اتّبع عقلك، فالعقل نبيّ (3) : المخيال القياميّ للإسلام الدّستوريّ

في قرار كلّ إنسان ينام نبيّ. فإذا أفاق ازدادت نسبة الشّرّ في العالم. إنّ مصدر أفعالنا يكمن في ميلنا اللاّواعي إلى تصوّر أنفسنا مركز الكون، والغاية الّتي سيفضي إليها الزّمان. إنّ النّبيّ القابع في قرار كلّ واحد منّا هو الّذي يحملنا على التمدّد في مجال فراغنا
إميل سيورون، « موجز في ماهيّة التّحلّل »، ضمن أعمال سيورون، ص 582

– 57 –

يزعم أشياع رأس الفرقة النّاجية (ويعرف عندهم بالشّيخ وبالأستاذ، أمّا أعداؤه فينعتونه بالغورو ») أنّ سنّه يربو عن أربعة عشر قرنا، وإن بدا في هيئة شيخ لا يزيد عن الثّمانين. وهم يعتقدون جازمين أنّه من معاصري آدم ونيوتن ونوح وترومب وإبليس وصدّام حسين ويأجوج ومأجوج ورونالدو وأبي جهل وبيار هنري ليفي وأبي بكر الصّدّيق وسقراط وبيار كوهين وشهداء بدر ونتانياهو وهاروت وماروت والمسيح والفارابي وأردوغان والكنديّ وبوذا وابن تيميّة ومحمّد بن عبد الوهاب والنّاموس الأعظم وأبي أعلى المودودي والسّلطان عبد الحميد ونيتشة ومانيتو الأكبر وكارل ماركس والمسيح الدّجّال والسّيّد قطب والجهاديّين المرابطين اليوم في الثّغور ويوسف القرضاوي والمهديّ المنتظر والمجاهدات الباذلات فروجهنّ تقوى ووعدوّه اللّدود الحبيب بورقيبة. يزعم المستظلّون براية فرقة النّاجين من النّار (نار الدّنيا أم نار الآخرة، أم النّارين معا، لا يهمّهم أن يشتعل الكون نارا لينجو هم؟) أنّ حبرهم وإمامهم وقدّيسهم وتاج رأسهم خبر هؤلاء جميعا وشاركهم الماء والملح والفكر وانتهى إلى نتيجة مفادها أنّه اليوم أفضل من سعت به قدم، وواحد مّمّن قال عنهم السّلف الصّالح أنّهم سيجدّدون « الإسلام » ويرفعون رايته عاليا على رأس كلّ قرن
والحقيقة أنّ الرّجل لا يختلف ظاهريّا عن شيوخ البلد رغم ما أشاعه عنه أتباعه من خرافات وأساطير، وأهمّها أنّ « الله » وهبه همّة سبعين شابّا، وشطّ البعض منهم فزعموا أنّ حيويّته تفوق حيويّة مائة من خيرة الشّبّان وأقواهم، وطار به آخرون إلى أعلى علّيين فأكّدوا أنّ قائدهم نسيج وحده، فهو من نسل العماليق والجبابرة الّذين ورد ذكرهم في كتاب « العظمة » لابن أبي الشّيخ، لا صنو له بين العالمين، حاز علم الأوّلين والآخرين، وانبثّ في حركة الزّمان فتكهّن بكلّ ما سيكون في مستقبل الأيّام

– 58 –

لأنّ « المفاهيم ليست كيانات ماورائيّة معزولة عن الوقائع » ، فقد أوهم رأس الفرقة النّاجية (واضع أسس الإسلام الدّستوريّ، ومبدع نظريّة « التّدافع »)، أتباعه أنّها حازت من الإدراك والورع جوهره، فلا يهولنّها صلف « الجاهليّين »، وليكن لهم في أنيابهم ومخالبهم الحجّة الّتي ليس بعدها حجّة، لا يرفعونها عنهم إلاّ إذا ارتدعوا وأعلنوا البراءة من إمام الفسق الّذي برايته يستظلّون، تأسّيا بفيلسوف الشّعراء من قبلهم، وقبلوا صاغرين بالدّخول فيما دخل فيه النّاس راكعين، مهلّلين للنّاموس المقدّس الّذي أشهره « الشّيخ الأكبر والكبريت الأحمر » يوم استقبل في المطار بأهزوجة :  أقبل البدر علينا

– 59 –

الإسلام الدّستوريّ هو من جرّد الإسلام من نعمة +لا إكراه في الدّين » (هذه الآية الّتي كان يجب أن تكون لدستور الثّورة شعارا)، وأحلّ محلّها +إنّ الدّين عند اللّه الإسلام » بمقتضى قانون النّسخ الّذي لا ينسخ في عرفه إلاّ الرّحمة، ولا يحتفظ إلاّ بالنّقمة. هذه الفتوى، الّتي تشرّع للمواجهة والتّطاحن والاقتتال، هي من جنس الفتاوى الّتي « تكاد تدمّر التّقوى الّتي هي رأس الفضائل الإسلاميّة »، ورأس فضائل كلّ دين، وذلك لأنّها « تفضي إلى إشعال الفتن الأهليّة وتمزيق المجتمعات. ومن هنا نتجاوز الآن الصّراع أو المفاضلة بين قيم الإسلام ومنطق الحداثة، أو بين عقل عربيّ وعقل غربيّ » ، أو بين « متاع ربّي » و »متاع إبليس »، أو ما شابه ذلك من ثنائيّات المغالطة والدّجل، لنهتمّ أوّلا وقبل كلّ شيء بكبح الرّعونة والشّطط والاستفزاز الّتي أشهرها الإسلام الدّستوريّ في وجوه الجميع

– 60 –

ما على من يرى الحلّ في غير « الإسلام الدّستوريّ » من أهل تونس إلاّ أن يداري « ضلاله »، ويستر « كفره »، أو يشرب البحر. فإن لم يقدروا على ذلك :  ولن يقدروا حتما  فليموتوا بغيظهم في ظلمات السّجون

– 61 –

لا بأس في عرف الإسلام الدّستوريّ أن يقاد النّاس إلى الجنّة – في الموصل أو في تدمر، أو في توزر وهرقلة وتبسّة وحمّام الغزاز والمكنين والقلعة الجرداء والرّبع الخالي والبرزخ العالي وما بين البحرين وما بين الأرضين والسّماوات السّبع وفي الدّنيا والآخرة، ومن هناك إلى جنّة الملإ الأعلى – يرسفون في حديد الطّاعة والتّسليم والانقياد. وبرهانهم على ذلك أنّ الجنّة حرام على أهل الجدل والعناد، الرّافضين لنير « الإسلام » والمتدلّهين عشقا بأنوار العلمانيّة الفاسقة

– 62 –

خطيئة الإسلام الدّستوريّ الّتي لا تغتفر تكمن في كونه تغافل عن حقيقة أنّ الإسلام (هذا إن جاز أن نتحدّث عن إسلام واحد موحّد) ليس ملكا خالصا لأحد، وعليه فلا يجوز لأيّ كان – فردا كان أو جماعة – أن يجعل منه رهانا ويزجّ به في ما يجدّ من خلافات وصراعات بين البشر، لأنّه لا مكان للمطلق في مجال النّسبيّ، ولا مكان للمقدّس في الحلبة التّي أحدثها البشر لنفض الدّرن عن أثوابهم، وتيسير متطلّبات التّعايش فيما بينهم

– 63 –

خطيئة الإسلام الدّستوريّ الثّانية (وهي لا تقلّ خطرا عن الأولى) تتمثّل في كونه اختزل الدّهر في « رمضان »، مشرّعا بذلك لإمساك الإنسان عن استعمال ملكة تفكيره، وتعطيل العقل فيه بدعوى قصوره، والاستعاضة عنه بقناعات غيبيّة متهافته في السّذاجة والسّخف تزعم أنّ الماضي هو الحاضر، وهو المستقبل كذلك، بل هو الزّمان كلّه. هل ثمّة بدعة أبعد في الضّلال من هذه؟ هل ثمّة بدعة أخطر على العقل والإيمان من هذه الّتي اتّخذها رأس الفرقة النّاجية لإسلامه وخوارجه شعارا، إذ يصرخون على كلّ المنابر
– لا إمام إلاّ السّلف الصّالح؟
ومرادهم أن يقنعوا معارضيهم أنّ « كلّ ما قال الماضون أو فعلوه ملزما لنا [اليوم]، أو حجّة علينا »، خاصّة وأنّنا، بسبب من القصور الّذي يشلّ فينا العقل والفعل، لسنا « أدرى بواقعنا وهمومنا ومشكلاتنا » من هؤلاء الموتى الّذين يعتلون المنابر، متسربلين في وجوه بعض الأحياء منّا، ليعلنوا ألاّ صلاح للخلف إلاّ بما أمّن صلاح السّلف. فنحن في نظر هؤلاء « مجرّد أصداء للماضين، ننفّذ ما قالوه، لكي نكون على مثالهم »، وأنّه يتعيّن علينا لذلك أن لا « نشتغل على وقائع حياتنا، باستثمار طاقاتنا الذّهنيّة، وإطلاق قوانا الحيّة على نحو مبتكر فعّال » ، لأنّنا، إن فعلنا ذلك ارتكبنا جريمة لا تغتفر باعتدائنا على قدسيّة التّراث
وهذه العقليّة النّكوصيّة، الّتي ينادي بها اليوم الإسلام الدّستوريّ على كلّ المنابر، تمتح من معين « الموروثات العقائديّة الّتي هي استراتيجيّات لممارسة الاستعباد »، وبصورة أدقّ من معين مدوّنات « الأحاديث والرّوايات الحافلة بمفردات التّكفير والتّبديع، أو البغض والنّبذ، تحت شعار الفرقة الواحدة النّاجية. فهذه الموروثات، الّتي هي مصانع إنتاج العنف الرّمزيّ أو الإرهاب الفكريّ، هي الغالبة » على عقل الإسلاميّ الدّستوريّ ووجدانه

– 64 –

إنّ العقل الإسلامويّ يشكو من داء مزمن، عطّل فيه ملكاته بالكامل وحوّله إلى ما يشبه الآلة الصمّاء، عماده وهم التّماهي مع السّلف (غالبا ما ينعت بالصّالح). « إنّه الدّاء الأعظم الّذي يفتك بالمجتمعات العربيّة لكي يحوّل الحياة إلى جحيم لا يطاق، بقدر ما يحيل الدّين إلى فيروس قاتل » . ومن مظاهر استشراء هذا الفيروس الفتّاك اليوم في تونس، وفي غيرها من البلدان الّتي تفشّى فيها جرثوم الأصوليّة الدّستوريّة الإحيائيّة، إصرار الإسلاميّين بشتّى مشاربهم على عدم الإقرار بأنّ هذا التّماهي المزعوم أمر مستحيل لأنّ « أكثر النّاس أصوليّة ومحافظة هم في النّهاية أبناء هذا العصر من حيث همومه ومشكلاته وأدواته » ، ولولا ذلك لكانوا فرّوا بدينهم من « الجاهليّة »، الّتي لم ينفكّوا يندّدون بها، إلى أقاصي الأدغال ومجاهل الصّحراء

– 65 –

دلّونا على إسلام واحد من إسلامات الغلوّ والعسف طعن في شرعيّة « الجهاد » ونعته بالاسم الوحيد الّذي يستحقّه، أي الإرهاب. دلّونا على إسلام واحد طعن في شرعيّة حدّ الرّدّة، باعتباره نقيضا لحرّيّتي الضّمير والمعتقد. دلّونا على إسلام واحد قادر على الإقرار بأنّ إسلام البدايات ليس صالحا لكلّ زمان ومكان . هل كان من حاجة، لولا هذه الحقائق البديهيّة، إلى آليّة النّسخ تبطل أحكاما وتشرّع لأخرى، والقائم بالرّسالة بعد على قيد الحياة؟ وبالنّظر إلى ما يجري اليوم في أنحاء كثيرة من العالم العربسلامي من اعتداء على حرمة الأفراد والجماعات بتعلّة الانتصار للمقدّس الإسلامدستوريّ، يتّضح أنّ الهدف المعلن لهذه الإسلامات القهريّة كلّها هو أسلمة من لم يقرّ لها بالرّيادة والفضل من عامّة المسلمين، أي الّذين ورثوا الإسلام عن آبائهم بفعل صدفتي الميلاد والجغرافيا، فهم المستهدفون أوّلا وآخرا، ومعهم « أهل ذمّتهم » التّاريخيّين، أي مواطنيهم من غير المسلمين

– 66 –

لا ينخدعنّ أحد بوعود الإسلاميّين القعدة (كقعدة الخوارج القدامى الّذين يجاهدون بألسنتهم وقلوبهم بدلا من أن يجاهدوا بأيديهم) الّذين لا يستنكفون من رمي الحيوان أو الشّيطان بالموبقات والفظائع الّتي يرتكبها « إخوان » لهم في مختلف الجبهات الّتي تمترسوا فيها دفاعا عن النّقاء والصّفاء، « فالعهر والخلاعة والفحش (الّتي يمارسها هناك جزّارو الأطفال بعنوان الورع والتّقوى) ليست أعمالا حيوانيّة كما يكتب » المستنكفون من الإسلاميّين في دفاتر السّجال والمكابرة، « وإنّما هي صناعة يتقنها البشر (ومنهم هؤلاء الّذين لم ينزلوا إلينا من المرّيخ على حدّ قول الطّامح إلى سدّة الخلافة السّادسة) بأهوائهم ومطامعهم وجشعهم. والوحشيّة »، المنقطعة النّظير الّتي يفصح عنها هؤلاء في سعيهم لاستئصال الانحراف والضّلال، « ليست حيوانيّة، وإنّما هي أيضا صفة إنسانيّة بامتياز (لهؤلاء المبشّرين بثقافة جديدة في عالم حوّلته سكاكينهم إلى مسلخ كريه)، إذ الحيوان يقتل وفقا لقانون الطّبيعة، وأمّا الإنسان (والإنسان الإسلامويّ بصورة خاصّة) فإنّه يقتل بحسب مقتضيات الثّقافة، على ما تشهد به أعمال الخطف والتّعذيب والتّنكيل والتّطهير والاستئصال » الّتي يتسابق « الجهاديّون » إلى اقترافها في كلّ شبر من الأرض تبلغه أقدامهم الجوّالة
ملخّص القول أنّ الشّعار الإسلاميّ الّذي لا ينفكّ يردّد أنّ « الإسلام هو الحلّ » سيفضي، إن كتب له يوما أن يتحقّق على أرض الواقع في صيغته المكتملة، « إلى حجب المرأة، وتحريم الغناء، ومصادرة الحرّيّات، ونبذ الآخر، وتدمير صيغ التّعايش، وممارسة الإرهاب وأعمال القتل والإبادة » (وقد وقع الكثير من هذه الموبقات في تونس)، وهو ما من شأنه أن « يحوّل المجتمعات الإسلاميّة إلى سجون عقائديّة ومعسكرات طائفيّة، بقدر ما يحوّل الأفكار والدّعوات إلى آلات للهلاك والخراب. هذه هي مصائر المشروع الإسلاميّ الدّستوريّ على اختلاف نسخه وتنظيماته ومؤسّساته: تحويل الفكرة إلى مؤسّسة للإدانة، أو الهويّة إلى محميّة عنصريّة، أو الصّحوة إلى عتمة دامسة، أو السّلام إلى حرب دائمة، أو النّهضة إلى مهاوي التّهلكة، أو الدّعوة إلى استراتيجيّة قاتلة » .

– 67 –

أفضّل إسلام والديّ الأمّيين على كلّ إسلامات السّفسطة والغلوّ لأنّه إسلام يؤمن فطريّا بضرورة فصل الدّين عن الدّولة، وأربأ بنفسي عن إسلامات الفقهاء والمتفقّهين وأشباه الفقهاء والمتفيهقين والمتألّهين من أدعياء الورع والتّقوى المنضوين تحت رايات فصائل الإرهاب الفكريّ الّذي غالبا ما يتحوّل إلى عنف مدمّر، فهو الثّمرة المرّة للثّقافة الدّينيّة الدّستوريّة الإحيائيّة النّرجسيّة السّائدة الّتي « تسهم في إنتاجه وتعميمه، وهي ثقافة سمتها أنّها متحجّرة، أحاديّة، عاجزة، فقيرة، عدوانيّة، استبداديّة، كما تجري ممارستها وتستنسخ أو تعمّم نماذجها، تحت سمعنا وأبصارنا، في المساجد والمدارس (القرآنيّة ظاهرا، الإسلامويّة السّلفيّة الاستئصاليّة جوهرا)، أو على الشّاشات والقنوات »، الّتي لا تقلّ عنها عنجهيّة وصولة . هذه الثّقافة الخانقة القاتلة تقوم على « خمسة أركان

1- معتقد اصطفائيّ يزيّن لأهله أنّهم ملاّك الحقيقة، وخير أمّة، وسادة الخلق، والمعصومون عن الخطأ، والفرقة النّاجية
2- منهج أصوليّ يقوم على عبادة النّصّ، وتقديس السّلف بقدر ما يوهم أصحابه أنّ بإمكانهم التّماهي مع الماضي، واستعادته بحرفيّته وحذافيره
3- طرح شعار الحاكميّة الإلهيّة لاحتكار المشروعيّة، والنّطق زورا أو عنوة باسم الأكثريّة من النّاس
4- استراتيجيّة الرّفض والإقصاء للمختلف بالعمل على اتّهامه ونبذه، أو استبعاده وإلغائه
5- اللّجوء إلى العنف أسلوبا ووسيلة لتحقيق الأهداف الطّوباويّة والمشاريع المستحيلة

– 68 –

لقد أضحى من البيّن اليوم ، على ضوء ما يجري في مختلف بقاع الدّنيا الّتي تسلّل إليها الإسلاميّون الدّستوريّون (أي الّذين يؤمنون بالقرآن دستورا، لا دستور لهم سواه ولو أقرّوا مرحليّا، لغايات إستراتيجيّة معلومة، بالدّساتير الوضعيّة) ليقيموا فيها، على أنقاض الحداثة الجاهليّة، صرح الخلافة الأزليّة القويمة، أنّ « هذه العملة الرّمزيّة العقائديّة، ببنودها ومقرّراتها، لم تعد تصلح للاندراج في هذا العالم، والعيش فيه بصورة سويّة، أو التّعاطي معه بصورة إيجابيّة وبنّاءة؛ بالعكس، إنّها تصنع الإرهاب بقدر ما ترتدّ على أصحابها وعلى المسلمين، خسائر ومهالك وكوارث » . لكلّ هذه الأسباب، ولغيرها ممّا يضيق عن ذكره هذا المقام، أفضّل على هذا الإسلام الدّستوريّ الكارثيّ، إسلام +لكم دينكم ولي ديني »، و+لا إكراه في الدّين ». وأؤمن أنّه من غير الجائز اليوم أن يتدخّل أحد في دين أحد آخر، وأرى أن يكتفي كلّ واحد بممارسة دينه دون الاهتمام بتقوى جاره أو فسقه. وقناعة الجميع أنّ كون الجار لا يدين بدين جاره لا يعني أنّه له عدوّا، بل يعني فقط أنّه مختلف عنه
إن كان في هذا الموقف كفر بالإسلام الدّستوريّ (الّذي أريد له أن يكون « الإسلام » بطمّ طميمه)، فأنا به كافر، لن أرتدّ عن كفري به ما حييت، أو ينتصر الإسلام الثّقافيّ من جديد، إسلام بسطاء النّاس الّذين لا يخطر ببالهم أبدا أن ينتصبوا رقباء على ضمائر عباد اللّه يزكّون ويفسّقون من يريدون منهم، وشعارهم المفضّل، شعار والديّ الأمّيّين وكلّ النّاس الطّيّبين الّذين كانوا يدورون في فلكهم
كلّ شاة معلّقة من كراعها

– 69 –

فكرة فصل الدّين عن الدّولة ليست بدعة علمانيّة صليبيّة صهيونيّة هجينة، كما يحاول أن يوهمنا بذلك شيعة الإسلام الدّستوريّ، والطّفيليّات اللّيبراليّة واليساريّة الّتي تستظلّ برايته طمعا في فتات من فيئه، بل إنّها على العكس من ذلك من صميم الفكر التّائق إلى الانعتاق من ربقة القهر. فلا عجب إذن أن شكّك أبو العلاء المعرّي في جدوى مزج التّديّن بالرّئاسة، فقال يحذّر معاصريه، ويحذّرنا نحن اليوم (لأنّه من معاصرينا ما دام ينطق بلساننا ويفصح عن همومنا) من مغبّة هذا الخلط الوبيل

أَنَّى يَنَالُ أَخُو التَّدَيُّنِ سُؤْدُداً

وَمَآرِبُ الرَّجُلِ الشَّرِيفِ خَسَائِسُ؟

وإِذَا الرِّئَاسَةُ لَمْ تُعَنْ بِسِيَاسَةٍ

عَقْلِيَّةٍ، خَطِئَ الصَّوَابَ السَّائِسُ

لذلك يعرّف رهين المحبسين الطّغيان بكونه غياب العقل في إدارة الشّأن العامّ، فيقول مفسّرا العلاقة الجدليّة بين العقل والسّياسة 
يَسُوسُونَ الأُمُورَ بِغَيْرِ عَقْلٍ

فَيَنْفُذُ حُكْمُهُمْ وَيُقَالُ: سَاسَهْ

فَأُفَّ مِنَ الْحَيَاةِ وَأُفَّ مِنِّي

وَمِنْ زَمَنٍ رِئَاسَتُهُ خَسَاسَهْ

– 70 –

جعل الإسلام الدّستوريّ في مقدّمة أوليّاته الحياتيّة الدّفاع عن المقدّسات، متغاضيا بذلك عن أمر مهمّ، في غاية البداهة، مفاده أن لا وجود في سلّم المقدّسات أعظم من قداسة الحياة، وحرمة الفرد البشريّ جسدا وفكرا وضميرا. والغريب في الأمر أنّ الإسلام الدّستوريّ يقرّ بهذا المبدأ بكلّ طواعيّة وأريحيّة فيما يتعلّق منه بشؤونه الخاصّة تحديدا. وهو إنّما يتصرّف بهذه الانتقائيّة المقيتة بمقتضى : داء الاصطفاء العنصريّ، الّذي فتك بالمشروع الإسلاميّ منذ بدايته، من خلال قسمة النّاس قسمة أصليّة تكوينيّة، بين من هم مصطفون ومنتجبون، أو طاهرون وطيّبون، وبين من هم على العكس من ذلك 

– 71 –

ليس هناك – منطقيّا على الأقلّ – ما يجيز سجن إنسان أو إزهاق روحه لأنّه لا يستقبل قبلة جاره، وليس من الجائز تصفية كائن بشريّ لأنّه لا يذعن لإله قاتليه. وقد وقع أنصار النّهج القويم من الإسلاميّين الدّستوريّين في المحذور، وسفكوا الدّم الحلال بدعوى الذّود عن مقدّساتهم، وما زالوا مقرّين العزم على سفك المزيد من الدّماء. فهم لا يريدون إلاّ السّيف والرّصاص، في ساحة تدافعهم – جعلها راعيهم والنّاطق بخلجات وجدانهم مرادفا للجدل -، ندّا للكلام، وبديلا عنه عند اللّزوم. وهذا هو البغي بعينه، أو الإرهاب لمن شاء أن يسمّي الأشياء بمسمّياتها. وهل يفعل المتدافع غير أن يركب حقّه، كما يركب العنيد رأسه، ليدوس حقّ غيره – الّذي لا يقلّ نظريّا قداسة عن حقّه، وإن كره ذلك، ولجّ في نكرانه – في الاختلاف قولا وفعلا وسلوكا وحياة؟

– 72 –

نظريّة التّدافع المشؤوم هي الّتي استباحت الدّماء على مرّ الدّهور باسم حقّ، أبعد ما يكون عن البداهة حتّى في نظر القائمين به. لذلك تناسلت راياتهم، وتسابقت في ميدان السّفاهة تتراشق بأسماء لها كما يتراشق السّفهاء بالحجارة، فلا يسمع السّامع إلاّ: « الصّحوة »، و »القيامة »، و »الاكتساح »، و »الفتح »، و »خدّام المنهاج »، و »أعوان الشّريعة »، و »جند الحقّ »، و »فرسان الهدى »، و »سيوف اللّه المسلولة »، و »لعائن العزيز المرسلة »، و »رشّاشات الصّراط المبين »، و »هراوات المعروف ودبابيس الحسنى »، و »مدمّرات السّماء الماحقة »، و »كتائب التّمكين »، و »جماعة الغرباء »، و »فصائل الاستباحة »، و »القائمون بالمعاد »، و »مدافع النّهج الأبلج »، و »لجان التّرويع والتّرهيب »، وغيرها من الملل والنّحل الّتي تتناسل اليوم كالهوامّ في ربوعنا المضرّجة بالدّماء الّتي أراقها المحكتفتيشيون (نسبة إلى محاكم التّفتيش السّيّئة الذّكر) قديما، وأراقوها راهنا، وسيستمرّون في إراقتها بدون رادع، بهدي من هوسهم العقديّ الدّستوريّ الإحيائيّ الوبيل

– 73 –

الدّيمقراطيّة هي وحدها الكفيلة بكبح جماح النّبيّ القابع في كلّ واحد منها لأنّها، دون غيرها من إيديولوجيّات التّرويض، الّتي لا يستقيم لها سلطان بدون هراوة التّرويع والتّحمير (تلك الّتي أبدع في وصفها علي شريعتي، فلم يغفر له الإسلام الدّستوريّ – في صيغته الشّيعيّة – هذه الجريمة الشّنعاء)، لأنّ الدّيمقراطيّة، خلافا لها جميعا لا تقرّ إلاّ بنبوّة العقل، ولا شيء سواها، مع قناعتها أنّ العقل نبيّ غير معصوم. فلا عصمة لأحد أو لأيّ شيء في الحياة، ولا عصمة لأحد أو لأي شيء في كلّ مجالات الحياة بما في ذلك الدّين، وخاصّة إذا ما أريد له أن يتحوّل إلى « حزب » يخطب ودّ الجمهور بالوعود الكاذبة، والتملّق، والمنّ والإتاوات المتنكّرة في شكل صدقات (وكلّها في الازدراء والإذلال سواء)، والرّحمة الخدّاعة

– 74 –

دسترة « الإسلام » (السّنّي فيما يتعلّق بتونس) يقتضي ضرورة
أوّلا: دسترة كلّ الأديان والمذاهب الأخرى باعتبار أنّها أوّلا لم تنزل علينا من المرّيخ، وباعتبار ثانيا أنّ الدّستور ضامن لحقوقها جميعا، وليس حكرا على فرقة بعينها، ولو كانت تمثّل – نظريّا على الأقلّ – الأغلبيّة
ثانيا: تمكين الأقلّيات الدّينيّة والمذهبيّة من جميع الحقوق الّتي يتمتّع بها الإسلام الدّستوريّ، بما في ذلك حقّها في الإعلام والتّعبير وممارسة شعائرها دون أدنى تضييق
ثالثا: تمكين اللاّدينيّن والملحدين من حقّهم في التّعبير عن قناعاتهم، وإلزامهم بنمط حياتيّ لا يتّفق مع وجهات نظرهم، على أن يتمّ ذلك في كنف قانون محايد تسهر مؤسّسات الدّولة المدنيّة على تطبيقه ومعاقبة من يخالفونه علنا وسرّا تحت ذرائع « الدّعاية » والحسبة » و »الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر « ، وغيرها من آليّات الاستبداد المقنّعة الّتي يمارسها الإسلام الدّستوريّ اليوم على مرأى ومسمع من الجميع، وبتواطئ بيّن من الأجهزة « الدّستوريّة » للنّظام القائم
رابعا: تجريم « التّكفير » الذّي يمارسه الإسلام الدّستوريّ في حقّ كلّ الأديان والمذاهب الأخرى
خامسا: التّصدّي بقوّة القانون لأتباع الإسلام الدّستوريّ، المنادين تحت ذريعة تطبيق الشّريعة، بإعادة العمل بالعقوبات الجسديّة الوحشيّة المهينة في ظلّ دستور يزعم أنّه صيغ خصّيصا للذّود عن كرامة الإنسان وحرمته الجسديّة والرّوحيّة

– 75 –

أرض تونس تجهل أنّها مسلمة، وتجهل أنّها عربيّة، بل وتجهل حتّى أنّها تسمّى تونس، فقد منحها أهلها، والوافدون إليها على أجنحة الغزو والفتح والحماية، أسماء كثيرة احتفظ بها التّاريخ الّذي لا يهمل شيئا، قلّ أو كثر. ويجحف في حقّ تونس وتاريخها اليوم من يتوهّم أنّ بإمكانه أن يفسخ « بجرّة دستور » وقائع التّاريخ الكثيرة ليختزلها في فترة بعينها، يزعم أنّها البداية والنّهاية لتونس وأهلها

فرج الحوار

يتبع