إلى راشد الغنوشي: من يعتذر لمن؟

أيام عصيبة مرت على أبناء سيدي حسين السيجومي وعلى الأحياء المجاورة الجيارة والزهروني وعلى البوليس كذلك، وعلى المواطنين والعائلات الضعيفة التي لا تملك حولا وقوة أمام العنف المستشري في الأحياء الشعبية وفي صفوف المراهقين، وأيام عصيبة مرت على التونسيين وهم بين مشيع لميت ومريض ومناضل لأجل قوته وقوت عائلته وبينما كان الأمن الجمهوري يتلاطخ مع شباب الجمهورية أمام وزارة الداخلية عشية 12 جوان وبينما كان البوليس يركل الشابات والشابات يصرخن في وجه البوليس وبينما كانت الأحياء الشعبية تغلي لمشاهد سحل فتى مراهق على يد الأمنيين وبينما كانت البلاد في حالة الحداد والحزن واليأس والألم كان ثمة شخص سعيد جدا يبتسم ويلوح ويهتز بالتصفيق ويمشي على الزرابي المفروشة وبين الورود ويشرق كالبدر بين الكراسي التي اصطفت لاستقباله: إنه الغنوشي. هل تعلم ايها القارئ الكريم أي قضى الغنوشي مساءه في وقت كان شارع الحبيب بورقيبة يشهد كرا وفرا بين الأمن والشباب الغاضب؟ لقد قضاه يحتفل في سيدي بن عروس ويترنم بالأهازيج ويوزع أشجار الزيتون الفضية ويسلم على أخوات الحركة في بن عروس ويقبل أطفالهن ويفتر شانبه عن الخبث الصامت لبلد يئن

فانظروا يا سادتي ملابس المجتمعين وتدابير حفلهم وقارنوا بينها وبين أمهات سيدي حسين السيجومي وبين وجوههن الحزينة، وانظروا إلى الورد الذي زينوا به المنصات وقارنوا بينه وبين الرصيف العاري الذي عرى عليه أولاد الشعب من البوليس أولاد الشعب المنكوب

ولقد قام الغنوشي بالواجب فقد ندد واستنكر في بيان صدر لحركة النهضة يوم الخميس 10 جوان 2021 عقب انعقاد مكتبها التنفيذي برئاسته، وأعلن أن حادثة سحل فتى عاريا في سيدي حسين السيجومي سجلت تجاوزا كاملا لكل القيم والأخلاق وقيم الأمن الجمهوري. وطالب بتحديد المسؤوليات ومحاسبة كل من يثبت تورّطه في هذه الواقعة، مشددا على ضرورة توفير الحماية الجسدية والقانونية والرعاية الطبية والنفسية للمواطن

خطاب خشبي بلا طعم ولا رائحة يأتيه مرشد الجماعة التي عانت طويلا من السحل والتعذيب تحت الأنظمة التي حاولت الانقلاب عليها. والتي علقت في حفلة بن عروس صورا لشهدائها وضحاياها الذين ماتوا وهم يحاولون قلب النظام لصالح الدولة الدينية. ولم يذكر لنا الغنوشي هل كان مقبولا لو تجاوز البوليس تجاوزا أقل القيم والأخلاق أن يكون ذلك مسموحا أم لا فالمشكلة حسب البيان يكمن في الإفراط في التجاوز لا التجاوز

ولقد أرسل الغنوشي للنخبة التونسية قبل يومين رسالة يقول لهم فيها : « هناك مظلمة أخلاقية تمارسها جزء من النخبة في حق المناضلين لاعتبارات ايديلوجية واجب علينا حلّها بترسيخ ثقافة الاعتذار ورد الاعتبار والعفو والتعايش المشترك » ولعل هذا من المضحكات المبكيات، فالاعتذار ندين به إليكم وانتم الذين خربتم من أربعين سنة خلت هذه البلاد وشعبها وزرعتم فيه بذور الوهم والتخلف والفرقة، وانتم لا تزالون تفرقون بين الناس على أساس الايدولوجيا الاخوانية وتعتبرون أنفسكم ناجين وأصحاب الجنة وغيركم في الجحيم

ان الفتى المراهق الذي عروه من ملابسه لم ينقص ذلك شيئا من كرامته عندي ولكن بعض الناس الذين يلبسون أفخم الملابس والأقنعة أراهم في عري فظيع: تعروا من أخلاقهم التي يتشدقون بها وتعروا من واجبهم تجاه الوطن وتعروا من كل القيم وتشبثوا بالسلطة والانتصار وفعلوا كل شيء ليبقوا على رؤوسنا يحكموننا إلى الخراب والجهل والانهيار. فانتم العراة وانتم الذين انكشفت سوأتهم وسوأتكم السلطة والنرجسية والجهل

فمن يعتذر لمن؟ ومن يعترف لمن؟ ومن عليه الآن أن يخجل وهو ينافق أتباعه وينافق المواطنين؟ ومن الذي يتحدث عن المواطن وفي عقله ترقد مفاهيم غبية خرقاء وهو عار تماما من الحكمة والفهم والعقل يمشي بين الناس بسوأته ولو تخفى بالبدلة الفرنجية. وسأعود إلى أربعين سنة من النكبة التي تحتفلون بها بتفصيل لاستعرض خرابكم وأذكّر به فكفّ يا راشد الغنوشي عن لعب دور الضحية فأنت الجلاد وأنت سبب كل هذه المأساة التي ورطت فيها مناضلي حركتك لعقود وورطت فيها تونس وشعب تونس، إنك أنت من ورطتنا في جنونك فانظر وجهك في المرآة واكتسي بالعقل مرة واحدة

********

بمناسبة الاحتفال بأربعينتها نظمت حركة النهضة الإخوانية ندوة بداية شهر جوان الجاري تحت شعار « 40  سنة من النضال والمسؤولية » ولقد تمحورت هذه الندوة حول « الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية: الواقع والرهانات وسبل تجاوز الأزمة » . لقد مرت 4 عقود على تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي الإخوانية التي أصبحت تسمى نهضة، ومنذ تأسيسها في سنة 1972 كانت دعوة إسلامية سياسية وعملت في السرية التامة ثم خرجت للعلن في 1982 وشرعت تصدر البيانات وتصادم النظام . ونذكر قارئنا الكريم بحادثة دالة جرت في البقالطة يوم الجمعة  19 فيفري   1982 حيث تم اقالة إمام الجمعة بالبقالطة يدعى الشيخ الهادي زيان لأسباب تتعلق بنشاطه الدعوي وصراع الدولة مع التيار الإسلاموي لمحاصرة الخطاب الديني السياسي في الفضاء العامّ، فتم تهييج الأهالي الذين طالبوا بإعادة الإمام وأصدرت الحركة بيانا أمضي باسم حركة الاتجاه الإسلامي يندد بممارسات « الدولة الاإسلامية « ويحرض ضد النظام ويتهمه بالعلمانية ومعاداة الدين مؤكدا على مفاهيمك « الإسلام الصاعد » و »دين الله » و « مواكبة الحياة ضمن شرع الله » واتهم البيان الدولة بجعل المساجد « للصلاة فقط  » فهذا إقرار أن الدولة لم تحرم الصلاة وإنما حاولت تطويق ما ينشط في تلك الفضاءات من دعوة إلى قيام أمة لاوطنية لها روابط اقليمية ومفاهيم مناقضة للتطور الطبيعي للدول الحديثة، ومن ذلك طالب البيان الدولة بترك المساجد لتقوم بشؤون الدين والدنيا متشبثا بفهم ماضوي لدور الفضاءات الدينية التي صارت في عصرنا الحديث تميل إلى أن تكون فردية حتى أثناء الصلاة الجماعية فالإنسان المؤمن يصلي لربه ليخلص فرديا وليطيع ربه فرديا وليعيش روحانية دينية تخصه هو في علاقته بربه وروحه ومصيره وحياته الباطنية وهو ما يؤكد عليه القرآن الكريم بآيات بينات تثبت أن كل نفس بما كسبت رهينة وأن كل امرئ مسؤول عن أفعاله ولكن الاتجاه الإسلامي يريد من الحياة الروحية أن تصبح مرتهنة للجماعة ولمرشد الجماعة يسيرها حيث تشاء أهواؤه ولتصبح في خدمة الأمة وتفقد الحياة الدينية طابعها الروحي لتمسي تحت التوظيف السياسي والإيديولوجي وفي منطق لعبة دولية وإقليمية لا رابح فيها سوى أصحاب المطامع والمصالح الكبرى

هذه حادثة صارت سنة 1982 بعد أحداث مريرة مرت بها البلاد في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وبغض النظر عن الحالة السياسية العامة للبلاد حينئذ فمن الواضح أن الدولة والمجتمع التونسيان كانا يواجهان تحديا عظيما: التنمية المتعثرة في السبعينات وصعوبات اقتصادية جمة وسياق عالمي متحول بعد سنة 79 وفي الأثناء تزرع في خاصرة البلاد تنظيمات ذات توجه انفصالي يعني تقسم المجتمع مستغلة الجهوية والطبقية والفقر والجهل والغضب العام من فشل الحكومة ومن الاستبداد القائم ذي الطبيعة الابوية لدولة لم يتغلغل في نسيج مجتمعها الوعي المدني والتحديث بعد ولم يتأهل شعبها لممارسة الحكم الذاتي النابع عن المسؤولية والقيم الحديثة، إن الاتجاه الاسلامي جاء في وقت حساس فقسم خاصرة المجتمع التونسي وأحدث شرخا في عمق أعماقه وعطل مساعي التحديث وتشبث بفهم حرفي وايديولوجي للدين وزرع الايمة في كل المساجد والفضاءات الخاصة والعامة وجعل من معاداة الدين سلاحا في وجه التحديث والعلمنة وصار يحارب بالمجتمعِ المجتمعَ ويمزق أوصاله إربا إربا وهذه حلقة من الحلقات وفي الحلقة المقبلة سنروي لقارئنا الكريم عن القولة الشهيرة: ثقتنا في الله في السماء وفي بن علي في الأرض، وعن حلقة ثانية طلعه فيها البدر علينا من ثنيات المنافي فأظلمت بمجيئه الآفاق وادلهمت…بحثا عن النضال وعن المسؤولية اللتين رفعتهما النهضة شعارا وهي تحتفل باربعينيتها وتحيي ذكرى هذه الأحداث المريرة التي قسمت المجتمع وأضعفت قوته ومناعته وحيويته الذاتية وجعلته مرتهنا للأفكار الغيبية والقائمة على الالتباس والفهم المتأخر عن علوم العصر بقرون. فانتظروا يا سادتي حلقاتنا المقبلة نذكّر الاتجاه الاسلامي بنضالاته ومسؤولياته العميمة التي جعلتنا اليوم ندور في حلقة التجاذبات الايديولوجية المفرغة لا تنمية ولا تحديث ولا اقتصاد ولا هم يحزنون

بقلم زينب التوجاني