إعادة كتابة التاريخ أو المغالطة الكبرى

على إثر الجدل الذي رافق جلسة الاستماع التي خصّصتها هيئة الحقيقة والكرامة حول فترة الاستقلال أودّ أن أعبّر عن بعض الملاحظات التي أراها ضرورية بالنظر كمختصّ

خالد عبيد

خالد عبيد

سبق أن نبّهت في الإبّان منذ بداية سنة 2012 ، إلى مخاطر اعتبار فترة بداية الاستقلال ضمن طائلة مسارّ العدالة الانتقالية، وبيّنت ذلك بالحجج الدامغة، فكان جزائي أن تمّ إعلان الحَجْر ضدّي، وقتها لم تتكوّن بعد هذه الهيئة لكن كانت هناك اجتماعات تمهيدية خصّصت لمسألة العدالة الانتقالية

لديّ يقين بأنّ الذين دفعوا بكلّ جهدهم كي يقع اعتبار هذه الفترة ضمن مسار العدالة الانتقالية لم تكن غايتهم الكشف عن الانتهاكات الجسيمة مثلما يسوّقون قدْر التعبير عن رغبة دفينة لديهم غير معلنة في محاكمة إرث دولة الاستقلال ومن ورائه وخاصّة الحبيب بورقيبة

– وهنا التقت مجموعات غير متجانسة تتكوّن ممّن يقدّمون أنفسهم « حقوقيين » وممّن تعرفهم بتوجّهاتهم القومية أو الإسلامية وممّن يتبجّح بيساريته حول هذا الهدف، وبعضهم أيضا ممّن يعتبر نفسه حفيد « اليوسفيين » الذي سيأخذ بثأرهم أو سليل النقابيين الذين سيكشف محنتهم

– لكن ما فات اليسار « الغبيّ » وبعض « الحقوقيين » أنّهم بدفعهم لهكذا محاكمة، وهم الذين يجهلون تمام الجهل هذه المسائل، إنّما يحاكمون أنفسهم أيضا، لأنّهم ينحدرون من إرث دولة الاستقلال التي تحالفوا فيها مع الآخرين، لأنّه عندما تُمعن معاول الهدم في أسس الدولة التونسية الحالية، إنّما تمهّد كي تكون « لقيطا » و »هجينا » وهذا هو الذي ترمي إليه بعض الأطراف حتى تتمكّن من تكريس « الجهل المقدّس » بعد انهيار المعبد على رؤوس الجميع إلاّ هؤلاء

– إنّ ما يحدث حاليا لا يساهم إلاّ في الدفع بتونس نحو الانهيار ككيان دولة خاصّة إذا ما وضعنا هذا الجدل في السياق الذي تعيشه تونس على جميع المستويات، فالخطوة نحو الصوْملة والخراب والتي سبق أن حذّرنا منها من قبل قد اقتربت كثيرا الآن وستكون سنة 2017 هي سنة الحسم

– إنّ ما قامت به هيئة الحقيقة والكرامة في الجلسة الأخيرة لا يمكن اعتباره تاريخا أو حقيقة أو سبْقا جديدا في المعلومات التاريخية..، فكلّ ما في الأمر هو إسقاط لتصوّر خاطئ رسخ في أذهان البعض عن جهل وعدم رويّة ويدافع عنه بكلّ العناد الممكن، تصوّر يقوم على أساس أنّ التاريخ التونسي مزيّف وغير صحيح وهو تاريخ خيانة ووو وبأنّ التصوّر الذي يحملونه هو الصحيح وهو التاريخ البديل وعليه يجب إثباته مهما كانت التكاليف، ومن هنا نفهم لماذا كان هناك إصرار غريب جدّا لدى البعض في أن تبدأ العدالة الانتقالية يوم 1 جوان 1955 لأنّه في أذهانهم المحاكمة يجب أن تبدأ من يوم « المبايعة » الشعبية التي حدثت للحبيب بورقيبة في ذلك اليوم، يعني استهداف الرمزية في اليوم وفي الشخص، ولمّا لم يتمكّنوا من ذلك لأنّ هذه النيّة باتت واضحة وقتها استبدلوا هذا التاريخ بتاريخ لا معنى له أصلا وهو 1 جويلية 1955 ولو استشاروني لاقترحت عليهم تاريخا آخر يتماشى ورغبتهم هذه بحكم معرفتي بما يرغبون

– إنّ ما ذكرته هيئة الحقيقة والكرامة من أنّها قامت بجهد جبّار من أجل توفير كلّ هذه المادة حول فترة الاستقلال وأنّها مستعدّة أن تضعها على ذمّة المؤرخين كي يعيدوا كتابة التاريخ، أعدّه شخصيا مغالطة كبرى، أضف إلى ما قد يشكّل ذلك من هدر للمال والجهد دون فائدة تذكر، لأنّ ما تمّ تقديمه لا يرقى إلى المادة التاريخية المعتمدة أوّلا وهو موجّه ضمن تصوّر أعرفه شخصيا لا يمكن التفطّن إليه إلاّ لمن يفهم خفايا الأمور، وثانيا ما لا تدركه هذه الهيئة أو تدركه، لست أدري، أنّ ما قدّمته حتى في صيغته المحرّفة والملتبسة وخاصّة « الهاوية » لكن بلباس الجاهل بالتاريخ، هي أمور يعرفها المختصّون في هذه الفترة من زماااان طويل جدّا بل أحد الشهود الذين تمّ الاعتماد عليهم هنا كي يقع تمرير هذه الالتباسات وهو سي حمادي غرس هو اكتشافي أنا وبعض زملائي منذ سنة 2001 وقمنا بتدوين شهادته عندما كانت قدراته الذهنية أفضل بكثير من الآن بحكم عامل السنّ، ومن هنا نفهم لماذا تحدثت عن الهدْر؟

– لكن هل أنّ ما تمّ تقديمه هي الحقيقة ؟ بالتأكيد الجواب هو لا ! وهل هو التاريخ الحقيقي؟ الجواب لا طبعا ! لأنّ في « تكالب » البعض على اعتبار أنّ « التاريخ » الحالي هو مزوّر وأنّ « تاريخهم » هو الحقيقي إنّما لم يخطر ببالهم، باعتبار جهلهم بذلك، – هذا ينطبق على الطرفيْن دون استثناء-، أنّنا لا يمكن تسميته بالتاريخ بل هي رواية للأحداث وأنّ ما يقترحونه هم هي رواية مناقضة للأحداث، وهنا بالذات أين حصل الخلْط ؟! وكلّ الترّهات التي ملأ بها البعض أشداقنا حول تزوير التاريخ والسبّ والشتم لهذا أو ذاك والتشكيك في لست أدري ماذا؟ بينما التاريخ الذي يقوم به المؤرّخون الأكاديميون هو الذي يُعتمد ولا شيء غيره، وهنا لا بدّ أن نقرّ بأنّ كلّ هؤلاء تقريبا يجهلون كلّ هذه الكتابات التاريخية الأكاديمية التونسية التي يرجع تاريخ بعضها إلى عقود كاملة، فالذنب هنا من يتحمّله؟ الجامعة التي لم تخرج من أسوارها أم التونسي الذي لا يخصّص جزءا بسيطا من وقته الثمين للثقافة ونزع الجهل المعرفي؟

– إنّ ما يحدث الآن من جدَل، وهو أمر سبق أن توقعته ونبّهت منه في الإبّان، لكن دون مجيب، يحمل في طيّاته شيئا إيجابيا ويتمثل في ردّة الفعل القويّة التي لاحظتها والتي تعبّر في جلّها عن استهجانها ورفضها لما اعتبر « محاكمة » لدولة الاستقلال،، فالإيجابي هو الدعوات الكثيرة التي صدرت تطالب المؤرّخين الجامعيين بالخروج عن صمتهم، إذ شعر جزء لا بأس به من التونسيين بأنّ الفيصل هنا والحكَم هنا المؤرّخ الجامعي الأكاديمي والمختصّ وليس بعض المشعوذين والمتطفّلين، ولهذا اعتبرت هذا صدمة إيجابية ستحبط بفضل الله كلّ ما خفي من رغبة غير معلنة في تقويض أسس الكيان التونسي الحديث والتي شاركت فيها للأسف بعض القطعان المتأدلجة عن جهل وغباء وخاصّة عن عناد وفق مثلنا الشعبي الرائع: معيز ولو طاروا

– وهذا التوجّه الجديد يدفع بالمؤرخّين المختصّين في هذا الموضوع بالذات إلى الشعور بثقل المسؤولية ولهذا أوجّه نداء إلى زملائي المختصّين وأصدقائي كي نضع اليد في اليد من أجل حماية مهنتنا النبيلة من أدران التجاذبات الايديولوجية والسياسوية المقيتة، وتكوين هيئة تتولّى إصدار البيانات باسم المؤرّخين الجامعيين المختصّين وفق كلّ موضوع يطرح يكون هو المرجع العلمي المعتمد للتونسيين ما دامت المسألة باتت مطلبا اجتماعيا ملحّا، لأنّنا بذلك نعمل على إنقاذ وطن من التلاشي وتلك هي مسؤوليتنا التاريخية الجسيمة.

– في الأخير، هل يعني هذا من جهتي على الأقلّ أنّني غير قادر على الردّ عمّا يحدث من انتهاك جسيم لشرف مهنتي كمؤرّخ؟ الجواب بالتأكيد لا ! وذلك لأنّي أدرك بحكم اختصاصي أنّ هذا كلّه مؤقت لن يدوم بل بالعكس سيرتدّ على أصحابه لأنّهم لا يدرون أنّهم يتصرّفون عكس عقارب الساعة، لذا أنا مطمئنّ من هذه الناحية، ولإدراكي، – وهنا لا أدّعي الغرور عكس ما يتصوّر البعض-، بالتفاصيل الدقيقة التي قد قد يرجّ بعضها أذهان المتكلّسين معرفيا والتي لا يمكنني أن أعلنها صراحةً للعموم باعتبار معرفتي بتداعياتها الخطيرة على السلْم الوطنية في تونس، لذا أبْدُو أحيانا متحفّظا وإن كنت ألمّح، وأبْدُو أيضا داعيا دون كلل إلى أنّ هناك تاريخ واحد لكلّ التونسيين يجمعهم ولا يفرّقهم عكس دعاة التفرقة الآن، تاريخ لكلّ التونسيين دون استثناء، بإيجابياته وهي كثيرة نبني عليها كي نتقدّم إلى الأمام لا أن نبقى مشدودين إلى الخلف وهي عادة متأصّلة فينا، عادة البكاء على الأطلال والتوقف في الزمن وإيقاف عجلته، تاريخ كلّ التونسيين بسلبياته أيضا نتمعّن فيها حتى لا تتكرّر ثانية، فإذا كان آباؤنا أو أجدادنا قد أخطأوا فلنتمعّن في أخطائهم كي نستخلص العبرة منها ولا نكرّرها نحن الآن كما يفعل البعض عن جهل وعدم رويّة لأنّ الوقوع في ذات الخطأ سيكون هذه المرّة أشنع وأعظم وعبارة على شطحات دونكيشوتية عبثية

– رجائي الأخير هو أن لا تضطرّني تطوّرات الأحداث وخاصّة الإمعان في العناد إلى الإفصاح عمّا لا أريد الإفصاح عنه لأنّه قد يقوّض كلّ شيء بما فيه صِدْقية مسارّ العدالة الانتقالية نفسها في الجزء الخاصّ بدولة الاستقلال، لذا رجائي أن يقع ترك التاريخ لأهله دون حشر من أيّ طرف كان فكنت أقول وما زلت: للتاريخ رجال يحمونه، وتحديدا تاريخنا الوطني فليطمئنّ الجميع دون استثناء سيّان إن كان من هذا الشقّ أو ذاك

خالد عبيد، مؤرّخ جامعي، مختصّ في التاريخ السياسي التونسي المعاصر