اتّبع عقلك، فالعقل نبيّ (6) : في « عدالة » الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ

تقريبا كلّ أمّة لها أصول خرافيّة، جديرة بالاحترام بما هي أساطير ورموز مؤسّسة، لا تقرأ قراءة حرفيّة. أمّا القبائل البدائيّة فهي الوحيدة الّتي تقرأ أساطيرها المؤسّسة حرفيّا. وهكذا تصبح ملكا لتراثها، بدلا من أن يكون تراثها ملكا لها: تدرسه، تحلّله وتنقده، لتجعل علاقتها به شفّافة. في المقابل، الأمم الحيّة تجعل دائما مسافة بينها وبين أساطيرها المؤسّسة
العفيف الأخضر، إصلاح الإسلام: 43 العفيف الأخضر، إصلاح الإسلام:20

– 119 –

ليس من نصّ إلاّ وله قارئ. ولا وجود لنصّ يقرأ مرّة يتيمة، ثمّ يلزم قرّاؤه على مرّ الدّهر بتلاوته وتجويده وحفظه واستعراضه عن ظهر قلب. فالنّصّ الّذي لا تقرأه الأجيال المتعاقبة وفقا لحاجياتها هو نصّ ميّت أو مشرف على الموت. والنّصّ المقدّس أحوج إلى التّدبّر العقليّ من أيّ نصّ تراثيّ آخر، وإلاّ انقلب وحشا منفلتا وأتى على الأخضر واليابس في عالم لا مكان فيه لوحوش الأساطير والخرافات. ولا عجب في ذلك، فلا مكان فعلا للدّيناصورات في مدننا اليوم

– 120 –

الأزمة الّتي يعاني منها الإسلام اليوم، ونعاني منها نحن الّذين ألقت بنا صدف الميلاد والجغرافيا تحت رايته، هي أزمة مرجعيّة، لن ننجو منها ما لم نهزم فينا نداء السّلف، روحا وبزّة وسلوكا وخطابا. يتوهّم أشياع الإسلام السّياسيّ (الّذي أضحى دستوريّا، وحاز بذلك على السّلاح الّذي سيفتح أمامه أبواب التّمكين على مصراعيها) أنّ بالإمكان أن تتوالى الأجيال كحبّات السّبحة لتنتظم في دورات من الأعوام والقرون والدّهور المكرّرة، تنعدم بموجبها الحدود بين السّابق واللاّحق، أي بين الموت والحياة

– 121 –

هاتوا لي برهانا واحدا يا جهابذة الزّيتونة – وغير الزّيتونة من مراكز « العلم » الحنيف في مختلف الأصقاع الإسلاميّة الّتي نخرها فيروس التّقليد حتّى النّخاع – ينير سبيلي فأقتنع، كما اقتنعتم أنتم وغيركم من الشّيوخ والحفّاظ الأشاوس، أنّ « للذّكر مثل حظّ الأنثيين » و »النّساء ناقصات عقل ودين » و »لا يفلح قومٌ ولّوا أمرهم امرأة » هو منتهى المساواة والعدل وإن أجمع العالم بأسره أنّها عنوان التّمييز والحيف. قد تكون هذه « الفرائد » من آيات العدل زمن صياغتها، ولكنّها لا يمكن أن تكون كذلك بمعايير زماننا هذا، تماما كما أنّ الإبل اليوم لم تعد مطايا مرتادي البلد الحرام. متى يدرك الماسكين على هذه « الفرائد » البالية أنّ « التّراث » منظومة من المبادئ والقيم وليس سوقا ننتقي منها ما نتوهّم أنّه صالح ونهمل ما عدا ذلك

– 122 –

الحياة أكبر من أن تسجن بين دفّتي كتاب، ولو كان كتابا مقدّسا. وقانون النّسخ أكبر دليل على ذلك. على الكتب المقدّسة إذن، وأديان الكتب المقدّسة أن تستجيب لداعي الحياة، لا أن تستجيب الحياة لداعيها هي، وذلك لأنّ الحياة أوّلا الأصل والأديان هي الفرع (ولو لم تكن فرعا لما انقرضت مئات العقائد)، ولأنّ الحياة ثانيا لا تستجيب لداعي أحد كائنا من كان. فلنبتكر لنا إذن، من رحم التّراث العتيق (التّراث الإنسانيّ، أمّا التّراثات المحلّيّة فهي قاصرة أن تلبّي كلّ حاجيات أصحابها، يستوي في ذلك كلّ الشّعوب والأمم) دستورا عصريّا، أو فلنوطّن النّفس على الاندثار

– 123 –

إن كنت لا أحيا إلاّ مستعيدا حياة من سبقني إلى الوجود، فلماذا وجدت أصلا؟ بل لماذا منح الإله سلفي امتياز الوجود والابتكار، فصاغ حياته على هواه – أو على هوى ربّه، لا يهمّ – وحرمني هذا الإله نفسه من حقّ التّمتّع بنفس هذا الامتياز الّذي لا معنى للحياة بدونه؟ لو جاز هذا المحال، فبماذا سترى اللّه يؤاخذني، وقد قرّر لي سلفا أن أكون مجرّد نسخة باهتة من سلفي، أستنسخ فضائله وموبقاته على حدّ السّواء، لا فرق لديّ بين السّلام والدّماء؟ تلك هي العظاميّة الّتي هجاها الشّاعر القديم بقوله :

إِذَا مَا الْحَيُّ عَاشَ بِعَظْمِ مَيْتٍ *** فَذَاكَ العَظْمُ حَيٌّ، وَهْوَ مَيْتُ

– 124 –

متى يدرك المتدلّهون حبّا بأوامر السّماء ونواهيها أن لا شرعيّة ولا طاعة لسماء تسوس الأرض وأهلها بهراوة الرّاعي؟ لقد فرض الإسلاميّون « إسلامهم الدّستوريّ » على الجميع بعنوان الحرّيّة، ولكنّهم سرعان ما انقلبوا عليها حالما آنسوا من أنفسهم القدرة على الانفراد بالأمر، مستلهمين في ذلك تراث أسلافهم « المقدّس » الّذين كانوا يسوّغون الاستبداد بمبدأي « الغلبة » والشّوكة »، اللّذين عبّرا عنهما ابن خلدون بالعصبيّة. بمقتضى هذا المبدأ قتل الحسين بن علي، وبمقتضاه جرت الدّماء أنهارا

– 125 –

من صميم الأخلاق أن يدان الظّلم أيٌّ كان مصدره، لا أن يسوّغ باسم أهواء ألبستها العقائد الجامدة مسوح التّمييز والقهر. هل من الجائز اليوم أن نقضي بالدّونيّة على نساء تونس لأنّ متعمّما نطق بما يزعم أنّه « إرادة السّماء »؟ ولماذا يتعيّن على « السّماء » الّتي يصدر عنها هذا « المتعمّم » أن تكون عدوّا لدودا للنّساء، و مواليا أزليّا للرّجال؟

– 126 –

لو كانت الكرامة هي مراد السّماء فعلا لكان البشر في نظرها سواء، بل لعلّها لم تكن جازفت فخلقتهم مختلفين لتكون لهم في اختلافاتهم أسباب لمواجهات لا تنقضي. والحقيقة الّتي لا مراء فيها أنّ الإنسان هو من أنطق السّماء بما أراد، وهو من ينطقها اليوم بما يريد. والدّليل على ذلك أنّ الطّاهر الحدّاد – رحمه الله – أنطقها بخلاف ما أنطقها به معاصروه من « علماء » الزّيتونة. فمن منهم كان على صواب، ومن منهم كان على خطأ؟ ومن منهم كان حريصا على كرامة الإنسان – كلّ الإنسان _، ومن منهم كان – وما يزال – من المفرّطين فيها، وفي كرامة النّساء بصورة خاصّة؟

– 127 –

كيف يكون العدل في الحطّ من قيمة إنسان إلى النّصف أو الرّبع، أو في إعدام وجوده كلّيّا، فلا يبرز إلى الوجود – إن سمح له بذلك – إلاّ متواريا في كفن أسود؟

– 128 –

لا شيء في الوجود بإمكانه أن يظهر على الموت ويلغيه ما لم يرضخ لداعي الحياة وإكراهات التّاريخ. وكذلك الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ اليوم، لن يعتقه الموت ما لم يرم عنه لعنة السّلف وإملاءاته الجائرة الّتي تشرّع للسّحل والذّبح والحرق والإغراق، وكلّ أفانين التّنكيل الّتي تبسّط عبّود الشّالجي في شرحها في رائعته الموسومة بـ « موسوعة العذاب » ، لا نظنّه استوعب فيها هذا الموضوع المثير بالنّظر إلى الاكتشافات الباهرة الّتي ابتكرها الجهاديّون المعاصرون، فلذات أكباد لصوص لصّ اللّه المتنكّرين في مسوح الزّهّاد والرّهبان

– 129 –

حرّاس الهيكل أقاموا الدّنيا ولم يقعدوها وتنادوا على المنابر بالويل والثّبور، يزعمون أنّ أرض تونس ستنخسف بأهلها، وأنّ سماءها ستنطبق على أهلها لأنّ « كمشة » من المارقين الغواة لم تنفكّ تنادي بالمساواة في الإرث بين النّساء والرّجال. وهذا خروج عن صريح النّصّ. ولا رادّ لمشيئة النّصّ

– 130 –

لو خيّرت بين الإيمان والعدل لاخترت العدل بدون تردّد، ولسوّيت في قلبي ومالي بين أبنائي وبناتي. ودليلي في ذلك أنّ الله لا يجيز الظّلم ولو زعمت النّصوص عكس ذلك. ودليلي في ذلك أيضا أنّ الغاية في المقاصد – وهو متحوّلة في الزّمن -، وليست في النّصوص المتكلّسة الّتي اندثر الجزء الأعظم منها بالتّقادم

– 131 –

ما بال « المؤمنين » لا يستنكفون من إضافة الظّلم إلى إلههم، ويتهدّدون بالويل والثّبور من يجهدون أنفسهم ليدرأوا عنه الحيف والجور؟ ومن الظّلم – للإله وللإنسان معا – أن تبزّ التّشريعات الوضعيّة اليوم الشّريعة عدلا

– 132 –

كان امتهان النّساء دوما من سيماء أهل الفضل والرّحمة والاستقامة، يشطّ فيه حدّ الإسفاف أحرصهم على أمور سمائه ونواهيها. انظروا في مصنّفات « السّلف الصّالح » وستذهلون عندئذ لما سطّر فيه من وافر الزّراية والمقت لجنس حوّاء. وقد نجد للسّلف عذرا في حطّه من شأن المرأة، فقد كان ذلك دأب الرّجال كلّهم في كلّ الثّفاقات، ولكن ما عذر رجال اليوم في تشبّثهم بتراث تجاوزته المنظومة الأخلاقيّة الإنسانيّة (وإليها ننتمي اليوم، أحببنا ذلك أو كرهناه) العصريّة بأشواط لا تحصى

– 133 –
لا فرق بين أنثى وذكر إلاّ بالمواطنة، ولا شيء غير المواطنة

– 134 –

حذار أن تغترّوا بمختومي الجباه من المجاهرين بفاحشة التّقوى من المستظلّين براية الإسلام السّياسيّ بكلّ مشاربه، ولتعلموا أنّ الاستقامة ليست في الورع، حقّا كان أو باطلا. ومن الورع ما يفوق الباطل رجسا حتّى ليكاد يكون الرّجس بعينه. ولتعلموا أنّ الالتزام بمقتضيات المواطنة هو أعلى درجات الورع. أفليس الورع هو أن تحبّ لغيرك ما تحبّه لنفسك؟ والعدل من صميم الورع، ومن صميم الورع أيضا الكفر بكلّ حدود الميز والتّفرقة والمفاضلة. فليس ورعا من أقام ورعه على قناعة لديه أنّه ب الأنام فضلا. فإن لم يكن كلّ هذا، انقلب الورع فسقا وجورا

– 135 –

كيف يلتفت الإله إلى الغثاء المتهالك عند قدميه طمعا وشرها، يزجي حياته في الذّود عن « جوره » تقرّبا إليه زلفى، وكان الأحرى به أن يضرب في مناكب الأرض سعيا، وفي أعماقها تنقيبا وبحثا، ويجتهد في ذلك قصارى جهده حتّى يبلغ ما وراء العرش؟ أليس عجيبا أن يقنع بسراب « الإعجاز العلميّ » هؤلاء الذّين يزعمون أنّ إيمانهم ليس للعلم عدوّا؟

– 136 –

لو أتيحت لي فرصة الحديث إلى الله في علاه لكنت ابتدرته سائلا
– أبأمرك يلهج « علماء » الزّيتونة في رفضهم للمساواة بين عبادك من الإناث والذّكور؟
ولكان سبحانه أجابني ومن على نهجي من السّائلين لأنّ الله يكره من عباده من يروغ عن سنن العلماء، وليس منها ترديد الببّغاوات
– لا يأمر بالظّلم إلاّ الظّالمون، السّادرون في الغيّ

ولعلّي كنت سأسأله ثانية
– فبماذا أردّ على من يزعم أنّك قلت وألاّ مناص من إمضاء ما قيل؟
ولا يخامرني الشّكّ أنّه جلّ وعلا كان سيقول موضّحا لي ولمن على أثري من الملمّين بحياض السّؤال
– ليس كلّ ما قيل للماضين جديرٌ أن يقتدي به أهل هذا الزّمان. ومن لم يدرك من عبادي أنّ جوهر الإيمان في المقاصد لم يدرك لأوامري ونواهيّ كنها، وغاب عنه بالضّرورة أنّ لكلّ عهد ما يلائمه من الشّرائع والأحكام لأنّها فانيةٌ والدّهر مستمرٌّ، ولا يصمد لكرّ الأيّام شيءٌ. لو كانت شرائع الماضي هي اللّبّ لكنت قضيت على الدّهر بالجمود ولكنت أسكنت خليفتي في الأرض في إهاب الحيوان المجترّ لأنّه ليس في طبع الخليفة أن يرضى من دنياه بحظّ المقلّد المجترّ. ضالٌّ مفتر من يرقى من الرّعاة درجات المنبر ليبثّ في وجدان رعيّته أنّني اخترت لها الموت على الحياة. أفي جبّانة مقيمٌ هو أم هو بين الأحياء يسعى؟ وإلى ما يسعى السّاعي، وكيف له أن يبلغ ما وراء العرش وقد أحبط راعيه سعيه فزيّن له أنّ خير السّعي في الخمول؟

– 137 –
الخشية لا تولّد حبّا، بل تولّد خوفا مرضيّا من قبلة كان من المفروض أن تكون مصدر إلهام وتوق نحو الأفضل. وقد وفّق الإسلام السّياسيّ أن يجعل الله مخيفا وأبدع في ابتكار أساليب العذاب والتّنكيل الّتي أعدّها الله للخارجين عن نهجه في الدّنيا والآخرة، وتطوّعوا للاضطلاع بما يهمّ الدّنيا منها حتّى تلطّخ الكون بالدّماء وأضحى « الإسلام » في وجدان شركائنا في العالم صنوا للإرهاب

– 138 –

لن أقرّ بضرورة التّمييز بين الذّكر والأنثى ما لم تقرّوا بأنّ الأنوثة وصمة في عرف الإله الذّي أنتم له ساجدون. وحاشا أن يكون الله للممتهنين الظّالمين ظهيرا. فإن كان الله منزّها عن الظّلم، فمن هو المسؤول اليوم إذن عن الحيف الّذي جعل للنّساء قسمة، يراد لها أن تكون أبديّة؟

– 139 –

ليس من أنصار العدل والحرّيّة – أو الدّيمقراطيّة تبسيطا – من يقدّم الثّوابت على الحياة ومتطلّباتها. فهذه الأخيرة هي الإنسان أوّلا وآخرا، فهي الّتي تملي علينا شروطها، وليس التّشبّث بأذيال الماضي من مقوّماتها لأنّه لا يوجد في الماضي – ولو كان في الذّرى من الإبداع والرّوعة -، ما يفي بحاجيات الحاضر

– 140 –

لماذا سكت المشاغبون لمّا أبطلت سيرورة التّاريخ حقّهم الأثيل في ملك اليمين – وهو مقرّر بنصّ صريح -، وهاجوا وماجوا والتهبوا غضبا لأنّ نسبة عالية من مواطنيهم يطالبون اليوم بإلغاء كلّ أشكال التّمييز بين الذّكر والأنثى بدعوى أنّ هذا الجور – والتّمييز من الجور مهما كان مصدره – ثابت بصريح النّصّ، وكأنّه من الطّبيعيّ والمعقول أن يوصم الله بمثل هذه الموبقات الأخلاقيّة الشّنيعة

– 141 –

إنّي لأخجل من إنسانيّتي حدّ التّلاشي كلّما سمعت أحد فرسان مساخر الورع يطالب برجم خصوم له يزعم أنّهم لله خصوم

– 142 –

لو استجاب الله – وحاشا أن يجاري الله الفاسقين في غيّهم – ومكّن أراجيز الإيمان المحنّط من خصومهم ليرجموهم في السّاحات العامّة، فهل تراهم سيبيحون لحجارتهم المأذونة كلّ نساء تونس – بل كلّ نساء المعمورة – لو واصلن – وسيواصلن – في المطالبة بمساواتهنّ بأشقّائهنّ في الإنسانيّة من الذّكور؟

– 143 –

لا أعتقد أنّ إنسانا كامل الإنسانيّة يمكن أن يجازف بمجرّد النّطق بكلمة الرّجم لو واتته نفسه وقرأ كتاب « المرأة المرجومة » للكاتب الإيرانيّ فريدون ساهبجام.
– 144 –
إنّها لبربريّة منقطعة النّظير أن يقذف إنسان إنسانا آخر بالحجارة تحت ذريعة العدالة، ولو كانت هذه العدالة المزعومة سماويّة المصدر. وهي ليست كذلك قطعا.

– 145 –

الرّجم والبتر والذّبح والسّحل، وما شاكلها من مراسم التّوحّش، هي أهمّ عناوين عدالة النّكاية في عهود البدائيّة الغابرة. فهل ترى المطالبين اليوم من معاصرينا باستعادة هذه الأمجاد الأثيلة لا يزالون مرابطين في مرابض بدائيّتهم الأولى؟

– 146 –

هل من العدالة أن يرضّ بشر ويشدخ بحجارة إخوانه وأخواته في الإنسانيّة بدعوى أنّه مخطئ؟ ومَن مِن النّاس لا يخطئ أبدا حتّى يعتلي منصّة القضاء مدينا؟

– 147 –

الشّرائع لا تنطق بغير لغة أزمانها، فلماذا لا نتكلّم نحن اليوم لغة زماننا؟ ولا مكان في لسان الإنسان المعاصر لمفردات الهمجيّة البائدة. ومن الهمجيّة الّتي لا مزيد عليها أن تباح حرمة الجسد البشريّ للسّياط والنّصال والحجارة

– 148 –

لقد كان سيكون إعجازا حقوقيّا رائعا لو أنّ شرائع السّماء بشّرتنا في صحائفها المقدّسة بإلغاء الرّقّ. لو كانت فعلت – وما كان باستطاعتها أن تفعل ذلك – لكانت صانت ألسنة جحافل من الفقهاء عن اللّغو الحنيف، ولما كانت « اجتهادات الأئمّة المعصومين » على مرّ العهود والأحقاب تحوّلت إلى شرائع دونها قيمة شرائع السّماء

– 149 –

لم نقرأ في سجلاّت التّاريخ أنّ أميرا أو أميرة قطعت أيديهما في السّرقة، أو ضربا حدّ السّرقة. أمّا المقطوعون المجلودون من غمار النّاس فأكثر من أن ينالهم الحصر

– 150 –

لو جازف أحد بالشّهادة على « زنا » أحد أولياء الأمر في حضرة « أمير المؤمنين »، وصرّح أنّه لم ير « الشيء » يدخل في « الشّيء » دخول العود في المرود – وكيف بإمكانه أن يرى ذلك؟ -، لنجا المجرم بجرم ولجلد هو حدّ القذف. اقرءوا كتب التّاريخ القديم، ففيها من هذه « المآثر » الكثير

– 151 –

لك دينك ولي ديني، أمّا الوطن فلنا جميعا. ولم نر على وجه الدّهر وطنا طالب برجم بناته نزولا عند نزوات المهووسين من بنيه. وليس رجم الخصوم من أدوية الهوس

– 152 –

ليس أيسر على « المؤمن الفطريّ » – أي على المسلم الحقّ – من أن يرمي عنه بدلة العاملين الفعلة ويرتدي خرقة « العلماء ». فإن فعل وزيّن دماغه الكريم بالعمامة الفاخرة وبدنه الطّاهر بالجبّة القشيبة، انفتحت فيه البصيرة على مصراعيها فتجلّت له أسرار الفطرة السّليمة. فلا عجب إذن إن قام بين عشيّة وضحاها على كلّ منابر المعمورة مناديا برجم كلّ من يتجاسر على جوره الحنيف بمبادئ العدالة الوضعيّة الفاجرة

– 153 –

الله هو وحده الّذي يرفض المساواة بين عباده من الذّكور والإناث. هذا ما لم ينفكّ « العلماء » يردّدونه على مسامع عتاة المعاندين. فماذا ينتظر هؤلاء ليدركوا أنّ من ظلمه الله فقد أنصفه؟

– 154 –

لو كان من حقّ المرأة أن تساوى بالرّجل لما كان الله حطّ من نصيبها في الميراث والشّهادة إلى النّصف، ولما كان أجاز للرّجل، صيانة لفرجه، أن يجمع في فراشه بين أربعة إناث، زيادة على جيش لجب من الإماء ينتقيهنّ من أسواق النّخاسة الّتي شرّعت حفاظا على عفّته. هذا ما يستميت « العلماء » في الذّود عنه اليوم بكلّ ما أوتوا من أفانين الشّجب والثّلب والتّشنيع والإدانة، بل والتّحريض على القتل

– 155 –

السّبّ والثّلب والتّرويع هي لبّ أخلاق التّقيّ الورع المتجرّد لخدمة قبلته، فهي لديه في مقام الإرشاد والموعظة الحسنة، وهي لديه في نجاعة البرهان الأقصى ينتضيه تهديدا بقطع الأرزاق وسفك الدّماء

– 156 –

كان بغاة السّلف الصّالح يزعمون أنّهم بإرادة السّماء بغوا وفتكوا، لأنّ السّماء لا تفصح عن مكنون رغباتها إلاّ بلسانهم المأذون المعصوم، فهم في الحقّ ولو أدان جورهم الكون ومن فيه. فلا ضير أن زعم أحفادهم من أشياع الإسلام السّياسيّ اليوم أنّ صناديق الاقتراع لا يمكن أن تصطفي غيرهم، فإن خذلتهم فليس عندئذ من « الجهاد » بدّ

– 157 –

هل يجوز أن أن نطالب الإسلام الدّستوريّ بإلغاء التّمييز، ونحن نعلم جيّدا أنّه جعل من التّمييز (بينه وبين كلّ ما هو موجود، وبين أشياعه أيضا بمقتضى قانون القوامة الّذي يقدّم الرّجال على النّساء) امتيازا يرقى به مدارج الاصطفاء صعدا إلى سدرة المنتهى؟

– 158 –

يا بنات حوّاء، لا تنتظرن إنصافا من عدالة إسلام سياسيّ دستوريّ يجهل قواعد الحساب، أو بالأحرى يريده ممثّلوه والنّاطقون باسمه على منابر الشّيخخة والدّعووة (نسبة إلى الدّعوة) والغوررة (نسبة إلى التّغوّر) والدّيدنة (نسبة إلى الديّن)، والشّعيية (نسبة إلى التّشيّع)، والوحشنة (نسبة إلى التّوحّش)، والفردنة (نسبة إلى التّفرّد)، والنّخببة (نسبة إلى الانتخاب)، والفرقنة النّجوويّة (نسبة إلى الفرقة النّاجية)، أن يكون جاهلا بها وبغيرها من مقوّمات العدالة في أدنى مظاهرها. فقد نذر هؤلاء لإلههم، أو بالأحرى لإله هواهم، صوما أبديّا عن التّفكير – يرونه من مراتب الكفر والمروق القصوى -، شعارهم الهراوة (سليلة الدّرّة الفاروقيّة) يرهبون بها عدوّهم (يزعمون أنّه عدوّ اللّه كذلك)، يشدّون به أزر رواتبهم وعطاياهم ومنحهم وتعويضاتهم وإتاواتهم وابتزازاتهم وإقطاعيّاتهم، وغيرها من أسباب العزّ والتّمكين. لذلك سطّروا اسمه على راياتهم، على اختلاف ألوانها، يوهمونه بذلك أنّهم قائمون بدعوته، وإنّما هم بدعاوى قيامتهم قائمون، وأضافوا إليها السّيف حلية وترهيبا

– 159 –

ليس أخطر على العاقل، في عالم كفر بإمامة العقل وطلّقها طلاقا باتّا، من ممارسة الرّياضات العقليّة الّتي لا يستقيم بدونها معاش الأحياء. كأن يقول العاقل مثلا إنّه لا وجود على التّحقيق لما لا يرى بالعين المجرّدة، باستثناء الأشياء الّتي يفصح عن وجودها المجهر. أمّا الأولمب وسدرة المنتهى وما وراء العرش، والعرش نفسه، والمعابد وزائريها من الملائكة في كلّ صلاة، فهي ليست في متناول العين والمجهر على حدّ السّواء. فلماذا يغضب سدنة المنابر المعبديّة إذا قرّر العاقل ألاّ يقايض المرئيّ المحسوس بالخرافيّ المحال؟
أو كأن يردّ العاقل، إذا سئل: « كم يساوي رجل وامرأة؟ » فيجيب بدون أدنى تردّد: « إنسانان بالتّمام والكمال ». ولكنّ منبر الإفتاء يعترض محتدما على هذا التّجديف مؤكّدا أنّ النّتيجة العقدويّة الأصولويّة التّقوويّة الأهلجماعيّة (نسبة إلى أهل الجماعة) القواميّة الدّعدشيّة (أي الشّرعيّة) المقرّرة هي إنسان ونصف إنسان. وقد يساوي الرّجل والمرأة أحيانا إنسانا وربع إنسان، فلماذا يتعمّد زبانية هذا الإمام الفاجر الّذي يقال له « العقل » تزييف الحقائق العقديّة السّرمديّة؟
بماذا تنصحون العاقل يا أولي الألباب؟ هل يواصل الصّيام عن الهلس أم يفطر على ما يفطر عليه أهل القبلة في بلاد واق الواق ومدينة النّحاس ووطن عبد اللّه البحريّ، ومعروف التّاجر، والمصباح السّحريّ، وبساط الرّيح؟

– 160 –

إنّ الأديان الكبرى هي الّتي لا تدير ظهرها للتّاريخ. ذلك كان طريق المسيحيّة وخيارها، ولا خيار للإسلام اليوم إلاّ هذا النّهج. فإن أراد له أتباعه غير هذا الدّرب، فقد قضوا له بالموت. فأن يتشبّث الإسلاميّون بالأمّيّة يضيفونها إلى نبيّهم على أنّها امتيازه الأسمى، وأن يصرّوا على ربط عقيدتهم ربطا وثيقا باستعباد إخوانهم في الإنسانيّة واستباحة أعراضهم وأموالهم وأرواحهم، وحطّهم إلى مستوى المعاهدين (مجرّد مواطنين بلا وطن)، وأن يستميتوا في التّدليل على كون « المكلّف » لا خيار له في سوى « الإيمان » (إيمان العجائر، بل إيمان السّوائم أحيانا، بل إيمان الجماد في أغلب الأحيان)، فإن زاغ عنه قيد أنملة فالسّيف له بالمرصاد ؛ وأن يصرّوا على حرمان النّساء من حقّهنّ الطّبيعيّ في المساواة مع الرّجال بدعوى أنّ الحطّ من شأنهنّ إلى النّصف أو الرّبع هو منتهى العدالة ؛ أن يصرّ الإسلاميّون الدّستوريّون على إلحاق كلّ هذه العاهات المشينة بعقيدتهم على أنّها من صميم جوهرها، هو بمثابة الحكم عليها بالموت المبرم
وما من شكّ في أنّ « علماء » من طراز يوسف القرضاوي وعبد العزيز بن باز وبن عثيمين، ورثة محمّد بن عبد الوهاب وحسن البنّا وأبي الأعلى المودوديّ والسّيّد قطب ومن سار على دربهم من غثاء سيل « الرّبيع العربيّ » الموبوء، هم القضاة الّذين قضوا بإعدام الإسلام لأنّهم يسعون إلى سجن الحياة بين دفّتي الكتاب، ويعتقدون أنّهم سيوفّقون في ذلك عاجلا أو آجلا، شعارهم أنّ صلاح هذه الأمةّ لن يتيسّر إلاّ بما انصلح به حال سلفها، على ما بين العهدين من تباعد .
هذه هي المؤامرة الحقيقيّة – إن كان ثمّة من مؤامرة – الّتي تحاك ضدّ الإسلام كمخزون روحيّ أوّلا وقبل كلّ شيء، وهذا هو الخطر المحدق – إن كان ثمّة من خطر- الّذي يتهدّد هذا الإرث الرّمزيّ الّذي لم يبق منه الإسلاميّون الاختزاليّون إلاّ القطع والرّجم وضرب الأعناق وبتر الأطراف وفقأ العيون ولجم الألسنة. وكان الأحرى بهؤلاء، ومن سار على هديهم من حملة السّكاكين والرّشّاشات والمدافع، أن يتساءلوا عمّا إذا كان حال سلفهم صالحا بالفعل كما يزعم أئمّة جورهم؟ وليتساءلوا بعدئذ، إن وقعوا أسرى ملاحم الرّعب والفظاعة الّتي تزخر بها دواوين إخباريّيهم، عن طبيعة هذا الصّلاح العجيب الّذي قام على كمّ هائل من الأطماع والأهواء آلت سريعا إلى بحار من الدّماء وجبال من الجماجم؟
وليتدبّروا عندئذ، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا، قول أبي العلاء المعرّي

فِي كُلِّ أَمْرِكَ تَقْلِيدٌ رَضِيتَ بِهِ *** حَتَّى مَقَالكَ: رَبِّي وَاحِدٌ أَحَدُ

وقصارى القول، على ما قرّره رهين المحبسين، أنّ اليقين مستحيل، وأنّ الإقرار بما لم يتدبّره ويقرّه العقل جهل، وأنّ التّسليم بالمحال تخريف، فلا حقيقة – إن جاز الحديث عن حقيقة مّا – إلاّ ما نرى بأمّ أعيننا في جميع أقطار الأرض، لا فرق فيها بين حنيفيّ أو صليبيّ أو بوذيّ، فكلّهم عار من الشّرف الّذي يسبغه الإسلاميّون المتألّهون المتعبددون (أي المتوارون في المعابد كما يتوارى الأموات في القبور) على أنفسهم

وأَشْرَفُ مَنْ تَرَى فِي الأَرْضِ قَدْراً *** يَعِيشُ الدَّهْرَ عَبْدَ فَمٍ وَفَرْجِ

فرج الحوار

يتبع