التوفيق المستحيل

يعد الفصل الأول من دستور 2014 من أكثر فصوله إشكالا، ومن بين أخطر إشكالياته تناقضه الواضح مع فصول أخرى من الدستور نفسه، وهو أيضا أكثرها قابلية لمتناقض التأويلات وإثارة للجدل بين مختلف التوجهات في خصوص علاقة الدولة بالدين. ومادام التوجه اليوم إلى مراجعة هذا الدستور قد غدا أمرا محسوما على ما يبدو، فإنّه من الضروري التفكير المعمّق في هذا الفصل وفي ما يرتبط به من قضايا، ليست ذات طبيعة قانونية إلا جزئيا في الحقيقة، وإنما هي قضايا فلسفية وفكرية ترتبط خاصة بموقع الدين في دولة تصف نفسها بكونها مدنية وتقوم على قوانين وضعية وعلى مؤسسات وهيئات دستورية منتخبة، وبعبارة موجزة دولة يمكن وصفها بكونها حديثة، تحتكم إلى نظام يمكن نسبته إلى الليبرالية. فكيف يمكن أن نجمع في نص دستوري واحد كل هذه المتناقضات: دولة مدنية، نظامها جمهوري، دينها الإسلام، تضمن الحقوق والحريات، بما فيها حرية الضمير ؟ أليس هذا « خلطة » عجيبة صادرة عن تناقضات هيكلية حاول « ترويضها » توافق سياسي مغشوش انبنى على القفز على التناقضات والمفارقات وتجاهلها إلى أن انفجرت بدل أن توضع على طاولة الدرس حتى إيجاد مخارج آمنة لها؟

إن الفرضية الأولى التي يحسن أن تؤخذ بعين الاعتبار عند مراجعة هذا الفصل هي أنه لا معنى للتنصيص على أن للدولة دينا بعينه إذا كانت الدولة حاسمة في نسبة نفسها دستوريا إلى نمط الدول المدنية وإذا أخذت بعين الاعتبار حقيقة أن سلطة التشريع تعود إلى مؤسسة منتخبة انتخابا حرا مباشرا من قبل الشعب وهو ما يعني آليا أن القوانين تستمد مشروعيتها من الشعب وليس من أي مصدر آخر كما هو شأن القوانين الدينية ومنها الفقه الإسلامي مثالا حيث تستمد المشروعية من مصدر متعال، أما في الدولة المدنية ذات القانون الوضعي فإن الإرادة السيادية هي التي تولّد القانون. هذا فضلا عن أن من خصائص الدولة المدنية كذلك أنها تعمل من خلال وحدات المجتمع المدني المتعددة التي تساهم في خلق المجال الوسيط الضامن لمزيد استقلالية الدولة وللولاء الشعبي لها في آن. إن التنصيص على « دين الدولة » في هذه الحال سيكون مدخلا لمخاطر محتملة قد تهدد مدنية الدولة وقانونها الوضعي وطبيعتها المتعارضة تماما مع الدولة الدينية

أما الفرضية الثانية التي تستوجب الأخذ بعين الاعتبار فهي أن الدولة المدنية ليست في حاجة إطلاقا إلى تنصيص على دين ولا على شريعة، لأن الحاجة إليهما عادة تنشأ من الحاجة إلى المشروعية بالنسبة إلى أنظمة حكم لا مشروعية شعبية لها، أما الدولة المدنية فهي تستمد مشروعيتها من مصادر دنيوية زمنية كالشعب والقانون الوضعي، خاصة وأن الشعب التونسي قد سبق له أثناء وضع دستور 2014 أن عبر بكل وضوح عن رفضه مجرد الإحالة على الشريعة أو ذكرها في نص الدستور بله اعتبارها مصدرا من مصادر القانون. قد يكون من المعقول التنصيص على دين أغلبية الشعب باعتبار أنه من مصادر القيم والأخلاقيات التي يؤمن بها وأنه ينبوع من المعاني والدلالات الروحية التي تضفي على وجوده وعلى علاقاته معنى، وأن دور الدولة في هذه الحال هي حماية الدين وإدارة شؤونه وإتاحة المجال لحرية ممارسته والتعبير عنه وذلك بحكم أن الدولة الحديثة تتخذ من « الهيمنة الثقافية » عبر التعليم والفنون والإعلام نهجا لترسيخ كيانها وكيان المجموعة البشرية التي تنتسب إليها. فهذه الدولة لا تستطيع أن تضمن التماسك والقوة الداخليّين بتنظيم المجتمع بواسطة القانون فحسب، بل إنها تعتمد في ذلك أيضا على الثقافة، وهي تشمل من بين ما تشمله الدين، فالثقافة تضمن بدورها حدّا من الانسجام الداخلي صلب المجموعة يرتقي بها عن الكيانات التي تعتبر سابقة على الدولة مثل القبيلة والعشيرة والطائفة ليجعل ولاءها السياسي للدولة وحدها وهو ما يقوّي الدولة نفسها ويدعم استقلاليتها عن كل التشكيلات السياسية والاجتماعية. والدولة في حاجة إلى مثل هذا التحكم الثقافي وذلك عن طريق التعليم خاصة، حيث تبنى العقول ويبنى الوعي وتتأسس المجالات الثقافية ومنها المجال الديني. وهنا يكون من الطبيعي أن تأخذ الدولة بعين الاعتبار دين أغلبية المواطنين، وفي تونس هو دين جل التونسيين تقريبا، حيث تتولى هي إدارة شؤونه وضبط مناهج تعليمه بحيث يكون من بين العناصر الثقافية الضامنة للانسجام الداخلي والمانعة لما يمكن أن يهدد الوحدة الوطنية

لقد بات من الواضح، من خلال تجربة السنوات العشر الماضية بتونس، ومن خلال تجارب أخرى، أن « الدولة الإسلامية » أو « دولة الإسلام والشريعة » على الهيئة التي أرادتها عليها أحزاب الإسلام السياسي هي دولة منذورة للفشل إن لم نقل إنها « دولة مستحيلة » وذلك لاعتبارات بنيوية هيكلية قائمة صلب هذه الدولة التي يبشرون بها، وليس لاعتبارات إيديولوجية راجعة إلى وجود معارضة سياسية-إيديولوجية قوية ضدها. لذلك فإن معالجة تلك الاعتبارات من أجل منع حصول ما حصل سابقا ولحماية الدولة من الآثار القاتلة لذلك الفشل القابل لأن يتكرر تحتاج حقيقة إلى مراجعة جذرية لمسألة علاقة الدولة بالدين وإلى بناء رؤية علمية عقلانية بشأنها تكون منطلقا من المنطلقات التي يمكن أن يراجع في ضوئها الدستور وأن تعاد صياغة توطئته وبعض فصوله ومنها خاصة الفصل الأول من أجل رفع التناقض الصارخ بينه وبين الفصل الثاني

بقلم زهية جويرو