التونسيون و مأزق عودة الإرهابيين

يمكن القول إن التونسيين اليوم يعيشون مخاض قرار عسير حول قضية مصيرية وخطيرة ومتشعبة الخطورة إلى أبعد حد: إنها مسألة عودة الإرهابيين التونسيين من بؤر التوتر

آمال موسى

آمال موسى

والملاحظ أن هذه القضية تتراوح الآن بين أصوات عالية الرفض وأخرى صامتة، مع غلبة واضحة للموقف الرّافض. والأكثر وضوحًا هو وجود المأزق
أولاً لا شك في أن طرح مسألة عودة الإرهابيين التونسيين إلى تونس لا يمكن إلا أن يجابه بالتوجس وباستشعار قوي بالخطر. فكما نعلم أن الأخبار الواردة من بؤر التوتر لطالما تحدثت عن شراستهم في القتال والتشنيع، مما يؤكد تغلغل العقيدة القتالية التكفيرية في داخلهم من جهة، وأيضًا اكتسابهم لخبرة قتالية مخيفة من جهة ثانية
أيضًا هناك معطى آخر جدير بتكثيف الخطر، وهو أن عددهم مخيف: الأرقام الرسمية تشير إلى قرابة 2926 إرهابيًا، عاد منهم في الفترة المتراوحة من 2012 إلى 2015 نحو 800، في حين تتحدث جهات أخرى عن خمسة آلاف إرهابي، ويشككون في الأرقام الأخرى
على المستوى الرسمي، عبرت الحكومة التونسية عن رفضها لعودة الإرهابيين، ولكن أشارت في الوقت نفسه إلى أن كل إرهابي عائد سيحال فورًا على القضاء بمقتضى قانون الإرهاب
المشكلة أن الأصوات الرافضة هي ضد مبدأ العودة في حد ذاته، وهي تطالب بسحب الجنسية منهم كحل رئيسي للمشكلة، إذ إنه يصبح لا علاقة انتساب تجمعهم بتونس، ولا مبرر للسماح لهم بالدخول إلى تونس، ولا بإحالتهم على القضاء التونسي
وفي هذا السياق تحديدًا، نلفت الانتباه إلى أن رئيس الدولة السيّد الباجي قائد السبسي رفض مقترح بعض الأحزاب حول سحب الجنسية منهم، مبرزًا أن قرارًا كهذا يتعارض مع الدستور التّونسي والاتفاقيات الدوليّة، وأن الحل الوحيد لاعتماد مسألة سحب الجنسية هو تنقيح البنود ذات الصلة بموضوع الجنسية في الدستور التونسي
كما نلاحظ، فإن معالجة قضية عودة الإرهابيين التونسيين من بؤر التوتر بشكل قانوني لن تشفي غليل التونسيين. وهو أمر طبيعي جدًا، إذ إن هؤلاء الإرهابيين أضروا بتونس في الداخل والخارج، ومعهم عرفت تونس الاغتيالات السياسية وقطع رؤوس عناصر من الجيش التونسي في شهر رمضان المعظم، إلى جانب العمليات الإرهابية التي عطلت الاقتصاد التونسي، وجمدت الاستثمار الخارجي، وأدت بالبلاد إلى أزمة اقتصادية مالية حادة
حتى بالنسبة إلى الالتجاء إلى آلية الاستفتاء الشعبي حول هذه القضية قد وجدت رفضًا، رغم أني من جهتي ومن فرط تعقد الموضوع وصعوبة الاكتفاء بمعالجته القانونية التي لا تضاهي الحد الأدنى من بشاعة ما قام به الإرهابيون في تونس، كنت مع الاستفتاء باعتباره حلاً يضع كل التونسيين أمام مسؤولياتهم
حل الاستفتاء رأى فيه البعض تراخيًا وعاطفة في غير محلها، وأن الأجدر هو الحسم والصرامة ورفض عودة الإرهابيين جملة وتفصيلاً
في الحقيقة، فإن مخاوف الموقف الرافض بشدة مقنعة، وهو ما جعل نبرته قوية. فنحن أمام عودة جيش من المقاتلين المجرمين الذين لا علاقة لهم بحقوق الإنسان، ولا يؤمنون بها ولا بالاتفاقيات ولا حتى بالدستور والديمقراطية وتوزيع السلط
ومن فرط مكر هؤلاء الإرهابيين أنهم عندما يتم القبض عليهم يطلبون النجدة من الحقوقيين، ويصبح ميثاق حقوق الإنسان عقيدتهم البديلة
من النقاط الواضحة في هذا الموضوع أن هناك ضغطًا خارجيًا: فالأمم المتحدة أعدت سيناريوهات قليلة العدد، من بينها خيار عودة الإرهابيين إلى بلدانهم. والظاهر في الحالة التونسية أنه هناك نوعًا من المقايضة بين عودتهم ومدى دعم تونس اقتصاديًا. وما يجعل ما ذهبنا إليه مقبولاً منطقيًا هو تصريحات الحكومة التي تبدو مدروسة نفسيًا بشكل جيد: فمن جهة هناك إعلان لرفض عودتهم، ومن جهة ثانية الإشارة إلى أن كل عائد سيُحال على القضاء بمقتضى قانون الإرهاب؛ بمعنى أن رفض الحكومة لعودتهم يعبر عن ما تتمناه. أما في صورة عودتهم، أو عودة البعض منهم، فهي ستحيلهم على القضاء، ولن تمنعهم من الدخول
أيضًا تزامنت مع هذه التصريحات تسريبات أخرى تحاول بعث رسالة طمأنة وتهدئة المخاوف من خلال الإشارة إلى تمكن وزارة الداخلية من ملف الإرهابيين اسمًا اسمًا، وأنّها على بينة بكل تفاصيلهم، وقادرة على تضييق الخناق عليهم ومراقبتهم، وأن قانون الإرهاب سيكون لهم بالمرصاد
يبدو لي أن الموضوع خطير جدًا، وأن الحاجة إلى نقاش وطني أكثر من مؤكدة، على أن يكون نقاشًا قائمًا على الحوار والحجج وبراهين الإقناع القوية، لا التراشق وتبادل الاتهامات. فكل ذلك تمييع لقضية خطيرة جدًا تمثل مأزقًا حقيقيًا في لحظة اقتصادية حرجة

 بقلم الدكتورة آمال موسى