«إرادة الشعب» تصطدم بـ «الإكراهات»

لم تكن كلمة رئيس الجمهورية قيس سعيّد يوم الخميس 23 ديسمبر 2021 بقصر قرطاج في اجتماع مجلس الوزراء الذي خُصّص للتداول في مشاريع مراسيم وأوامر رئاسية أهمّها على الإطلاق ما تعلّق بقانون المالية والميزان الاقتصادي للعام 2022، عادية، ليس في مستوى الشكل بما أنّنا سجّلنا بعض التشنّج والحدّة و«المفاجآت» المتصلة بالتهديدات وبـ «أعداء الوطن» وهو أمر معهود في الخطاب، ولكن في المضمون، ولسنا نبالغ حين نقول أن الصبغة الاستثنائية هي في استعمال عبارة واحدة جدّ هامة وهي التي تختزل ما وصل إليه ساكن قرطاج بعد زهاء خمسة أشهر من الاستئثار بالسلطة تحت يافطة التدابير الاستثنائية بعد سنتين كاملتين من الحكم بصلاحيات محدودة

العبارة الاستثنائية أو السحرية أو كلمة فصل الخطاب، إن جاز القول، هي «الإكراهات»، أجل الإكراهات التي حكمت وضع مشروع قانون المالية لسنة 2022 : لا سيّما وأن تونس أمام إرث ثقيل لا يمكن تجاوزه إلا بقرارات جريئة لعلّ من أهمّها التوزيع العادل للثروة ووضع حد لشبكات الفساد التي تُنهك المالية العمومية وتضرب النموّ والاقتصاد

بعبارة أخرى، تم الانحناء للإكراهات في وضع قانون المالية بما أنّه : لم تكن هناك اختيارات كثيرة لإدخال الإصلاحات المطلوبة من الشعب بالنظر إلى الأوضاع المتراكمة

ولطمأنة الشعب الذي يريد التغيير الجذري أكّد الرئيس أن القناعة لا تزال متوفرة : بأن الإصلاح يجب أن يستمر وفق إرادة الشعب صاحب السيادة

وحتى يهضم الشعب مسألة الإكراهات التي ضيّقت مربّع إرادته : شدّد رئيس الجمهورية على أن المهم هو أن تكون نصوص المالية العمومية أقرب للعدل والإنصاف حتى لا تنعكس القواعد سلبا على الأغلبية وعلى الفقراء وحتى يسود العدل وتعمّ الحرية الحقيقية… والعدل يقتضي أن يكون هناك قضاء مستقل يتساوى أمامه الجميع

والحقيقة أنها ليست المرة الأولى التي ينتصر فيها منطق الأمر الواقع على النوايا الطيبة، فقد سبق أن تحدّث رئيس الجمهورية ذات يوم عن حلول الأزمة التي تعصف بالبلاد وعن ضرورة وجود «الحلول غير التقليدية» وهي أيضا جملة ثورية جميلة لكن ما رافقها من اقتراحات وحلول كان مجرد استئناس وعودة إلى الحلول التقليدية ذاتها كجمع التبرعات عبر الصناديق

ثانيا، وهذا أمر على درجة كبيرة من الأهمية، لا يمكن لمن يضطلع بأعباء الحكم، في ظل الإرث الثقيل وفي ظل الإكراهات الكثيرة التي تتحدّى إرادة الشعب – إذا سلّمنا بأن الشعب يريد – أن يضمن السير الهادئ في الجغرافيا الصعبة دون استخلاص دروس وعبر التاريخ

ببساطة، هناك مجتمع سياسي ومدنى «قويّ»، قد نستسيغه وقد لا يُعجبنا، لكنّه شريك في الوطن وشريك في تعديل أو صياغة أي عقد اجتماعي، وهو ضامن للاستقرار والسلم الاجتماعي ولا فائدة في العودة على سبيل المثال إلى دور منظمتي الأعراف أو الأجراء بالخصوص في كل مرّة للبرهنة على ما ثبت في صفحات الماضي

هو الاشتراك في الوطن وهي التشاركية التي يتحدّث عنها الجميع اليوم كوصفة تونسية تونسية للخروج من الأزمة المركبة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقيمية بين من لم يكونوا مسؤولين عن الخراب الذي حل بالبلاد

لقد انتهى زمن المعجزات وزمن الأبطال الخارقين الذين يغيّرون مجرى التاريخ، والشعوب قد تستهويها الرغبة في التغيير الجذري وتعبّر عن استعدادها للتضحية من أجل ذلك خصوصا عندما لم يعد لها ما تخسره، لكنها حين تكتشف أن موازين القوى خلقت أمرا واقعا في غير صالحها وأن من تقدّم لقيادتها خضع لإكراهات هذا الواقع، حينها ستلوذ كما جاء في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى «العصيان والتمرد» على الواقع وعلى الإرث الثقيل

أما إرادة الشعب ومشروع البناء القاعدي الذي يروّج له البعض اليوم فهو لا يهدّد وجود المجتمع السياسي والمدني فقط وإنما التجربة الديمقراطية في تونس برمتها وهو في تقديرنا ضرب من الترف الفكري والتنظير من الأبراج العاجية وتعلّق بقشة الشرعية والمشروعية التي لا معنى لها إذا لم تأخذ بعين الاعتبار دقّة الظرف وخطورة تعثّر الزمن السياسي في وقت يتعرّض فيه الحق في الحياة للخطر حيث ليس غريبا أن نعيش مجددا سيناريو ما قبل 25 جويلية 2021 ومن لا تقتله الكورونا يفتك به الجوع والفقر في هذا الشتاء الصعب

بقلم: مراد علالة