اتّبع عقلك، فالعقل نبيّ (4) : أزمة الإسلام أم أزمة الإسلام السّياسيّ؟

التّاريخ يصنعه من ينتمون إلى المتلصّصين من ثقب الباب، الّذين لولاهم لبقيت البشريّة عاجزة عن العمل والتّفكير: عن اختراع الآلة واختراع الأفكار اللّذين تطوّر بهما القرد إلى إنسان
العفيف الأخضر، إصلاح الإسلام، ص: 18- 76 –

– 76 –

لنقارن مثلا بين تصريحات بابا الكنيسة الكاثوليكيّة عن حقيقة آدم وحوّاء، وحقيقة النّعيم والجحيم، وإقراره بأنّها جميعا أقرب إلى الأساطير والأمثولات منها إلى الحقائق التّاريخيّة المقرّرة، وبين ما ترمينا به يوميّا حناجر دعاتنا الإسلاميّين (الرّسميّين منهم والمتطوّعين على حدّ السّواء) من خرافات وأساطير وآثار وأخبار ووقائع عن آدمنا وحوّائنا، ويأجوجنا ومأجوجنا، وهاروتنا وماروتنا، ومكلّم الذّئب منّا، وقاتل ابن الشّرطيّ (بصفته تجسيدا سليل الطّاغوت) احتسابا (فما بالك لو قتل الطّاغون نفسه)، والمضرب عن ارتياد مضارب السّلاطين ورعا، ومنكرنا ونكيرنا، وحجابنا ونقابنا وتأثّمنا وولائنا وبرائنا وطهرانيّتنا، وعذاب القبر الّذي بانتظارنا حالما ندلّى في حفرنا، ولنر عندئذ أين نحن من الدّنيا وأين هم

– 77 –

لا يستغربنّ أحد من تكالب « علمائنا » الإسلاميّين (المدسترين منهم والهامشيّين المرابطين في ثغور البذل والجهاد) على « الإعجاز » القرآنيّ يتصيّدونه في اكتشافات علميّة لا ناقة لهم فيها ولا جمل (والأفضل أن يقال: لا مخبر لهم فيها ولا معمل)، يقيمون بها الدّليل مجدّدا على أنّنا كنّا، وما زلنا، وسنظلّ « خير أمّة أخرجت للنّاس » ، ولو كنّا وسنظلّ عالة في بيان فضلنا المزعوم على مخابر الغرب « الصّليبيّ الكافر » ومراكزه العلميّة الفاجرة
تلك هي النّتيجة الحتميّة للدّمار العقليّ الذّي مارسه بدون هوادة، طيلة عقود من الشّحن العقائديّ والنّفسيّ، فصائل من « الدّعاة الجدد »، فرسان المنابر المحكتفتيشية (نسبة إلى محاكم التّفتيش القروسطيّة الّتي بعثها الإسلام السّياسيّ ليضرب بها خصومه) الّذين سيطروا بالكامل « على ساحات الفكر والعمل » في العالمين العربيّ والإسلاميّ. وفي مقدّمة هؤلاء « المفسّر المشعوذ الّذي يزعم أنّ كلّ ما أنتجته العقول والتّجارب والأبحاث، في فروع العلم، من المبادئ والنّظريّات، ليس بالأمر الجديد لأنّ كتاب الله ينطوي على العلم بكلّ شيء »، مجيزا لنفسه، بهذه الأكذوبة الفجّة، أن « يسطو على المعارف المنتجة في الجامعات الغربيّة الحديثة لكي ينسبها إلى القرآن والإسلام »

– 78 –

لا ندري اليوم إن كان يجوز لنا أن نركب السّيّارة أو أن نعتلي ظهر النّاقة، مطيّة النّبيّ وصحابته الأبرار وآله الأطهار. لا ندري إن كان يجوز لنا أن نقدّم الإنسان على الإيمان، كما تقتضيه أعراف وجودنا التّاريخيّ اليوم في عالم لسنا آخذين بزمامه، أو نعلن الجهاد الهمجيّ المدمّر في كلّ الأنحاء مقايضين السّلام بالإسلام السّياسيّ الّذي لا يرضى إلهنا للنّاس دينا غيره، لنُحلّ في الكون « عصرنا الذّهبيّ » التّليد الّذي ولّى منذ ما يزيد عن عشرة قرون، ونلطّخ الكون بالدّماء

– 79 –

ثمّة أمر لا بدّ من التأكيد عليه، أرى أنّه واحد من المفاتيح الأساسيّة للأزمة الخانقة الّتي تردّى فيها الإسلام – والإسلام لا وجود له بمعزل عن أتباعه، من آمن به منهم ومن اعتزله ومجّه – منذ أحقاب. وهذا الأمر هو إشاعة الحرّيّة في العالمين العربيّ والإسلاميّ بطريقة تمكّن المسلمين من الانعتاق نهائيّا من ثقافة الانقياد والانصياع لسطوة الإرث المقدّس القائم على قدسيّة الحقيقة، وبالتّالي من التّفاعل سلبا وإيجابا مع الإسلام باعتباره أسّ هذا التّراث الخطير. القطع مع ثقافة الإخضاع الّتي يشرّع لها الإسلاميّون الدّستوريّون يقتضي حتما إصلاح الدّين الإسلاميّ بتدريسه وفقا لمنهجيّة الأديان المقارنة. هذه هي الوسيلة الوحيدة الّتي ستقطع الطّريق على التّجّار والمضاربين والمزايدين والمرابين الّذين ارتهنوا الإسلام خدمة لأغراضهم الدّنيئة

– 80 –

هل من طريقة نواجه بها جحافل الأئمّة، وأشباه الأئمّة، وبهلوانات الأئمّة، وأراجيز الأئمّة، وكاراكوزات الأئمّة، وفتوّات الأئمّة، وأوغاد الأئمّة، وطفيليّات الأئمّة، وفسّاق الأئمّة وسفاهئهم، وأجراء الأئمّة، وعبيد الأئمّة، ولصوص الأئمّة، وجزّاري الأئمّة والقتلة المنفّذين لأحكامهم، وغيرها من طوابير رجال الإكليروس المتمسّحين بعتبات الإمامة من دعاة وهداة ومنذرين ومبشّرين وناهين عن المنكر وزجرة وجلاّدين وقصّابين ومجانين السّماء ومرضى النّفوس والفارّين من المارستانات وثمار معامل التّدجين والشّحن وغسل الأدمغة؟
هؤلاء كلّهم نصّبوا أنفسهم كائنات تنطق بأوامر السّماء ونواهيها، ينطقون بالتّعويذة المقرّرة (بسم اللّه الرّحمان الرّحيم، والصّلاة والسّلام على أشرف المرسلين)، ثمّ ينطلقون على رسلهم في شعاب اللّغو الحلال يقوّضون ويهدمون ويذبحون، ويغتصبون كلّ من يجرأ على مواجهتهم، لا يعترض على فسفهم معترض إلاّ قام له الخطباء في السّاحات الإسلامدستوريّة (بل تحت سقف البرلمات الفخمة المكيّفة الّتي تسلّلوا إليها « ديمقراطيّا » ليحوّلوها طوعا أو كرها إلى « مجالس شورى » يصول ويجول فيها « أهل حلّهم وعقدهم ») يهدّدون باستباحته واستئصال مقوله الخبيث

– 81 –

كم سمعت والدتي، وأنا بعد صبيّ، تقول مندّدة بمن لا يتطابق باطنه مع ظاهره: « يعمل الفرض وينقب الأرض ». وكذلك يصنع الإسلاميّون الدّستوريّون – المعتدلين بزعمهم – والإكراهيّون اليوم، أولئك الّذين ارتدوا جبّة الشّرع، وتحلّوا بعمامة الإفتاء ليعدّوا على النّاس أنفاسهم وحركاتهم، ويقرّروا لهم حلالهم وحرامهم، ويميّزون بين نسائهم ورجالهم، ويبثّوا الفتنة بينهم وبين فلذات أكبادهم، زاعمين أنّ هذا الأمر يدخل في صميم اختصاصهم « كعلماء ودعاة » أخذوا على عاتقهم أن يقودوا النّاس إلى الجنّة، في السّلاسل إذا لزم الأمر، بل في السّلاسل لا أكثر ولا أقلّ، شعارهم الوحيد
– بالمعبد وحده يحيا الإنسان
ونحن نقول ملء الصّوت لهؤلاء جميعا حتّى لا يزعم المتصاممون منهم أنّهم لم يسمعوا ردّنا على فريتهم المفضوحة
– ليس بالمعبد وحده يحيا الإنسان
ونضيف إلى قولنا هذا ما كان قاله قبلنا العفيف الأخضر ، رحمه الله: « قال ميخائيل نعيمة – رحمه الله هو الآخر – سنة 1951: « الدّين الّذي يخشى من الشّيوعيّة، الشّيوعيّة خير منه». وبدورنا نقول: الدّين الّذي يخشى العلم، العلم خير منه، والدّين الّذي يخشى العقل، العقل خير منه، والدّين الّذي يخشى الاختلاف، الاختلاف خير منه، وفي كلمة: الدّين الّذي يخشى الحياة، الحياة خير منه

– 82 –

كنّا نتوقّع نحن التّونسيّون أن تمتلئ بلادنا بأريج الحرّيّة بعد تفجّر الرّبيع الياسمينيّ في ربوعنا، ففوجئنا بدخان المعابد الفوضويّة والإسلامدستوريّة يشحن سماءنا بما لا قدرة لرئتينا على استنشاقه. اختنقنا إذن، ونحن الآن في النّزع، نتمنّى أن يعود إلى سمائنا شيء من الهواء الملوّث، ذلك الّذي يقول عنه الرّبيع الإسلامويّ المكفهرّ إنّه السّمّ الزّعاف. فما لنا لم نمت إذن لمّا كان هذا النّفث القاتل هو كلّ الأوكسيجين المتاح في دنيانا، ولم نتحمّل النّسيم العليل الّذي يتضوّع من مواكب الخيلاء والحمق الّتي نظّمها سماسرة الانعتاق الإسلامدستوريّ ليوهموننا أنّ الفرج رهن بمهرجانات ركوعهم وسجودهم وتراتيلهم الجوفاء الّتي رفعت عنّا لعنة الفكر وأسبغت علينا نعم الرّوح؟ وهل بالرّوح يحيا الإنسان؟

– 83 –

يزعم رأس الفرقة النّاجية، وزعيم فسطاط الإسلام الدّستوريّ المؤزّر أن « إسلامه » هو الثّورة التّونسيّة كلّها، والرّبيع العربيّ كلّه، والياسمين الثّوريّ كلّه، وكلّ أصناف الورود والأزهار الثّوريّة، وهو العمل، وهو التّنمية، وهو الرّقيّ، وهو الدّنيا والآخرة، بل الآخرة وكفى. ولكنّنا لم نر في واقع الحال إلاّ أشواكا وحسكا، وتجرّعنا بدل الكوثر علقما إسلامدستوريّا زلالا، وحصدنا بطالة مضاعفة، وتضخّما كارثيّا، وانهيارا اقتصاديّا مخيفا، واحتقانا اجتماعيّا مرعبا يبشّر بكلّ الويلات.
تلك كانت ثورة الإسلام الدّستوريّ: تنكّر للأرض وإخلاص للسّماء. شعاره أنّ الصّوم نهائيّا عن العقل هو بساط المجد الأحمر الّذي سيقودنا إلى أمجاد الدّنيا والآخرة، وهو شرط الصّحّة والعافية والعنفوان والحيويّة والنّموّ والنّهوض والتّنمية والرّخاء. بل إكسير الإقلاع هو، وهو المعجزة الّتي ستكتسح في أرضنا علل التّخلّف المزمنة

– 84 –

يريدنا الإسلام الدّستوريّ أن نكون فئران مخبره الغيبيّ، نذبح فيه بمدية الأرض مرّة (الدّار الفانية الّتي تدلّهوا في حبّها واحتكروا مباذلها وأقذارها لأنفسهم) وبسيف السّماء مرّة أخرى (إرهابا متسربلا في ثقافة تشرّع للخمول والخنوع، أي للموت، وتزرع الخوف والهلع في النّفوس حتّى يذهب في ظنّها أن لا ملاذ لها إلاّ المعبد)، لا نفضي من شهادتنا إلى نعيم أو جحيم، فقد كنّا وظللنا في مطابخ الإكراه والقهر نقلّب ظهرا لبطن باسم الدّيكتاتوريّة الدّيمقراطيّة البرلمانيّة حينا، وباسم الخلافة الرّاشدة حينا آخر

– 85 –

التّقوقع في شرنقة الاصطفاء الطّهرانيّة، الّذي يؤدّي إلى اختزال الإنسان في إهابه أو روحه، يفضي، بصورة آليّة تقريبا، إلى إرساء نظام قهريّ يقيمه حشد كبير «من المرشدين والعقائديّين والرّسوليّين»، من ذوي المشارب الغيبيّة والعلمانيّة، ينجزون هذه المشاريع الإنقاذيّة تحت شعارات «الإنسان المتألّه، وصاحب الدّور النّبويّ، أو تحت شعارات الإنسان المتعلمن، والكائن الأرضيّ» . فالحقّ – إن جاز الحديث عن الحقّ بصفة الإطلاق – ليس حكرا على دعاة الأرض أو دعاة السّماء، لأنّ كلا الحقّين يفضي إلى المكابرة والغلوّ، أي إلى خروج البشر عن حدّهم الإنسانيّ
والمراد اليوم يكمن في ضرورة : التّخلّي عن مكابرتنا، لكي نعترف أنّنا أقلّ شأنا بكثير ممّا ندّعي، وأنّنا أخطر بكثير ممّا نحسب. فنحن أعجز وأجهل وأوهى وأخبث وأشرس من أن نصف أنفسنا بصفات السّموّ والطّهر والعظمة والفضيلة والعلم، وسوى ذلك من الشّعارات الّتي نرزح تحتها ولا نطيقها، أو لا نقدر على ترجمتها إلاّ بانتهاكها أو بأضدادها. بكلام أقلّ فظاظة: نحن أقلّ ممّا نحسب عقلانيّة ومعرفة، أو أقلّ تديّنا وصلاحا، إذن أقلّ إنسانيّة ممّا ندّعي
وحتّى يتحقّق هذا الهدف، لا بدّ أن يدرك «الآلهة والأنبياء الجدد»، وفي مقدّمتهم الإسلاميّون (ومن يسير في ركابهم من أصحاب المعابد العلمانيّة « اليساريّة »، الغارقة حدّ النّخاع في عبادة « شيوخها » و »أئمّتها ») أنّهم يمهّدون لخراب العالم بأسره : بعقولهم الملغّمة، ومسلّماتهم العمياء، وتوجّهاتهم المقلوبة» الّتي أوهمتهم أنّهم يمتلكون «الحقيقة المطلقة والأجوبة النّهائيّة

– 86 –

العقل – على علاّته – هو سبيلنا الوحيد اليوم إلى التّواضع، الذّي نحن في أشدّ الحاجة إليه، «[لـ]ـكسر نرجسيّتنا، بحيث نكفّ عن استخدام مفردات العمالقة والعباقرة والجهابذة، ولا نتعامل مع بعضنا بعقليّة التّقديس والتّعظيم» لأنّه بات من غير المجدي اليوم، «وسط هذا الخراب الكونيّ والتّوحّش البشريّ»، التّساؤل «أيّ مذهب هو الأصحّ، أو أيّ معتقد هو الأصدق»، بل الأجدى من كلّ ذلك «هو ممارسة التّقى، بما هو اقتناع بالشّراكة والتّوسّط والتّضامن والرّعاية»

– 87 –

هكذا انقلبت الضّيعة الوطنيّة الخضراء – المسمّاة تونس – صحراء نهيم فيها على وجوهنا، ولم نزل بعد هناك نبحث لنا فيها عن درب النّجاة. صحراء «النّظرة الأحاديّة، وعبادة الأصول، والتّمترس وراء النّصوص» والشّعارات «للانقلاب على القضايا، والتّعلّق بالأشياء حتّى أضدادها» . هذه هي المتاهة نفسها الّتي زجّ بنا فيها آلهة الوقت من الإسلاميّين ومواليهم وأعوانهم من « أصوليّي » العلمانيّة وغلاة الحقوقيّين الّذين لا يتورّعون، دفاعا عن شرعيّتهم الدّستوريّة الاستبداديّة، في نصب المشانق في كلّ السّاحات العامّة

– 88 –

يقول رأس الفرقة النّاجية إنّ الأرض (كلّها، وليست تونس فقط) هي منفى البشر، ولعنة مرسلة، وأنّ العافية هي في الاستعاضة عنها بجنّة السّماء. ودعا التّونسيّين إلى الصّوم عن مغريات الأرض، جعلها حكرا لنفسه وفرقته النّاجية وأكرمنا، نحن التّونسيّين، بالجوع والعطش والحرمان والقهر نتبلّغ بها بانتظار أن ينقلنا الموت إلى الجنّة الأرضيّة، تلك الّتي أنجبها الرّبيع، يريده الإسلام الدّستوريّ عربيّا، والحال أنّه ينطق برطانات شتّى لا أثر فيها لإيقاعات أبي نواس وعلي الدّوعاجي وأبي تمّام والبشير خريّف وأبي الطّيّب المتنبّي والشّيخ النّفزاوي ومحمود المسعدي
وهو يفعل ذلك لأنّه لا مفرّ لمن «يعتقد أنّه يعشق الله ويتّحد به، أو يعبده ويسبّح بحمده، أو يتلقّى وحيه ويبلّغ رسالته، أو يقاتل لإقامة حكمه على الأرض [من أن] يحلّ محلّ الله، أو يتّخذه أداة لهواه، أو يحيله إلى بعبع أو جلاّد، كما هي تباعا حال النّماذج الّتي يجسّدها الصّوفيّ أو النّبيّ أو الإرهابيّ» . وبالأخيرين منهم يتماهى رأس الفرقة النّاجية، بل إنّ غروره ليحمله أحيانا على التّماهي مع الإله فيتوهّم أنّه ينطق حقيقة بلسانه

– 89 –

إنّ العنف والدّمار والبربريّة هي نتاج خالص لـ«ـلإنسان العقائديّ اللاّهوتي، وكلّ من يستعدي الآخر، أو يحاربه لأجل رأيه أو معتقده أكثر ممّا كان من جانب النّماذج الّتي يجسّدها الإنسان الدّهريّ، أو الدّنيويّ، أو الأرضيّ، وخاصّة نموذج الإنسان الرّيبيّ أو المرجئيّ، الّذي يخشى البتّ والقطع في معاني الأشياء وقيمها، بقدر ما يعتبر أقواله مجرّد وجهة نظر، أو تأويل، أو قراءة في الوقائع والتّجارب والأحداث أو النّصوص.
وهذا شأن كلّ من يتّصف بالتّقوى، على المستوى الوجوديّ، فلا يمارس احتكار المشروعيّة، ولا يدّعي امتلاك الحقيقة، ولا يسعى إلى بناء أنظمة استبداديّة أو شموليّة لإقامة ما هو محال على الأرض من فراديس يحلم بها مجانين الله وعشّاق الحرّيّة، والمهووسون بالنّماذج الكاملة والحلول القصوى أو النّهائيّة» ، وفي مقدّمتهم الإسلاميّون الدّستوريّون في تونس ومن والاهم وسار في ركبهم من الواهمين والحالمين بعروش الخواء والهوان الّتي يمنّون بها عليهم مرحليّا بانتظار أن يبلغ التّمكين هدفه المأمول ويدقّ ناقوس ساعة الحسم

– 90 –

المتمعّن في مجرى الأحداث، منذ 14 جانفي 2011 إلى اليوم، لا يمكن إلاّ أن يصادق على ما ذهب إليه الفيلسوف اللّبنانيّ علي حرب عندما أكّد أنّ «المجتمعات المعاصرة لا تعاني اليوم من نقص في القيم المتعالية والمبادئ الرّوحانيّة؛ لا تعاني من غياب الله وبقيّة المقدّسات الّتي تتعلّق بالهويّة والتّراث والأرض والوطن، والّتي تكاد تحوّل الحياة إلى أفخاخ وكمائن. بالعكس: لقد أتخمت البشريّة تأليها وتقديسا وتنزيها واصطفاء، وسوى ذلك من العملات العقائديّة الّتي هي مصدر مصائبنا وكوارثنا» . والدّليل على ذلك أنّ تونس تحوّلت اليوم إلى بورصة يتبارى فيها المستثمرون باسم الله والوطن والمدنيّة والتّعدّديّة وحقوق الإنسان والعدالة الانتقاليّة، وغيرها من المستحدثات الثّوريّة الّتي تفتّقت عنها قريحة المتنفّذين في سعيهم المحموم لمكافأة أشياعهم وأعوانهم من : الطّرابلسيّة الجدد

– 91 –

قد تمرّ أحقاب وأحقاب قبل أن يدرك الإسلام السّياسيّ – ولن يدرك ذلك ما لم يقايض النّقل بالعقل، فيستردّ بذلك بضعة من مكانته البشريّة – مرمى نشيد ابن عربي، وغيره من القائلين بأنّ الإيمان – على فرض أن يميّز فيه بين حقّ وباطل – لا يمكن أن يكون حكرا على مذهب أو نحلة، وإنّما هو، على ما ذهب إليه ميخائيل نعيمة، ملك مشاع للإنسانيّة قاطبة ولو اختلفت الطّرق المؤدّية إليه والمعبّرة عنه حتّى لتبدو أحيانا له نقيضا، كما في قول المدعوّ خليل الكافر في أحد نصوص جبران خليل جبران الفلسفيّة: «علّموني الكفر بكلّ شيء»، أو كقول محمّد إقبال: «إنّ الكفر ليضحك من إسلامنا»، أو كما في أبعد هذه المفارقات الكبرى غرابة، الّتي صدّر بها عبد الرّزّاق الجبران أحد فصول كتبه: «كم عليّ أن أكفر حتّى أصبح مؤمنا»؟

– 92 –
الإسلام السّياسيّ هو الجحيم، وهو العذاب، وهو اللّعنة، لا يهمّ إن كان اسمها «الوهّابيّة»، أو «القيامة»، أو «الصّحوة»، أو «النّصرة»، أو «داعش»، فكلّها العلقم، وكلّها النّصل يترصّد الفرص ليضرب عنق العقل فيستتبّ الظّلام. هذه المسمّيات الهجينة هي السّمّ الزّعاف، لا برء لمن سقيه عنوة أو لمن احتساه طائعا مختارا، وكهنوتها وأشياعها عنى أبو العلاء المعرّي عندما أهاب بالنّاس قديما – ويهيب بهم اليوم بصوت من اكتوى بجحيم هذا السّرطان في العراق وسوريا والسّودان ومصر وليبيا وتونس واليمن، وحيثما استهترت آلة الدّمار الإسلام الدّستوريّ – أن ينفضوا عن أعينهم وسن الغفلة

أَفِيقُوا فَإِنَّ أَحَادِيثَهُمْ

ضِعَافَ القَوَاعِدِ وَالْمُدَّعَمْ

– 93 –

لا تحتاج تونس اليوم، بعد الثّورة الّتي أعلنها شبابها على الاستبداد والفساد السّياسيّين اللّذين عصفا بمقدّراتها طيلة عقود، إلى «من يتعصّب ويشحن ضدّ الآخر، كما لا تحتاج إلى من يبصم ويصفّق أو يهلّل بصورة عمياء». وهي لا تحتاج قطعا : إلى قادة ملهمين أو غير ملهمين، يخطئون في التّقدير بقدر ما يتفرّدون بالقرار. والأهمّ [من كلّ ذلك] أنّها لا تحتاج إلى من يمارس طقوس العبادة [يمينا ويسارا ووسطا] تجاه الزّعماء والأبطال، كي يصنع آلهة يتحوّلون بدورهم إلى عبيد لألقابهم ومواقفهم وخلافاتهم وإخفاقاتهم، أو لبطولاتهم وأمجادهم وانتصاراتهم

– 94 –

لن تحول الآليّات الدّيمقراطيّة – بزعم واضعيها – الّتي تمّ إرساؤها منذ 23 أكتوبر 2011، دون عودة الاستبداد في بزّة تيوقراطيّة، كان المجلس – التّأسيسيّ ظاهرا والتّمكينيّ فعلا – وفّر لها الأرضيّة الملائمة بإقراره الإسلام – في صيغته الإسلامويّة الصّريحة – دينا للدّولة (وكأنّ بإمكان الدّولة – أيّة دولة – أن تعتنق دينا مّا، وكأنّه من الجائز منطقيّا وإنسانيّا أن نلزم شعبا مّا بديانة يعتنقها أفراده جميعا عن يد وهم صاغرون)، وألزمها بحمايته والمحافظة عليه، والضّرب على الأيادي الآثمة الّتي تحاول النّيل منه. إنّ هذا المبدأ «الدّستوريّ» الفضفاض هو بمثابة سيف داموكلاس الّذي أشرعه الإسلام السّياسيّ منذ نشأته، وسيشرعه الإسلام الدّستوريّ اليوم في وجوه كلّ من سيحاول أن يقطع عليها الطّريق إلى أسلمة المجتمع التّونسيّ، تمهيدا لإقامة الدّولة الإسلاميّة الّتي لا تقرّ بغير الشّريعة دستورا

– 95 –

ويل لتونس وأهلها من «الجرثومة الأصوليّة الاصطفائيّة الّتي لا تصنع سوى المآسي والكوارث» . ويكمن الخطر تحديدا في العدد المتنامي للمدارس القرآنيّة، الّتي بادرت حكومتي التّرويكا المقدّسة ببعثها في الفترة الّتي أمسكت فيها بمقاليد السّلطة في البلاد، ففيها سينشأ جيل من الإسلاميّين يؤمنون : بالله والنّصوص والحقيقة والحقّ حتّى التّوحّش والبربريّة، أو المحق والظّلم

– 96 –

التّونسيّون، في غالبيّتهم، يدركون جيّدا أنّ العنف والاغتيال والقتل، تحت ذريعة الجهاد، هو نتيجة حتميّة للسّياسة الملتبسة الّتي انتهجها الإسلام السّياسيّ وأتباعه من صبيان العلمانيّة المهادنة، ويدركون كذلك أنّ مآل المشروع الإسلامويّ، في صيغته المحليّة، لن تكون مختلفة عن «المآلات البائسة والنّهايات المدمّرة» الّتي مهّد لها، منذ أحقاب، «الدّعاة الجدد»، أولئك الذّين ادّعوا، كما هو الحال مع الإسلاميّين الوافدين من المنافي بعد 14 جانفي 2011، «أنّهم أتوا للدّفاع عن ثوابت الهويّة، أو لإصلاح الأمّة والبشريّة، أو لمقاومة الظّلم والطّغيان، أو لنشر العدل والسّلام، فإذا المشاريع تترجم بأضدادها» : جشع منقطع النّظير، ونهب منهجيّ لمقدّرات الدّولة، وإنهاك مطّرد لمؤسّساتها، واستخفاف مشين بالمعارضين، وقدح في ذممهم وأعراضهم، وتصفية جسديّة لمن تجرّأ منهم على فضح استراتيجيّة الهيمنة الّتي انتهجوها للاستحواذ تدريجيّا على دواليب الدّولة، تطبيقا لمبدأ التّمكين الذّي يمثّل حلقة هامّة في التّمشّي الأصولي الرّامي إلى نسف كلّ المرجعيّات المدنيّة وتعويضها بمرجعيّات أصوليّة متشدّدة

فرج الحوار

يتبع