمام المستوجب بانجاز البحوث المتخصصة و تنظيم الندوات و الملتقيات و المحاضرات و النقاشات الواسعة مع الطلبة و أهل الإختصاص في مبحث الإرهاب. و غني عن التأكيد على أنّ التّصدّي لمشروع كهذا و ليكون مثمرا يجب أن تكون مقاربته متعدّدة الإختصاصات و تتجند لها و تشارك فيها كلّ الأقسام من تاريخ وعلم النفس و علم الإجتماع و انتربولوجيا وعلوم سياسيّة و قانونية وعلوم الإخبار وفلسفة وعلوم دينية…وغيرها من الفروع التعليمية.مباحث كثيرة يمكن التطرق لها ، على سبيل الذكر لا الحصر،نذكر : أي استراتيجيا جامعية للتوقي من الإرهاب ؟، دور التعليم و الإعلام في مقاومة الإرهاب، الجذور التاريخية للإرهاب في الحضارة العربية الاسلامية ،تنظيمات الإرهاب عبر التاريخ، الإسلام الرادكالي، السند العقائدي و الفكري للإرهاب ، أي هوية عربية أسلامية نريد ؟، مسار التشدّد الديني، مجال الإرهاب و مجال الإجرام، الدعاية الإرهابية والدعاية المضادة، الاستخبار في مقاومة الإرهاب والحريات الخاصة،القضاء والإرهاب، السياسات الإجتماعيّة و الإرهاب ، السياسات الأمنية و الإرهاب، جيوبولتيك الإرهاب

و لعلّه من نافلة القول التنبيه الى أنّ انتاج البحوث والدراسات التاريخية و الإجتماعيّة و الميدانية من الجامعيين تكون عديمة الفائدة إن لم تتحول الى معرفة و قيم و اجراءات تحصّن الطلبة و المتعلمين ضد الإنتماء لعالم الإرهاب و تغدو كذلك ميّتة اذا لم تخرج من حيز الجامعة و تتحوّل الى ادوات فعل و مشاريع و برامج و خطط لمعالجة الإرهاب تتكفل بها أجهزة الدولة المختلفة من أمن و قضاء و إعلام وأطر تعليم و احاطة بالمجتمع

جامعات أخرى في العالم ،وبلدانها لا تعرف خطر الإرهاب كما تعرفه تونس، كانت واعية بمسؤولياتها تجاه أوطانها لحمايتها من هذا الخطر الذي أضحى يهدد العالم بأسره حيث ليس فقط تنظم الندوات و الملتقيات العلمية الكثيرة لتدارس ظاهرة الإرهاب بل هنالك دروس تعطى و شهائد علمية تقدم في اقسام التاريخ وعلم الاجتماع و الكريمنولوجيا و الحقوق و في كليات الأمن تحوّطا من الإرهاب و توفير المادة المعرفية العلمية للتعامل الناجع معه راجع مثلا ما تدرجه الجامعات في فرنسا و كندا و بلجيكا و الولايات المتحدة الأمريكيّة من دروس و سمنارات و شهائد في موضوع الإرهاب

الأستاذ عميره عليّه الصغيّر