اتّبع عقلك، فالعقل نبيّ (10) : « حريّة المعتقد » واستحقاقاتها في « دستور » الإسلام السّياسيّ

بقاء الإسلام من دون إصلاح، أي من دون فصل الدّين عن الدّولة، لنفادي مخاطر الحروب الطّائفيّة والدّينيّة، خاصّة الحرب السّنّيّة-الشّيعيّة، الّتي قد تتحوّل في إحدى مراحلها إلى حرب ذرّيّة ؛ ومن دون فصل الشّريعة – خاصّة في الأحوال الشّرعيّة والقصاص – عن القانون الوضعيّ ليغدو الوحيد المطبّق، سيسقط العالم الإسلاميّ في همجيّة تطبيق العقوبات البدنيّة الّتي ينطبق عليها وصف فرويد للممارسات النّازيّة بأنّها « همجيّة ما قبل التّاريخ » ؛ ومن دوم فصل البحث العلميّ والإبداع الأدبيّ والفنّيّ عن الرّقابة الدّينيّة، سيبقي « الاشتباك بين القرآن والعلم »، كما أسماه د. عبد الصّبور شاهين
العفيف الأخضر، إصلاح الإسلام، ص:28

– 242 –

امتهان الحرّيّة عموما، باعتبارها فتنة، وحرّيّة الرّأي والمعتقد والضّمير، باعتبارها مروقا، هي من ثوابت إيديولوجيّة الإسلام السّياسيّ الفاشستيّة المنزع، والكليانيّة المرمى. ولن تحول « دسترته »، كما يتوهّم الحالمون من أذيال اللّيبراليّة الانتهازيّة، في تقليم مخالبه الاستبداديّة وكبح جماح حماسته البركانيّة، فلن يهدأ « لأولياء الله » و »ظلّه » على الأرض بال ما لم تقرّ الأرض قاطبة بفضلهم أو تغرق في الدّماء. والإسلام السّياسيّ جريء على دماء « أعداء الله »، لا يخاف في إهدارها وسفكها لوم لائم

– 243 –

امتهان المرأة، والتّضييق عليها بكلّ الوسائل أحد أهمّ ثوابت الإسلام السّياسيّ. وهذا هو ما يفسّر حرص هذا الأخير على استحضار منظومة القوانين الشّرعيّة العتيقة الّتي ستحكم الخناق على جسد المرأة وروحها وعقلها جميعا لتضحي، كما كانت دائما – وما زالت في بعض المجتمعات الّتي تجاهر اليوم « بفحش » إسلاميّتها الخانقة – مطيّة طيّعة، وملهاة يتسلّى بها أهل الحلّ والعقد والمصطفون من أهل الفرق النّاجية

– 244 –

إنّ ما يدور اليوم من هذر تقوويّ حول تقرير لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة، الذّي لم يقرأه الإسلاميّون لأنّهم لا يقرؤون – إن قرأوا – إلاّ مراجعهم المقدّسة المعتمدة، يدلّ على أنّ « الحوار » مع الإسلام السّياسيّ، والفرقة النّاجية من النّار الّتي ترفع اليوم رايته في تونس، هو من قبيل حوار الطّرشان، لأنّ إمكانيّات « التّوافق » بين « ثوابت » إسلام اليمين الدّينيّ، التّي تعبّر في نظره عن « الفطرة السّليمة »، ومقتضيات التّاريخ والحداثة، منعدمة تماما. كلّ ما في الأمر أنّ المتحاورين، من صقور السّياسيّين الانتهازيّين، المحسوبين على العلمانيّة بكلّ أطيافها، يتظاهرون بالحوار ربحا للوقت. والغباء السّياسيّ لهذه الطّبقة من أشباه السّياسيّين جعلها تنسى – أو تتناسى ربّما – أنّ إضاعة الوقت هي مطلب إسلامسياسيّ ضروريّ لاستكمال متطلّبات « تمكينه » الّذي مهّد له « الدّستور الثّوريّ » الطّريق لتسير فيه عربته المدمّرة بكلّ سرعة وثقة

– 245 –

أضاع أشياع العلمانيّة على أنفسهم فرصا ثمينة ليطالبوا بدسترة مبدأ تقديم المواطنة على الإيمان، وتقديم الحرّيّة على العقيدة، وتقديم القانون على الشّريعة. هذا ما كان يجب أن يتمّ في إطار ما سمّي زورا وبهتانا « مجلسا تأسيسيّا »، وهو إنّما كان في الحقيقة « مجلس شورى »، أعدّ العدّة لاستسلام « أعداء الإسلام » من أتباع الحداثة الضّالّة، وتنازلهم الغير مشروط لإملاءات الإسلام السّياسيّ، كان من نتائجها الوبيلة أن اكتسح هذا الأخير دستور الثّورة وأبطل مفاعيله كافّة عبر الفصل الأوّل منه

– 246 –

من مفارقات اللّعبة السّياسيّة، الّتي تهدف إلى إنجاح « التّحوّل الدّيمقراطيّ »، صلب « الجهموريّة المدنيّة » الثّانية، تراجع الخطاب المدنيّ لصالح الخطاب الدّينيّ على كلّ الأصعدة، وهو ما يفيد ضمنيّا أنّ الإسلام السّياسيّ وفّق في الخروج بإيديولوجيّته من سجن المسجد إلى فضاء الحياة ليقيم بذلك الدّليل على أنّ الحياة في تونس، من الآن فصاعدا، لا يمكن أن تستمرّ بدون « إسلامه »: إسلام الهراوة، والمقصلة إن لزم الأمر

– 247 –

الخلط هو سيّد الموقف في السّاحة السّياسيّة التّونسيّة، فلا فرق فيها اليوم بين « الشّيخ » و »الزّعيم » و »الإمام » و »القائد » و »المهديّ »، ولا فرق فيها بين التّقدّميّ واللّيبراليّ والحقوقيّ والمحافظ، فكلّهم « ثوريّون »، مكتملو الثّوريّة، وكلّهم أعداء للدّيكتاتوريّة ومناضلون في سبيل الانعتاق والحريّة، لا فرق بين من ينادي منهم بوحدة الأمّة الإسلاميّة، ومن ينادي بوحدة الأمّة العربيّة، ومن ينادي بوحدة الكادحين، فكلّ واحد منهم وفيّ لكنيسته، وكلّ واحد منهم واثق أنّ « النّجاة » (من النّار أو من الاستبداد أو من الظّلم الطّبقيّ الّذي أضرّ « بقفّة الزّوّالي ») رهن بفرقته هو دون غيرها من الفرق. كلّ واحد يتحدّث عن « نجاته »، ولا أحد منهم يتحدّث عن نجاة تونس من الغرق

– 248 –

لا أحد ينكر، نظريّا على الأقلّ، علويّة القانون الدّستوريّ الّذي كلّف الشّعب التّونسيّ أموالا طائلة. ومع ذلك فإنّ الإسلام السّياسيّ، وهو من أهمّ الأطراف المساهمة في إنجاز هذه الرّائعة الثّوريّة، لا يستنكف من الاحتكام إلى « قانون مواز »، يطلق عليه اسم « الشّريعة »، ويزعم أنّه « الفيصل » في المسائل المتعلّقة بالأصالة والهويّة، فهو في نظره، بالنّظر خاصّة إلى مصدره السّماويّ، أولى بالإتّباع وإن تعارض في الظّاهر مع الدّستور. ولا عيب في ذلك لأنّ الرّجوع إلى الحقّ فضيلة كما يقول المثل. وهل أفضل من توبة نصوح تعيد الأمور إلى نصابها الطّبيعيّ؟ ومن الطّبيعيّ جدّا أن تتوارى « الأرض » إذا نهض فيها داعي « السّماء » مجلجلا بصوت رأس الفرقة النّاجية

– 249 –

ما الّذي يمنع اليوم أيّ مغامر أن يعلن نفسه طبيبا أو أستاذا أو مهندسا أو خبيرا أو صحابيّا (أو حتّى نبيّا، ولما لا إلها أيضا؟)، كما هو الشّأن مع المشعوذين ومجانين الله الّذين اكتسحوا الفضاء العامّ دون أن يعترض سبيلهم أحد؟ ألم يدّع أحد مفتيّي الجمهوريّة السّابقين أنّه ممثّل الرّسول في البلاد ومفوّض عنه للدّفاع عن شريعته، لا يأتمر بأوامر أحد غيره، دون أن يفسّر لنا، نحن الّذين كنّا نظنّ أنّه في خدمة جمهوريّتنا الأرضيّة الثّوريّة الصّغيرة، وخاضع لقانونها، كيف يتلقّى أوامره عن رجل مات منذ أكثر من أربعة عشر قرنا؟
إذا كان بإمكان أيّ عاميّ سوقيّ منحرف أن ينقلب بقدرة قادر عالما أو داعية، أو شيخا يترضّى عليه في المحافل، فلماذا يتعفّف غيره، من رؤوس الفرق النّاجية، فلا يخلع على نفسه لقب « المهدي » أو « الخليفة »؟

– 250 –

الواضح للعيان اليوم أنّ بإمكان أيّ كان أن يرتدي جبّة، ويوشّح رأسه الخاوية بعمامة، وينتصب للوعظ والإرشاد والإفتاء، ويتحوّل هكذا في طرفة عين إلى « شيخ » و »عالم » يتزاحم المريدون على حلقة أنواره. ذلك كان شأن الكثيرين في خضمّ « الحراك الثّوريّ العارم »، لم تطالبهم، فيما نعلم، النّيابة العموميّة إلى حدّ اليوم عمّن أجاز لهم الانتصاب للعموم. والشّيء نفسه يقال عن العرّافين والمشعوذين من مختلفي الاختصاصات الّذين انتصبوا لعلاج المرضى دون أن تحرّك وزارة الصّحة العموميّة ساكنا

– 251 –

يقول رأس الفرقة النّاجية، بأعلى وأقوى ما يتيحه له صوته، إنّه على يقين من وجود إلهه، لا شكّ لديه أنّه معه في حلّه وترحاله (على متن طائرته الخاصّة، يذرع بصحبته أنحاء المعمورة في تنقّلاته المكّوكيّة بين قاعات المؤتمرات والنّدوات والمداولات والمخطّطات والاتّفاقيّات والمناورات والمكائد، وما شاكلها من أساليب التّمكين الإسلامدستوريّة)، يغدق عليه معونته وبركته، ويهديه سواء السّبيل. لا يلزمه أحد أن يقيم الدّليل على وجود هذا الإله. وليس في قوله هذا ما يضير ما ظلّ حكرا عليه، لا يحوّله إلى قدر غاشم يلزم به من لم يبثّ هذا الإله أنواره في صدره ليكون، أسوة بغبطته، على بيّنة من وجوده
هذا ما يكفله دستور الثّورة لرأس الفرقة النّاجية وأتباعه، فهل من ضير إذن، طبقا لنفس هذا الدّستور، أن يعلن غيره – كائنا من كان – بأعلى ما يتيحه له عقله وصوته أنّه لا يؤمن بالآلهة، ولا يحسّ بالحاجة إليها، ولا يعتقد أنّ حياته كانت ستكون أفضل في وجودها؟ بل إنّ هذا الشّخص على يقين أنّه أسعد في غياب الآلهة منه في حضورها، لا يجيز لأحد أن يطالبه بإقامة الدّليل على عدم وجودها. وليس في قوله هذا ما يضير ما احتفظ به لنفسه، ولم يستعن به في اضطهاد من لا سعادة له إلاّ في الرّكوع لإله يتوهّم أنّه انتخبه لنفسه بنفسه
ولكنّ الأرجح أنّ رأس الفرقة النّاجية لن يقبل بهذه القسمة العادلة لأنّ الإسلام السّياسيّ أضحى وفقا للدّستور « دين الدّولة » الرّسميّ، ولا ذكر للإلحاد في دستور الثّورة المجيدة، بل ذكرت فيه عرضيّا « حرّيتا الضّمير والمعتقد ». ومن المنطقيّ جدّا أن ينتصر الدّستور لدين الدّولة وأن لا يلتفت البتّة « للنّزوات الحداثيّة » الّتي قبل بها الإسلام السّياسيّ في دستور ثورته مجاملة لمسانديه من القوى الصّليبيّة، لا أكثر

– 252 –

لا دليل على وجود الإله، ولا دليل كذلك على عدم وجوده. فلا يحقّ إذن لأحد أن يجعل من استحالة إثبات وجود إلهه دليلا على وجوده، كما لا يحقّ لأحد آخر أن ينفي وجود الإله لاستحالة البرهنة على وجوده. وعليه، يجوز لكلا الطّرفين أن يتكلّم بصوت عال عن عقيدته، ولكن لا يجوز إطلاقا أن يتكلّم أحدهما ويسكت الآخر، لا يهمّ من آمن منهما أو ألحد، فلا ضير البتّة في الاختلاف، بل الضّير الأكبر في عدم القبول بالاختلاف
والسّؤال هو التّالي: كيف يمكن أن يقبل الإسلام السّياسيّ المدستر بمبدأ الاختلاف، وهو الّذي أقام وجوده على وهم زيّن له أنّه حاز الحقّ كلّه، وأنّ من واجبه أن يلزم الجميع بحقّه هذا، لا يعتق أحدا من ضرورة الإقرار به طوعا أو كرها؟ لذلك لم يستنكف رأس الفرقة النّاجية من ارتقاء درجات منبره النّقّال ليعلن على الملأ بكلّ صفاقة « دستوريّة ديمقراطيّة » أن لم يظلّ اليوم في تونس (الّتي أضحت تونسه وحده، يعيث فيها أسلمة) من يجرأ على إعلان إلحاده

– 253 –

يريد الإسلام الدّستوريّ، بعد أن تمكّن دستوريّا وقانونيّا، أن يستأثر بالحياة والمنبر جميعا، ويرغم معارضيه – أي أعداء « الإسلام » من « كفّار » الزّمن الحديث و »جاهليّيه » – على الصّمت، فالموت. يريد أن يتحدّث ما طاب له الحديث، ويريد أن يسكت « كفّاره » احتراما له، يزعم أنّ في حديثهم عن موت الآلهة (الّتي سرقها الكهنوت الإسلامسياسيّ الّذي نصّب نفسه خادما لها في الظّاهر، ومبتزّا لها ولمخلوقاتها في واقع الحال) أو عدم وجودها أصلا، استفزاز له وإثارة لمشاعره واستهانة بمقدّساته

– 254 –

لا خير في من سكت عن حقّه مجاملة لخصم لا يجامل ولا يهادن، ويضرب بأشدّ ما يقوى عليه إذا أمكنته فرصة الضّرب. وقد ضربنا الإسلام السّياسيّ المدستر فأوجعنا. ضرب رفاقا لنا ورفيقات فأودى بحياتهم، وما زال يقف على المنبر شاهرا سيفه، يزعم أنّه يمارس حقّه الدّستوريّ المشروع في إرغامنا على اعتناق حقّه، ولو كرهت نفوسنا هذا الحقّ الإسلاميّ البغيض ومجّته، وضاق عقلنا بفريته المقدّسة ذرعا

– 255 –

لن أصوم عن عقيدتي النّورانيّة، أو فليصم رأس الفرقة النّاجية عن عقيدته الإسلامسياسيّة القياميّة (يزعمون أنّها النّهاية والبداية، تتحوّل الدّنيا، الّتي كانت في شناعة الماخور وفحشه، بفضل تعاليمها التّذكرويّة الإعجازويّة السّلطويّة، إلى جنّة عدن تجري من تحتها الدّماء وديانا فيضانات) هو الآخر. أو فلتكن له عقيدته، ولتكن لي عقيدتي، لا يؤمن بما آمنت، ولا أؤمن بما آمن. فإذا التقينا في الشّارع كنّا فيه تونسيّين لا فضل لأحدنا على الآخر إلاّ بالمواطنة. فإن لم يكن هذا، فلم يبق إلاّ الحرب الّتي لا تبقي ولا تذر. حرب كتلك الّتي تدور رحاها اليوم في جبهات كنّا نظنّها بعيدة عنّا، وتبيّن أنّنا منها في الخضمّ، زجّ بنا فيها من يريدنا أن نصوم عن قناعاتنا وحرّيّتنا ويثبت هو على « حقّه » الإسلامدستوريّ، نحارب بالوكالة عن سماسرة الخراب الّذين يريدون الأرض جحيما يعبرون منه إلى جنّة سمائهم الجهاديّة، العامرة بالحور العين

– 256 –

من عجائب « الدّيمقراطيّة التّوافقيّة » أنّ المستظلّين برايتها الوارفة مضطرّون لاعتناق الإسلام الدّستوريّ عن بكرة وطنيّتهم، لا فرق فيها بين علمانيّ وأصوليّ، وبين يمينيّ ويساريّ، وبين مؤمن وملحد إلاّ بالتّقوى: تقوى الفرقة النّاجية، ولا أحد سواها، يلهج أنعامها بفضلها ليلا نهارا، ركّع سجّد على أرصفة البراء والولاء، يجدّدون لرأسها البيعة في كلّ آن وحين، يقولون بلسان التّابع الذّليل

قَالُوا: سَيَمْلِكُنَا إِمَامٌ عَادِلٌ

يَرْمِي أَعَادِينَا بِسَهْمٍ صَارِدِ

– 257 –

سألني بعض الأصدقاء عن التّدافع الفرقنجويّ (نسبة إلى الفرقة النّاجية) ما هو ولأيّ غاية رصده مبدعه النّجوويّ (أي النّاجي بنفسه من النّار) الفذّ، فقلت أجيبه:
– التّدافع هو أن يلقي المتدافع (أي المتظاهر بالدّفاع عن نفسه، متوهّما أنّها في خطر، وفقا للإستراتيجيّة الإسلامسياسيّة، المدعومة اليوم بقوّة الدّستور، والقاضية بأنّ الهجوم خير طريقة للدّفاع، أو للتّدافع، لا فرق، باعتبار أنّ الإسلاميّ يؤمن، إيمانه بالقضاء والقدر واليوم الآخر، أنّ السّلام من أبلغ مظاهر الاستفزاز والتّحرّش والعدوان، وأنّه من الحكمة أن يستبق العدوان قبل وقوعه، لأنّه واقع لا محالة حتّى ولو دلّت المؤشّرات على عكس ذلك تماما، فمن المعلوم عرفا وشرعا أن لا ذمّة للكفّار، وأنّه من التّفريط، الّذي ليس بعده من تفريط، أن يأمن المؤمن جانبهم) الفرقنجويّ بعدوّه اللّدود في الهاوية فتندقّ عنقه وتذهب روحه الخبيثة إلى النّار. ويحرص المتدافع الفرقنجويّ، هذا المحارب الاستباقيّ الذّكيّ – أو الخبيث في عرف البعض، فلا فرق بين النّعتين لأنّ الإرهاب والجهاد من طينة إسلامويّة واحدة – أن يتمّ هذا التّطهير العقديّ بطريقة إسلاميّة دستوريّة قانونيّة لا غبار عليها.
فاعترض صديقي، وكان مشاكسا لجوجا
– فما الفارق إذن بين التّدافع والإجرام؟
فقلت
– البون بينهما شاسع في عمق كلّ أوقيانوسات الكون ومحيطاته لو وصلت بعضها ببعض. يكفيك يا صاح أن تعلم أنّ الإجرام عدوان صارخ يقع تحت طائلة القانون فيزجّ بمقترفيه في غياهب السّجون. أمّا التّدافع الإسلامدستوريّ فهو عنوان الدّهاء السّياسيّ، ودليل باهر على حسن التّدبير. والسّياسة ضرب من ضروب الحرب والاقتتال لو تدري، والدّهاء من الخداع، وهو ما لا غنى للمتدافع الفرقنجويّ عنه إذا خاض غمار السّياسة. فما يعنيه أوّلا وأخيرا هو أن يشدخ رأس خصمه بدبّوسه المعصوم المأذون فيرديه قبل أن تتوجّه هراوة الخصم إلى رأسه. ومن المعلوم أنّ الإجهاز على العدوّ ليس من الجرائم الّتي يعاقب عليها القانون، حتّى وإن اشتبه في أمرها وعدّت من قبيل الاغتيالات السّياسيّة، الموسومة زورا وبهتانا بالإرهابيّة. ولك في قضيّتي اغتيال شكري بالعيد ومحمّد البراهمي خير دليل
فعاد صاحبي يسألني، وكان به عطش إلى المعرفة
– فلماذا اقتصرت الفرقة النّاجية، من دون الأحزاب جميعا، على هذه الإستراتيجيّة الحكيمة النّاجعة؟
فأجبته ضاحكا
– هذا سؤال مغرض لا يجدر بمثلي أن يجيب عنه لأنّني من ضمن من خطّط التّدافع الفرقنجويّ المقدّس للإلقاء بهم في الهاوية بعد أن فشل التّلافق في ردّنا إلى الجادّة. أمّا وقد هداك عقلك إلى هذا السّؤال، فلتعلم يا صاح إذن أنّ التّدافع هو إستراتيجيّة الإسلام السّياسيّ إذا تمكّن، يتخلّى عنها، بل ويتنكّر لها أحيانا، إذا وضعته الظّروف في موقع المستضعف، عملا بالقول المأثور: « الجهاد في غير موضعه انتحار »، وقد نهى العليّ القهّار أن يلقي المؤمن بنفسه إلى التّهلكة. وثمّة سبب أهمّ من هذا يفسّر
فقاطعني صاحبي متلهّفا
– وما هو؟
فقلت
– لو كانت الفرقة النّاجية حزبا سياسيّا عاديّا لما احتاجت للتّدافع، ولكانت
فقاطعني صاحبي من جديد نافد الصّبر
– فما تكون الفرقة النّاجية إذن؟
فقلت
– هي الأمّة الفاضلة الّتي ورد ذكرها في الحديث. وتكمن إستراتيجيّتها الفرقنجويّة في الجهاد – أي في العنف أوّلا وآخرا -، لا إستراتيجيّة لها غيره. فإن علمت أنّ التّدافع، في ذهن مبدعه الإسلاميّ الدّاهية، هو التّعريف المعاصر للاستبداد المدعوم بالحقّ الإلهيّ، بانت لك الحقيقة كلّها
فتساءل صاحبي محتارا
– فلماذا لا تلزم الفرقة النّاجية بالصّوم عن هذه الإستراتيجيّة الجهاديّة الاستباحيّة في مواجهتها المدنيّة مع الأحزاب الأخرى؟
فأجبته ضاحكا
– لو جازف أحد بكلمة في هذا الشّأن لاتّهمته الفرقة النّاجية بطمّ طميمها أنّه يدعو إلى هدم مساجد البلاد تمهيدا لاجتثاث الإسلام منها وإقامة العلمانية الملحدة دينا بديلا لشعب تونس المسلم الأصيل، تماما كما تتّهم إسرائيل معارضيها بمعاداة السّاميّة. من تراه يجرأ اليوم على المطالبة بكبيرة الكبائر هذه؟
فأفحم صاحبي. أرجو ألاّ يلتحق بطوابير المفحمين الّذين يشيدون بفضائل التّدافع الفرقنجويّ باعتباره نتاجا محضا لعبقريّة الفرقة النّاجية السّياسيّة، وبالتّحديد لعبقريّة رأسها وزعيمها الأبديّ. يحلو للبعض من هؤلاء المتزلّفين عن حسن نيّة أن يؤكّد لكلّ من يصيخون إليهم بأسماعهم أنّ الفرقة النّاجية أفضل الأحزاب التّونسيّة هيكلة وتنظيما وحضورا في كلّ مناطق البلاد، فهي تكاد تكون موجودة في كلّ قرية، بل في كلّ حيّ، بل في كلّ بيت، بل في كلّ غرفة من بيوت التّونسيّين، بل في كلّ مخدع من مخادعهم
لماذا ينسى هؤلاء – عن حسن نيّة بطبيعة الحال – أن يضيفوا أنّ الفرقة النّاجية حاضرة في كلّ تجمّع سكنيّ، اتّسع أو صغر، يحتوي على معبد؟ لماذا ينسى هؤلاء – عن حسن نيّة دائما – أن يوضّحوا لمن لم يدرك بعد معنى التّدافع أنّ المسجد هو العصب الحيّ للفرقة النّاجية، تذوي وتموت لو أخرجت منه بموجب قانون تحييد المساجد، الّذي قضى نحبه في المهد؟
ولعلّنا سنحتاج عمّا قريب إلى قانون تحييد المدارس والمعاهد والمباغي والمقاهي والحانات والشّوارع والمهاتر والمهاذر والمساوف والمحانث والغوغائيّات والشّعبويّات والشّغبويّات والتّهريجيّات لقطع الطّريق على الفرقة النّاجية الّتي تسعى لاحتوائها لتجعلها ضمن كتاتيبها الدّعويّة الإسلامدستوريّة الإحيائيّة القياميّة الرّسميّة وأبواقها المأذونة. ومن يدري، فقد نحتاج بعد أشهر، أو سنة أو سنتين على الأرجح، إلى قانون تحييد الدّولة حتّى لا يحوّلها التّدافع الفرقنجويّ اليمينيّ الفاشستيّ إلى جرّافة تستعملها الفرقة النّاجية لكنس العلمانيّين نهائيّا من مدينتها الطّهرانيّة التّقوويّة النّقوويّة الورعيّة الألقيّة الفاضلة

– 258 –

كان أبناء « ثورة الياسمين » المجيدة ينتظرون رمضانا أبديّا عجيبا، قيل لهم إنّه سيزيل بحركة بسيطة من يمناه كلّ الأوبئة والعلل الّتي زرعتها الدّيكتاتوريّة ورعتها خلال عمرها الطّويل، وفي مقدّمتها الفساد الّذي عانت البلاد والعباد من فظائعه طويلا. وما أدراك ما الفساد في بلد يتوهّم كلّ من يجلس فيه وراء مكتب من مكاتب الإدارة، أو يتربّع على منصّة من منصّات القضاء، أو يحمل هراوة من هراوات الدّرك أنّ لهم على العباد حقّ الحياة والموت، يقطعون أعناق من لم يرض من « المواطنمؤمنين » (أي المواطنين المؤمنين، أمّا الّذين يصرّون على أن يكونوا مواطنين لا غير فهم من زمرة الشّياطين الّتي آلى الإسلام السّياسيّ على نفسه أن يقضي عليها القضاء المبرم) أن يطأطؤوا رؤوسهم ويركعوا في حضرة البغي خضوعا وخنوعا. وقيل إنّه سيكون يوم فليلة ويولّي الجحيم بدون رجعة ليترك مكانه لجنّة إسلامدستوريّة أرضيّة لا تقلّ بهاء وروعة عن تلك الّتي تنتظر سعداء الحظّ في العالم الأخروي. وقيل إنّ أحوال التّونسيّين ستتبدّل من النّقيض إلى النّقيض لو وفّقوا في التّخلّص من الجور والإذلال والبطالة وانسداد الآفاق والتّفاوت والتّهميش، ولما ظلّ عندئذ بينهم من يدفع به اليأس والإحباط إلى إشعال النّار في بدنه للهرب من الضّنك المقيم. وارتفعت آلاف الأصوات مطالبة بالكرامة والحرّيّة والعمل والخير للجميع
وقد مرّت اليوم سنوات، أطلّ في كلّ منها رمضان الدّيكتاتوريّة القديم بسحنته الكالحة وقد ازدادت قبحا وتشوّها. أمّا رمضان البديل فقد احتجب عن القلوب. ولم يلبث القنوط أن فعل فعله في النّفوس بعد أن زحفت الدّمامة الأصولويّة السّلفويّة الجبهويّة النّصراويّة القياميّة الإسلامسياسيّة المتداعشة على البلاد برمّتها فلم تبق من مكامن النّضارة في وجهها شيئا، بل لقد أتلفت في جسدها ما لم تقدر الدّيكتاتوريّة عليه، فانضافت الأقذار إلى القبح حتّى بات الأفق التّونسيّ مصبّ قمامة متناهي الأطراف

– 259 –

كشّر المسجد الإسلامدستوريّ عن نواجذه، ومدّ ذراعيه وساقيه في كلّ اتّجاه حتّى شطّت عن حدود لحافه واحتلّت مجال غيرها من ألحفة الحياة الدّنيا فابتلعتها عن آخرها. ثمّ رفع هذا المسجد الجشع رايته معلنا أنّه أضحى، بفضل الله ومنّه، ملكا متوّجا على الدّنيا والآخرة، وأنّه سيملأ الأرض عدلا بعد أن كان الطّغاة الحداثيّون ملأوها من قبله جورا، وارتقى أعوانه المنابر المدسترة يكبّرون ويهلّلون ويبشّرون مساكين الأرض بالخلاص والفرج
وها هو المسجد الإسلامدستوريّ يجثم اليوم على العقول والقلوب والأبدان يمتصّ دماءها بشراهة، ويقطّع أوصالها بقسوة، ويسدّ دون الأرواح سبل الرّجاء والحلم، وقد أباح لجحافل عساكره ما كان قديما مجالا للطّغاة وزبانيتهم، لا يلجه غيرهم، وأضاف إليها مجالات السّماء الّتي لم يكن للاستبداد فيها مطمع، فدخلت الرّشوة والفساد إلى المعابد واستبدّت بها حتّى باتت الصّفقات المشبوهة، الّتي كانت قديما تعقد في السّرّ والظّلام، تعقد اليوم في وضح النّهار، على أمتار من المسجد أو داخله أحيانا

– 260 –

إسألوا جهابذة الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ إن كان من العدل أن يقدّ الإنسان نصفين ليكون على صفة النّسناس الّذي تتحدّث عنه الأساطير العربيّة الحيوانيّة؟ ولو سنحت لكم الفرصة فعلا وسألتموهم لكانوا أجابوكم أنّ هذا الأمر هو الجور بعينه لأنّ اللّه حرّم أن ينال أحد من تقويم الكائن الّذي خلقه سبحانه على صورته، فأخرجه في أفضل هيئة. فإن حدث وقال لكم « العلماء » هذا الكلام الجميل، فلا تتردّدوا واسألوهم عندئذ لماذا أجاز الإسلام السّياسيّ إذن أن تقدّ الأنثى نصفين أحيانا، وأربع شعب أحيانا أخرى، فيما ظلّ الذّكر عصيّا على القسمة؟ واسألوهم كذلك، إن لم يلزموكم بالصّمت في الأثناء، لماذا يقال عن هذا الجور الإسلامدستوريّ الفادح إنّه عين العدل؟
لو حدث واتّسعت رحابة صدر الحفّاظ النّحارير لهذا التّجديف الفظيع، فقد يجيبونكم عندئذ بيقين القضاة الملهمين قائلين
– اعلموا أنّ عدالة السّماء غير عدالة الأرض، فحذار من الخلط يا أولي الألباب
فإن حدث وشنّف الجهابذة الملهمين آذانكم بهذه الاسطوانة الإسلامدستوريّة البليغة، فلا تتردّدوا طرفة عين وذكّروهم – وإن كانت الذّكرى لا تنفع من صام عن لعنة « العقل » منذ ارتدى الجبّة وتوّج رأسه بالعمامة – أنّ الأنثى، خلافا للذّكر، ترزح تحت نير عدالتهم الإسلامدستوريّة الظّالمة هذه دنيا وآخرة

– 261 –

– لماذا يتعيّن ألاّ يخجل المؤمن الإسلامدستوريّ من إيمانه، ولو شطّ وسفك الدّماء، ويتعيّن، على العكس من ذلك، أن يخجل الملحد من إلحاده، ولو خفي حتّى لا يكاد يرى؟
تبادر إلى ذهني هذا السّؤال حالما بلغني أنّ رأس الفرقة النّاجية، الذّي يخشى إلهه كثيرا ويستهين إلى حدّ الازدراء بدستور الثّورة الّذي تمخّض عنه جبله التّمكينيّ (الملقّب تجاوزا بالمجلس التّأسيسيّ)، أعلن لجريدة « الفيغارو » أنّ تونس ليست دولة « لائكيّة »، أو « مدنيّة »، فالمفردتان في قاموسه الإسلامويّ من المترادفات. ولأنّ الرّجل لا يخجل البتّة من إيمانه الإسلامسياسيّ المزدوج، ولا من التّناقضات القبيحة الّتي يورده فيها هذا الخلط الشّنيع، فقد أكّد لمحاوره الصّليبيّ مرارا وتكرارا أنّ حزبه، الموسوم بـ « الفرقة النّاجية من النّار »، هو حزب مدنيّ ديمقراطيّ ذو مرجعيّة إسلاميّة، على غرار الأحزاب الدّيمقراطيّة المسيحيّة في أوربّا الصّليبيّة الخبيثة (هكذا كان يجب أن يقول، ولكنّه أمسك لسانه من باب المجاملة الدّيبلوماسيّة الّتي لا غبار عليها عرفا وشرعا). وأغفل غبطته أن يوضّح لمحاوره الغربيّ الصّليبيّ الصّهيونيّ (في نظره دائما، وإن لم يتفوّه لسانه بهذه « الحقائق الدّامغة »، من باب المجاملة الدّيبلوماسيّة دائما) أنّ « الفرقة النّاجية »، خلافا لنظرائها الغربيّين الصّليبيّين، تمسّكا منها بهويّتها الإيمانيّة الشّرقيّة، حوّلت مساجد تونس إلى خلايا تابعة لها، وذلك قناعة منها أنّ إلهها طرف رئيسيّ في إدارة الشّأن العامّ، لا مناص من الاعتصام بحبله والاقتداء بشريعته
وحيث أنّ اللاّئكيّة-المدنيّة هي العلمانيّة في فكر سماحة رأس الفرقة النّاجية، وأنّ هذه الأخيرة مرادف للإلحاد، فقد كان لزاما عليه أن يعلن دون أدنى خجل، كما يجدر بمؤمن إسلامدستوريّ من طرازه لا يخشى في الحقّ لومة لائم، أنّ الدّولة التّونسيّة ليست دولة لائكيّة، ولن تكون كذلك طالما أمسكت فرقته النّاجية بدفّة الحكم فيها. ومن الطّبيعيّ جدّا أن تمنع دولة إسلامدستوريّة كهذه رعاياها، الذّين انخدعوا بما سطّر في الدّستور حول مدنيّة الدّولة وحرّيّتي المعتقد والضّمير (متناسين أنّ ديباجة هذا الدّستور الثّوريّ القويم تنصّ صراحة على أنّ الإسلام دين دولتهم الثّوريّة الشّوريّة الوسطيّة التّلافقيّة العتيدة)، من المجاهرة بالإفطار في شهر الصّيام، والمطالبة بالحرّيّات الفرديّة بما فيها التّحرّر الجنسيّ، لأنّه من المعلوم أنّ الوعود الانتخابيّة لا تلزم إلاّ الأغبياء. ومن المعلوم كذلك أنّ قانون الدّولة القائمة اليوم لا يحمي الأغبياء الّذين يتوهّمون أنّ الدّساتير وضعت لتطبّق وتحترم، وغاب عنهم، لشدّة سذاجتهم، أنّ القوانين إنّما تسنّ لتخرق وتغتصب حفاظا على « الإسلام »، وجبرا لخاطر « الإسلاميّين » دون غيرهم من أهالي تونس
ولعلّ رأس الفرقة النّاجية، إن اضطرّته يوما مقتضيات السّياسة والعلاقات العامّة إلى الإجابة عن أسئلة محاوريه الصّليبيّين المحرجة بخصوص مخالفة تصريحاته لنصّ الدّستور، بما يطمئن هؤلاء الغربيّين الطّيّبين السّذّج – أو المتطايبين المتساذجين المتغابين على الأرجح -، عن مستقبل الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان في مهد « ثورة الياسمين »، وعن المصالحة التّاريخيّة بين « الإسلام » و »الدّيمقراطيّة » فيه، لكان الإسلامديمقراطيّ ردّ، بكلّ عنجهيّة وبدون أدنى خجل، كما يليق بإمام لا يخشى في الازدواجيّة الإسلامسياسيّة نقد ناقد، أنّ عبارتي « مدنيّة الدّولة »، و »حرّيّة المعتقد والضّمير » أخرجتا من سياقهما وتأوّلتا على غير الوجه الّذي ضبطه لهما واضعو الدّستور الثّوريّ من أتباعه وأبنائه ومواليه من مرتزقة العلمانيّة وحقوق الإنسان وأوهام الحداثة وما بعد الحداثة، وغيرها من التّرهّات والضّلالات الّتي لا تساوي، في ميزان حقّه السّماويّ القويم، شيئا

– 262 –

الفوضى الهدّامة: هذا هو مطمح الإسلام السّياسيّ الأقصى، وهذه هي إستراتجيّته العبقريّة للاستيلاء على الحكم. خلق الفراغ، والإيحاء لأنعامه (الّذين يطلق عليهم مجاملة اسم « المؤمنين »)، ولخصومه (الّذين ينعتهم، نكاية بهم وبجبنهم، « بأعداء الإسلام ») أنّه سيّد السّاحة والموقف بدون منازع. هذا هو ما يتردّد على كلّ حال في « الأطلال » الّتي يصرّ الإسلام السّياسيّ، من باب المغالطة، على تسميتها « بالدّولة » والنّظام » القائمين، وقد يجنح إلى السّخريّة أحيانا فيقول عنها إنّها « عرس ديمقراطيّته ». هو اليوم « نجم » الأطلال والخرائب بدوم منازع وعبقريّها الّذي لا يشقّ له غبار
ثمّة بون شاسع بين الحبيب بورقيبة – رحمه الله رحمة واسعة -، الّذي أقام صرح الدّولة ووضع اللّبنات الأولى لتونس الحديثة – وبين « نجم » الإسلام السّياسيّ اليوم، ورأس فرقته النّاجية، الّذي حلّ بتونس على ظهر جرّافة فقوّضها تقويضا وتركها ركاما، ثمّ استوى على الأنقاض وراح ينعب مشيدا « بالثّورة » الّتي عادت بتونس القهقرى إلى عهود المهانة والبؤس والأقذار والأوبئة. ثمّة بون شاسع بين بورقيبة، الّذي اختار له التّاريخ محلاّ، وبين « الشّيخ-الإمام-المهديّ » الّذي لا يحلو له المقام إلاّ في سراب الخرافات والأساطير. أربعة عشر قرنا تفصل بين الرّجلين
يقول المثل الشّعبيّ: « إلّي أكبر منّك بليلة، أكبر منّك بحيلة ». لذلك ظلّ بورقيبة كبيرا، بل كبيرا جدّا، في عهد غلبة الإسلام السّياسيّ، وظلّ – وسيظلّ – عدوّه اللّدود. ولا عجب في ذلك فمنطق التّاريخ، الّذي تمثّله بورقيبة جيّدا، هو الّذي سيحكم على الإسلام السّياسيّ اللاّتاريخيّ، بالزّوال

– 263 –

الهامشّيون والزّعانف والأذناب والحرافيش من حرّاس « الثّورة المسجديّة »، وطوابير الجلاّدين الّذين ينقّذون ما « تقرّر شرعا » (على حدّ العبارة الوهّابيّة المعتمدة في إقطاعيّة آل سعود) بحقّ « المتنطّعين » و »المارقين »، و »الخارجين عن الصّراط المستقيم »، والأئمّة الحاكمون بأمرهم في مساجد الشّطط والرّياء والدّجل المقدّس، والمحتسبون المتطوّعون لترويع الفضاء العامّ وتعكير صفو حياة التّونسيّين الحريصين على حرّيّة ضمائرهم، وغير هؤلاء من الشّوائب الغفيرة الّتي ابتدعها الإسلام السّياسيّ لإنجاز « تمكينه » الّذي أخرجه في شكل « مسخرة » أطلق عليها اسم « التّحوّل الدّيمقراطيّ »، ذلك الّذي أفضى في النّهاية إلى تآكل الدّولة وتراجعها، بل وانهيارها التّدريجيّ
هؤلاء الشّوائب الفتّاكة هم الّذين خلقوا الواقع « الأوترشيّ » (أوتارشيك) الّذي نحياه اليوم، والّذي يوحي بأنّ البلاد أضحت نهبا للفوضى، وأن ليس بإمكان أحد بعد اليوم أن يضبط أمورها. لا أحد، باستثناء الإسلام السّياسيّ طبعا، الّذي تدستر في الأثناء، فهو الوحيد القادر على إتيان « المعجزات »، وفي مقدّمتها معجزة الدّولة الإسلاميّة أو « الخليفيّة » الّتي لم ينفكّ يتغنّى بفضائلها الخارقة

– 264 –

التّشنيع والحصار الأخلاقيّين هما من أهمّ أساليب الحكم لدى الإسلام السّياسيّ الّذي يفتقر إلى برنامج اقتصاديّ وسياسيّ لإدارة الشّأن العامّ، ولا يعوّل للفوز بدفّة الحكم إلاّ على « نجاعة » خطابه الهوويّ التّقوويّ الأخلاقويّ. فالإسلام السّياسيّ يصبو إلى التّحكّم في الضّمائر والأرواح، وهذه لا تتغذّى بالاقتصاد، وإنّما غذاؤها القيم العليا والإيمان القويم. ومن هؤلاء من يضحّي حتّى بما يحفظ الرّمق فيبذل روحه طائعا مختارا لترفرف راية فرقته النّاجية عاليا، فهي الوحيدة القادرة اليوم على مقارعة لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة الّتي تطالب – يا للشّناعة ويا للعار – بدسترة الشّذوذ الجنسيّ والزّواج المثليّ والعري الفاضح الفاحش وإلغاء الختان، وذلك بهدف القضاء على الثّوابت الإسلاميّة في المجتمع والأسرة.
هذه نبذة مّما يقال اليوم على منابر الازدواجيّة والرّياء والصّفاقة، الّتي يديرها الإسلام السّياسيّ بأياديه الخفيّة، فيما يتسابق « معتدلوه » إلى تزكية تقرير اللّجنة وشكر أعضائها على « اجتهاداتهم »، معبّرين عن مساندتهم الكاملة لهذه النّقلة الحقوقيّة والحضاريّة العظيمة. أصوات معزولة (تعبّر عن مواقف شخصيّة لا تلزم جهاز تنظيم الإسلام السّياسيّ، العصيّ على الاختراق)، وفي المقابل جحافل من المستائين الممتعضين المندّدين بهؤلاء الّذين لم يكلّفهم « الشّعب التّونسيّ » (المسلم بالضّرورة، وفقا للفصل الأوّل من الدّستور الثّوريّ) بتقرير خياراته المجتمعيّة والأخلاقيّة، على حدّ تعبير كريمة رأس الفرقة النّاجية. و »فضيلتها » تعني – قدّس سرّها – أنّ هذه المهمّة حكر على الإسلام السّياسيّ، لا حقّ لأيّ أحد آخر، بما في ذلك الشّعب نفسه، في التّدخّل فيها، أي أنّها في النّهاية حكر على والد فضيلتها، وحقّ خالص له لا يشاركه فيه أحد

– 265 –

يطمح الإسلام السّياسيّ إلى هدم كلّ ما أنشأته الأيادي والعقول البشريّة على الأرض على مرّ الدّهور. الحضارة الإنسانيّة هي عدوّه اللّدود لأنّها نتاج العقل البشريّ، الشّيطانيّ جوهرا ومنزعا في نظره. فهو لذلك يطمح إلى القضاء المبرم على « خلافة الإنسان » في الأرض ليحلّ محلّها « خلافة الله » الّتي تقتضي، في نظره، أن يعلو حكم الله لأنّه لا حاكميّة إلاّ لله. وقد اصطفى الله الإسلام السّياسيّ بالذّات (بتفويض سرّيّ بينهما لا يهمّ غيرهما) لممارسة هذه الحاكميّة وإلزام « عبيد الله » (أو عبيده هو، لا فرق) بكلّ أحكامها وضوابطها العادلة، وإن لم تخل من شدّة، لا بدّ منها لترويع « أعداء الله » وحملهم على العودة إلى الجادّة

فرج الحوار

يتبع