إلى نوال السّعداوي: يا نجمة في الظّلام

عزيزتي نوال

ليس ما أريد قوله لك رثاء، ولا تأبينا ولا وقفة على أطلالك، فلا أشعر أنك فارقت هذا العالم، بل يلازمني شعور أنك هنا في لحمي وفي دمي سكنتِ فيّ منذ التسعينات وصنعتِ مني صديقتك الأبدية

ولعلك يا صديقتي تسكنين آلاف الجلود وتجرين في عروق آلاف النّساء والرّجال من الأحرار الأحياء بعدُ، وهم أحياء لأنّهم يحملون بين ضلوعهم نبضات قلوب الرّاحلين من أمثالك

هل تسمحين لي أن أناديك هكذا بلا ألقاب نوال؟ هل تقبلين نزع المسافات والحواجز بيننا؟ هل تعلمين يا نوال أنني حين تعرفت إليك كنتُ مختبئة في قاعة المطالعة هاربة من أميّ؟ ولم أعرف أين ألجأ وأين أفرّ؟ فقد جاء المساء ومكتبة الاتحاد الجهوي للشغل بباجة تفتح بابها في المساء، فأخذتني خطواتي المذعورة نحوها، قرب الكنيسة، وصعدت الدرج ودفعت البابَ وسألت الحارس: فقال لي يمكنك البقاء إلى السّاعة الثامنة فقلت في نفسي: سأختبئ ريثما أفكر في حلّ لأهدأ روع أمي الغاضبة. جلستُ وشرعت أقلّب ناظري في المكتبة الغريبة عني، كانت أمي قد عثرت للتوّ على قصيدة كتبتها في العشق، ولم تكن تلك القصيدة سوى محاولة لتقليد شعراء بني عذرة، لقد أخبرتنا أستاذتنا بكل حسرة أتذكرها كما لو كانت الآن، أن الشعراء كانوا يتغزلون بالنساء وأن النساء كن بارعات في الرثّاء والبكاء، وفكرت بيني وبين نفسي أن النساء أيضا يمكنهن البراعة في الغزل، وشرعت أرصّف الكلمات وأستخدم المتقارب لأبدع قصيدة موزونة مقفاة تحدث عن مشاعر العشق والصبابة ولم يكن معشوقي سوى خيال وما كنتُ أصلا عاشقة ولا أدري ما هو بل كان همي منافسة الشعراء، فلم تصدق أمي أن ما قرأته بين دفاتري هو محاولات للتطاول على محاريب الشعر وخافت أن يكون قد غُرّر بي ووقعت في فخ الغرام. ولقد عذرتها لشدة خوفها وفظاعة ما كان يصيب الصبايا في ما رأته في طفولتها من التعذيب والقتل بصمت مطبق من الجميع، فإن حالف الحظ الصبية فاقدة عذريتها فإنها تهربُ إلى وجهة غير معلومة ولعلّها تنجو أو تقع في مخالب الذئاب وإن لم يحالفها الحظ تُعذّب وأحيانا تدفن ليتم التغطية على شرف العائلة المودع بين ساقيها. فكان أشد كوابيس الأمهات سوادا أن تقع ابنتها في الحبّ. فهذه بنيّة قيل أنها سقطت في بئر، وما تلك البئر سوى قبر لإخفاء الجريمة، وأخرى قتلها صاحبها بعد أن سلمته نفسها طيعة فأجهز عليها ليحفظ بعد ذلك سره وسرها فهو يعيش ويتزوج وينجب أبناء وهي تموت وتشبع موتا وظلما، وأخريات يختفين، وبعضهن قتلن على مسمع من الناس ومرآهم ليكنّ عبرة لمن يعتبر، تلك هي حكايات الشرف في بداية القرن العشرين وتلك هي مخاوف الأمهات اللواتي يفضلن قهر بناتهنّ والتحكم بهنّ ووضعهن داخل الحدود والأعراف القاسية على أن يُقتلن أو يُدفنّ حيّات تاركات وراءهن العار والفضيحة. وحتى بعد أن خفّت المخاوف وزالت الأسباب واستقلت البلاد وشرعت تعلم البنات والصبيان على حد سواء وتخفف الجهل والجريمة بقيت العادات سجنا يكبل التربية بكثير من الشك والريبة والعنف الرمزي والماديّ

لقد كنا جيلا يتطلع للمساواة يا نوال، فلقد قيل لنا في المدارس الابتدائية أن الرجال والنساء سواسية وقيل لنا أن البنات قادرات على الظفر والفوز، كان الخطاب السياسي في طفولتي يشيع حقوق النساء وكان بورقيبة يخطب دوريا حول تمكين الفتيات وجعلهن يتعلمن وكانت تلك الأفكار تصطدم بتقاليد المجتمع ومخاوف الأمهات اللواتي نشأن قبل الاستقلال أو بعده بقليل، وكانت تجاربهن مع التحرّر محتشمة لانتمائهن إلى الطبقة الوسطى والانحدار من الوسط الريفي الذي لم يتشبّع بقيم الاختلاط والتمدن بعد وخاصة بمجيء الصحوة الإسلامية وارتفاع أصوات الدعاة في بداية السبعينات وتأجج تلك الصحوة في الثمانينات فما ان بلغت التسعينات حتى كان الفكر الدعوي مسيطرا على العقول والأبصار يتنافس مع أيديولوجية الدولة حول تربية البنات وتحريرهن ويسلط علينا رقاب الشريعة والنموذج المثالي للمسلمة الصالحة المتناقض مع تحررها ومضاهاتها للرجال. فكانت الأقوال في واد والوقائع اليومية في واد، نواجه التمييز اليومي والمخاوف المتجدّدة والتوظيف السياسي من هذه الجهة وتلك. وهل كان يخطر ببال طفلة آنذاك أن البلاد في حراك وأن الأفكار في نمو وأنها لا تنمو إلا بالصدمات والحروب بين الأجيال وبين الطبقات والايديولوجيات وبين الفئات؟

وجدتك يا نوال صدفة بين الكتب وكأنك بعثت لي في ذلك المساء من السماء، منذ الكلمة الأولى قرأت نفسي بين سطورك، وقرأت خوف أمي وأهلي وفهمت تطلع بنات جيلي واصطدامنا بثوابت العقليات الجامدة منذ عقود، وفهمت حينئذ غضبها واتضحت لي حقيقة المجتمع المعطوب، فهو في حالة انتقال وغليان، وهو يسمح للذكور ما لا يسمح به للإناث وهو يخشى على الإناث ولكنه لا يربي ذكوره على احترامهن والحفاظ عليهن في مطلق الأحوال، ولأن المجتمع لا يربيهما بنفس القيم وبنفس المسؤولية فإن النتيجة أن تتحول الإناث إلى ضحايا والذكور إلى ذئاب، وعلى النساء أن يحافظن على الشرف الحميد وعلى الأمهات أن يتشددن في الخوف لحماية بناتهن من الوقوع في مصائد الذئاب ولكن هيهات، فإن الخوف يؤجج الاعتراض وكم من فتاة تقع ضحية في مصيدة فتكون نهايتها على يدي أهلها وناسها، وفهمت حين قرأت ذلك الكتاب أن البكارة التي تمثل علامة الشرف الوحيدة في منظور العادات كذبة كذبها المجتمع على نفسه وصدّقها ورأيت وجهي واضحا في صورة كتابك، رأيتُ كيف على النساء أن يحاربن ليحفظن أنفسهن وعقولهنّ في مجتمع يشير إليهن دائما بأصابع الاتهام. وأحببتُ أمي وأشفقت عليها حين أنهيت قراءة تلك القصص وفهمتُها بعد أن كنت أشعر بالظلم والغضب لانها لم تصدق أن تلك القصيدة ليست سوى قصيدة وعندما فهمت تلاشى الخوف وصرت أجد العبارات التي بها سأفسر لها فكرتي وغايتي ورسالتي وذاتي

ماعاد بمقدور أي كان بعد أن تعلمت مع مذكراتك أسرار قهر الفتيات والنساء أن يخضعني، فلقد صار عندي سلاح أحارب به كل ما يحيط بي من ظنون ومن مخاوف، ولقد تبين لي عندما فهمت علة المجتمع وأنها تتجاوز الدين إلى الخوف من الرغبة الأنثوية التي يتحكم بها الجميع ليروض النساء على الخضوع فيما يسمح للرجال بالتعبير عن ذواتهم واحتلال العالم والمرئية ، لقد تبين لي أن العلة كامنة في نظام العدالة وأن الدين ليس هو الغريم ولا الأخلاق ولا أمي ولكنها قيم مختلة لا تقوم على العدل ولا تعطي لكل كائن بشري ما له من حق طبيعي في الكرامة والاعتراف. فعرفت حينئذ عدوي لا هو الدين ولا السلطة العائلية ولكنه الظلم وللظلم وجوه اقتصادية وسياسية وأبوية وله تجليات وللانتصار سلاح وحيد هو المعرفة

فالمرأة غير مرئية في ثقافة المجتمع، يجب أن تلتزم حدودها ولا تكسر السياج وتقبل بالدور الذي يناط لها وتخضع للنواميس الاجتماعية . لكن المرأة التي تعرف تحرر نفسها وتحرر غيرها ذلك أنها بالمعرفة تكسر السجون التي لا ترى

في ذلك المساء وبعد أن أنهيت قراءة الكتب التي سحرتني شعرت أني مستعدة للعودة إلى البيت، وفهمت أنه ليس علي الهروب ولا الخجل، سأبقى وأحارب الأفكار الجاهلة التي تسبب بها الخوف، وسأتحمل مسؤولية تمردي. وكنت معي منذ ذلك اليوم أحملك صديقة بين ضلوعي، ففي قصصك كنت تقفين صامدة أمام القرية والقبيلة والعشيرة والأهل والإمام وكل وجوه السلطة الغاشمة وتقاتلين، وتعلمت أن الذي يملك الحق والصدق فإنه يملك الانتصار ولو جاء بعد حين. وعدتُ إلى البيت، طرقتُ الباب… وفتحت أختي الباب وهي توشوش أن عليّ أن اخفي وجهي من أمام أمي حتى لا تعاقبني… قلت لها: ليس عليّ أن أخجل واختفي… وقررت أن أواجه منذ ذلك اليوم كل مخاوف الشرف والفضيلة بنور العلم والأدب. ولم أتوقف عن قراءتك ولا عن البحث في المكتبة عمن تشبهك. تعلمتُ أن المرأة التي تواجه تنتصر مهما آل إليه الكر والفرّ، وتعلمت أن الذي يحارب يحيا وأن الذي يخاف يموت، ولما تحدثت عنك إلى والدتي وعن قصتك وختانك، رأيت في عينيها دموعا وروت لي ما تعلمه من قصص لصديقات ذهبت بهن تلك العادة السيئة إلى القبر لنزيف أو لتعفن للجرح بعد ختنهن. وكانت عادة الختان موجودة في جهاتنا عند بعض الناس الذين يخافون على يناتهن من الإغواء فيختنونهن ليوفروا لهن أملا في الحياة. ولم أفهم لم كل هذا الخوف من النساء إلا بعد سنوات عديدة حين قرأت أكثر وأكثر

عزيزتي نوال نعيش في مجتمع يبدو في ظاهره متدينا وهو منافق وفي سطحه عصريا وهو بدائي، لا بدائي بمعنى أن البدائية شتيمة فقد كان الإنسان البدائي مبدعا ومخترعا عظيما ومحبا للبقاء ولكن التعجرف الذي عليه حال مجتمعنا اليوم بخصوص الإنسان وما عليه من انفصام بين الاعتراف بالإنسانية وسحبها منه تدفعنا لا إلى التشاؤم بل إلى الأمل والى المقاومة

الطريق إلى الحرية يبدأ من المعرفة والتخلي عن المخاوف النفسية التي تأتي من العجز عن الدفاع عن النفس، والطريق إلى الحرية ليس سهلا ولكنه حين يقترن بالدّفاع عن الذات وبناء الاستقلالية والفرادة يمسي عملا يستحق العناء، وقد لا يكون ما كتبته في مؤلفاتك صالحا لكل زمان ومكان ولكن الجوهر الذي كررته وأكدت عليه هو الصدق ولعل تلك الكلمة مفتاح سحري لكثير من المشكلات

لقد كنتُ تقريبا طفلة يا نوال، لم أتمّ السنة الرابعة عشر من عمري بعد، وقراءتك غرست في تربة القلب برعم الصمود في وجه كل ما يهددني بالقصف، وكنتُ وحيدة يا نوال وكتبك أنت وكتب كتّاب آخرين آنست طفولتي وصبايا وأنارت كل المفاوز المظلمة في وجهي. هل تعلمين أن الصداقة بين طفولتي وطفولتك بقيت إلى اليوم كأنها كينونة مغايرة لي ولك؟ وهل تعلمين أن شعوري بالأمان وأنا أتوسد كتابا لك يضاهي هدهدة الأم لرضيعها؟ نحن لا نكتب قط لأنفسنا يا نوال نحن نكتب لطفولتنا ولطفولة الآخرين ولأحلامهم التي ستصنع ما سيكونون عليه. ولذلك أريدك أن تعلمي يا صديقتي أنّ كل الكتب التي كنت تكتبينها في هدوء وسعادة أو بدموعك وبألم وصلت لأرواح كانت ضمآنة لها ولنور كلماتها وأن كل المحبة التي أشعتها في الورق انعكست على وجوهنا، وأنارت قلوبنا، يجب أن تنعمي الآن في جنتك حيث أنت بهذا الصّفاء الذي ينبعث من قلمك إلى فتيات العالم المنكوب، إلى اللواتي كان عليهن أن يقاتلن لأجل كسب الاحترام كذات. اللواتي ولدن داخل الشك والخوف والقلق، اللواتي لم يضْعن في الزحام لأنهن قرأن ولأنهن تعلمن أن يقرأن حين رمت الصدفة كتبك الصادقة في طرقه

هل تعلمين يا نوال أني صرت كلما رأيت فتاة أشرت عليها أن تقرأك؟ أن تتعلم؟ أن تحمي وجودها وذاتها. النساء في التسعينات يعانين يا نوال وإلى اليوم يعانين ولقد كان الدليل إلى النافذة واضحا : اقرأن

التمرد على الظلم ليس سهلا ولا هينا ولكن التمرد قدرنا الجميل، ندفع ثمنه في حياتنا ولكن عزاءنا أننا لم نقبل بالمذلة. حاولت منذ اكتشفتك يا عزيزتي أن أضيئ بك كل الطرق المظلمة حولي وكم كانت كثيرة، ولأني كنت أدرس في معهد للفتيات فكم قرأناك وكم ضحكنا وكم تناقلناك خلسة بل كم سرقتنا حكاياك من ظلماتنا المحيطة بنا فكسرنا بصدى صرخاتك تلك السياج الشائكة وانطلقنا..هانحن قد تحررنا بك ومعك وحفظناك في قلوبنا وقلوب بناتنا وأبنائنا.. هل تعلمين يا عزيزتي نوال أننا صرنا نربي أبناءنا الذكور على هدى المساواة واحترام النساء لا فقط أمهاتهن.رفيقاتهن من الروضة إلى اللحد يا عزيزتي نوال.. فلا تخشي ظلمة القبر.. انه مضاء بمحبتنا الصارخة من قلوبنا حبا.. لا تخشي عزيزتي نوال فأبناؤنا أيضا يحبونك وبناتنا وكل النساء وقبائل الأجيال الحرة

قبل التعرف إلى كتابات نوال السعداوي كنت لا انتبه حين اطالع قصة من كاتبها، أمر عادي لأني كنت تقريبا طفلة ولا يهمني لا من الكاتب ولا من دار النشر ولا عتبات القصة او الرواية، ومع اكتشافي نوال السعداوي بحثت عن اسم الكاتبة الراوية وتعلق بذهني منذ ذلك اليوم اسمها كنجمة في الظلام

عزيزتي لم أصبح تلك الشّاعرة التي تمرّدت لأجل إثبات حقّها في أن تقول الشعر، لكنيّ وأنا أتقبّل نبأ رحيلك أحسستُ أن القول إن لم يكن شعرا لا يمكنه أن يعبّر عن مقدار حبي لك وامتناني

تنامين في قلبي نجمة ونخلة وارفة يا عزيزتي نوال 

تنامين ضوءا لدروب كثيرة

يا نجمة في الظلام 

زينب التوجاني