إيطيقا المخاطرة في مقاومة المشروع الإخواني

يحز في نفس كل تونسي وتونسية الوضع الذي انتهت إليه بلادنا في هذه الفترة التي تبدو من أصعب الفترات التي مرت وتمرّ بها تونسنا العزيزة منذ الاستقلال إلى اليوم. فالوباء يستفحل بشكل يبدو أنه خرج على السيطرة حتى إنّ فواجعه من مرض ووفاة لا تكاد تنجو منها عائلة، وفي ظل هذا الوضع تحتدّ حالة الإحباط العامّة وتتسع دائرة اليأس مع الوضع الكارثي الذي بلغته المنظومة الصحية. ولا يقف الأمر عند الحالة الصحية، بل إن الوضع يتعقّد أكثر فأكثر على عموم التونسيين وعلى الفئات الاجتماعية المتوسطة والضعيفة بصفة خاصة بسبب الارتفاع الجنوني للأسعار مقابل تراجع مفجع في موارد العيش وتزايد في نسب العاطلين عن العمل أو العاملين في أعمال هشة لا تكاد تفي بأبسط الحاجات البشرية. ويزداد الوضع تعقيدا في أعين أغلب التونسيّين وهم يرون البلاد ضحية لا حول لها ولا قوة تتناهشها ضباع السياسة وهم يتقاتلون من أجل أن يمكّن كل واحد لنفسه في السلطة بعد أن تذوقوا حلاوتها واغترفوا من امتيازاتها وصاروا مدمنين على لذة كراسيها، لا أحد فيهم يبدي أقل استعداد للتنازل حتى لا يسقط السقف على الجميع، لا أحد منهم يبدو معنيا أو تبدو عليه أية علامة من علامات الانشغال إزاء وضع تودع فيه كل يوم العائلات التونسية أعزاء بسبب إهمال هؤلاء الساسة ولا مسؤوليتهم، ويعاني فيه الآلاف من المصابين آلام الاختناق بكل أنواعه . في وضع تنكشف فيه أمام التونسيين كل يوم معطيات جديدة تشعرهم بأن القادم من أيامنا أسوأ مما مضى، فالإرهاب قائم ويزداد قوة والإرهابيون يعيشون محميّين بيننا من أجهزة الدولة ومؤسساتها التي صارت تحت سلطة الإخوان، والعنف تجاوز الحدود المنذرة بالخطر وتسرب إلى كل البيئات والفضاءات والمجالات، وما شهدناه في الأسبوع المنقضي من مشاهد عنف جسدي ولفظي ونفسي في موقع السلطة التي كان التونسيون ينتظرون منها أن تشرّع قوانين تضع حدا للعنف فإذا بمن تصدّوا لهذه السلطة منهم من لا يختلف عن الإرهابيين في تجرئهم على ممارسة العنف الجسدي واللفظي والنفسي في أبشع مظاهره على مرأى ومسمع من ناخبيهم ومن كل التونسيين وبل من العالم

كيف يقدر التونسي على احتمال كل الإحباط واليأس والحزن الناتج عن هذه المآسي؟ كيف لأغلب التونسيين أن يحتملوا وطأة الحاجة وهم يرون عجزهم يتزايد يوما بعد يوم ؟ كيف يحتملون ضغط الأخطار الداهمة وباء وإفلاسا وانهيارا اقتصاديا وعنفا مستفحلا وإرهابا مهدّدا؟ لن يستغرب أحد أن يأتي التونسيون في المرتبة الثامنة والعشرين بعد المائة في سلّم السعادة، فهم يعيشون يوميا هذا الحزن والبؤس وليسوا في حاجة إلى دراسات حتى يعلموا ذلك. تذكرت، وهذه الأسئلة تطرح نفسها مع مشاهد الواقع الراهن تتالى مصائبه كتابا لشارون والش عنوانه « إيطيقا نسوية للمخاطرة

 تذكر فيه أن تعقيد المشكلات الاجتماعية وعدم القدرة على إدراك كيفية حلها غالبًا ما يؤدي إلى تعميم الشعور بالفشل بين الطبقة الوسطى المعنية عادة بالدفاع عن القضايا الاجتماعية الكبرى ومنها قضية العدالة، وإلى إحباطها نفسيا وذهنيا ، وتعرّف ذلك بأنه « عدم القدرة على الاستمرار في المقاومة عندما يُنظر إلى المشكلات في كليّتها وبكامل حجمها المركب والمعقّد ». وترى أن اليأس الناتج عن ذلك الشعور بالفشل تواجهه الفئات المستفيدة من الوضع، وخاصة من الأثرياء وذوي السلطة، بالسخرية ، ذلك أن الفشل في هذه الحالة امتياز لصالحهم إذ لا تعنيهم قضايا الظلم والاضطهاد اليومية. فالمرء يتخلى بسهولة عن العمل من أجل التغيير الاجتماعي طويل الأمد عندما يكون مرتاحًا ويكون له عمل يحقق له مطالبه وتكون له رعاية صحية ممتازة ومسكن، وله إمكانية التمتع بالفنون الجميلة وبشتى أنواع الرفاهية والمتع. وعندما تكون حياة الرفاهية محتكرة من فئة قليلة يصير من المغري بالنسبة إليها إشاعة اليأس من إمكانية وصولها إلى متناول الآخرين، وعندها يوهم هؤلاء المترفهون أنفسهم بمشروعية الاستمتاع بها لأنفسهم ولعائلاتهم طالما أن « المحرومين منها لا يطالبون بشيء » . أفليست هذه هي غاية القائمين على السلطة عندنا بعد أن حصلوا حياة الرفاهية واحتكروها لأنفسهم وعائلاتهم ولكل من تمعّش من سلطتهم وأثرى من الفساد الذي أشاعوه في البلاد؟ ألم ينجح هؤلاء في إشاعة الإحباط واليأس في صفوف كل الفئات التي يفترض أن تقاوم هذا الفساد وأن تتصدى لكل هذه المشاكل التي أغرقوا فيها بلادنا؟

ألا يمثل فرار شبابنا بكل مستوياته، الناجح والفاشل، نحو الشمال علامة دالة على نجاح هذه المنظومة السياسية الفاسدة في إشاعة الإحباط والشعور بالفشل؟ رغم ذلك مازال أمامنا أكثر من إمكانية لمقاومتهم ومازال كثيرون مصرين على ذلك ولهم في ما قدمته شارون والش في كتابها حلول إيطيقية وعملية أيضا لمقاومة الفشل وللانتصار في معارك العدالة الاجتماعية وفي مقاومة أشكال التمييز وما ينشأ في سياقها من أنواع الفساد ، إيطيقا تتأسس على مبدأ المخاطرة، فمن لا يخاطر من أجل مثل أعلى ليس له أن يتوقع امتيازاته، من لا يخاطر من أجل العدالة الاجتماعية ليس له أن يتوقع يوما أن يعيش في مجتمع عادل وفي دولة تعدل بين مواطنيها. وتتميز أخلاقيات المخاطرة في منظورها بثلاثة عناصر ، كل منها ضروري للحفاظ على روح المقاومة في مواجهة الاحتمالات الساحقة: إعادة تعريف العمل المسؤول، تأسيسه وإشاعته في المجتمع ، والمخاطرة الاستراتيجية » وتتابع: « العمل المسؤول لا يعني تحقيقًا مباشرا للغايات المنشودة ولكن إنشاء خطة يمكن من خلالها اتخاذ مزيد من الإجراءات وخلق شروط إمكانية التغييرات المرغوبة، أما المسؤولية فهي تقتضي اتخاذ خطوات عملية نحو الهدف المنشود مهما بدت بسيطة، والتركيز على الاحتمالات بدلاً من القطع بالنتائج ، واختيار الاهتمام والعمل على الرغم من عدم وجود ضمانات للنجاح » أما المخاطرة الاستراتيجية فتقوم على التراكم والمثابرة، تبدأ من تفكيك المشكلات الكبرى التي يبدو حلها مستعصيا إلى عناصرها البسيطة والبدء بالعمل على حلها، وكل حلّ هو نجاح يزيد الحماس ويرفع من درجة الاستعداد والالتزام وصولا إلى الهدف النهائي

إذن من المؤكد أن الوضع في بلادنا صعب للغاية ولكن صعوبته لا يجب أن تشيع فينا الإحباط واليأس لأن ذلك هو ما يخدم غاياتهم ، لقد اشتغل الإخوان في كل تجاربهم في السلطة على إشاعة اليأس من إمكانية التغيير وبذلك اليأس حكموا شعوبهم، أما لو تصدّى كل واحد منا من موقعه وفي إطار اهتماماته لمشروع التمكين الذي ساروا فيه شوطا خطيرا، فإن ذلك المشروع سيفشل بالضرورة، أمّا لو استمر كل واحد فينا على موقف اللامبالاة بدعوى  » ماذا يمكنني أن أفعل بمفردي » فإنهم سيستمرون في الهيمنة على بلادنا مثلما استمروا في السودان، وسيدمرونها كما دمروا ليبيا وسوريا وكما تصورا أنفسهم فاعلين بمصر

بقلم زهية جويرو