إصلاح القضاء يتطلب وقفة على الماضي

القاضي في الحضارة العربية، أخبار القضاة لوكيع أنموذجا، لحنان بالشاوش، من منشورات كلية الآداب بمنوبة صادر في سنة 2021، لكنه راهن قد يحتاج العموم إلى قراءته لفهم جانب من جوانب تعطل مؤسسة القضاء في بلادنا، فإن كان القارئ الكريم يظن أن عطب القضاء والسياسة في تونس يعود إلى سنوات قليلة فإن مثل هذا الكتاب يبدد الوهم ويقطع الظن

فأما وكيعُ فهو رجل مارس القضاء في عهد الدولة العباسية في منطقة الأهواز بالتحديد، فجمع لنا فيما ترك أخبارا عن قضاة عصره عرفهم عن كثب، وكتب عنهم منطلقا من أمرين حسب ما قالت الكاتبة، الأول معرفته الشخصية بهم والثاني معرفة بمؤسسة القضاء وشروطها ووظائفها. وأما الكتابة عن القضاة فإنها تدل على أهمية خطة القاضي وعلى علاقتها بأمرين: عدالة السماء بما أن القاضي رتبة دينية يطبق أحكام الشريعة، وعلاقتها بالأرض بما أنه يحكم بين الناس في مصالحهم فالقاضي بيده العدالة. وهكذا فقد عرفت حنان بالشاوش بهذا العالم وبهذه الاخبار فقدمت الأثر الطريف وكاتبه وضبطت تاريخ خطة القاضي وتطورها في الثقافة العربية الإسلامية وحدثت عن نشأة الخطة منذ المرحلة النبوية إل عهد الخلافة وتطورها مع الامويين والعباسيين ثم عرضت أنواع القضايا والنوازل التي كانت تعرض على القضاة وشروط القضاة وآدابهم وعلاقتهم بالسياسيين، فمن شروطهم الإسلام والذكورة والبلوغ والعقل والعلم والعدالة وسلامة الحواس والقوة والحزم والورع والتقوى والنزاهة والعفة والهيبة وغير ذلك. وأما آدابهم فمن شروطها لباس مخصوص ومأكل مخصوص وجلوس مخصوص وعلاقات محددة بالمحيطين به إذ يضرب بالقاضي المثلُ. وأما علاقة القاضي بالسلطة السياسية فمضبوطة بأخلاق القضاء فبين الرشوة والهدية والتزلف والتوظيف والتقرب للسياسي والوقوف منه موقف المعارضة يقف القاضي العربي مواقف شتى وتتنوع أخبارهم. فها نحن في قراءتنا لكتاب القاضي في الحضارة العربية نرى القاضي المعاصر، هنا نزيه وهناك مرتشي وهنا لا يقبل الهدايا ولارشاوى وهناك يحابي ويتصرف في الملفات وهنا يقف أمام السلطة السياسية بحزم ولو كان في ذلك محنته وهناك يخضع ويتقرب للسياسي ويكون أداة من أدوات هيمنته. فكأن القضاء التونسي في جوهره بقي كعهده بالقضاء منذ نشأ مؤسسة بحاجة للمراجعة ولسلطة عليا تقف حائلا ضد أن تصبح المحاكم عصا للسلطان، فتبدل الشكل الخارجي فإذا بنا أمام نساء قاضيات وهذا تطور هائل ولكن جوهر سلطة القاضي لا تزال في صراع وطيس مع السياسي فمرة يخضع القضاء للتعليمات الآتية من السلطة التنفيذية ومرة ينفلتُ ومرة يستقل القضاء بذاته ومرة يخضعُ للاكراهات، ومرة يعتز القاضي أو القاضية بحريته التي يستمدها من القانون ومرة يفرط فيها. إن قراءة كتاب حنان بالشاوش يضيء عمق المشهد الصعب للقضاء التونسي فيعود بنا لماضينا الثقافي ليكشف أسباب خور حاضرنا ويكشف مدى تطورنا في نفس الوقت. وإن شعار إصلاح القضاء لا يمكن أن يقتصر على جهود القضاة فقط بل يخبرنا التاريخ أن إصلاح المؤسسة القضائية يتم عبر إرادة جماعية حضارية تفكك أصول المشكل الثقافية لتعيد تركيب الحل، وأصول المشكلة كامنة في أنها مؤسسة نبتت في ثقافة الاستبداد وترعرعت في ظل حاكمية الغيب وتفاعلت مع صراعات التاريخ العربي الإسلامي الدامي فإذا بنا أمام مطارق الحداثة أخذنا أشياء كتأنيث القضاء ولكن تركنا أشياء بنفس القدر من الأهمية أي الاستقلالية عن كل سلطة خارجية سوى سلطة التشريع نفسه، ولهذا فإن مؤسسة القضاء لا يمكن أن تصبح في خدمة الشعب ما لم تحسم جوهر سلطتها وتعتمد على العقد البشري الكامن فيها ذلك الذي يجعل القضاء أعلى من القاضي والمتقاضي والذي يحول السجين إلى إنسان له حقوق والشاكي إلى مواطن ويحول العلاقة بين الفاعلين إلى علاقة عقد اجتماعي يعلوه القانون لا غير

كتاب ممتع يسرد أخبارا ولت بمنظار أكاديمي لكنه يضيء انوارا على الحاضر لعلّ شيئا من النقد يهب على الفاعلين وإن في قراءة الكتب لحياة لمن يقرؤها وللكتب معا. ولعل في انتشار العلم والمعرفة وقراءة الكتب العلمية حياة جديدة تجعلنا نصوغ علاقات جديدة بمؤسسات خطيرة كالقضاء في علاقتها بمصالحنا كمواطنين وبالسلطة السياسية

زينب التوجاني