يامِن العكاري يستقيل من حزب « المفتاح » لتحالفه مع النهضة الإخوانية ولأسباب عديدة أخرى

إلى الأخ محسن مرزوق
الأمين العام لحركة مشروع تونس
بعد التحية و السلام
قال تعالى: « مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ » : صدق الله العظيم

الأخ الأمين العام
عندما قرّرت خوض تجربة سياسية جديدة في نهاية العام 2015، و لأوّل مرّة منذ سنة 2011، كان السبب الأساسي هو اضطراب الآداء السياسي في تونس لما بعد 14 جانفي 2011 و خاصّة بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011، وفشله في تقديم أية إضافة للحكم، وغياب الخيال السياسي في إيجاد الحلول للمشاكل التي يعاني منها المواطن التونسي من جهة، و الدولة التونسية من جهة أخرى، إضافة إلى التحالف مع حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي و الإسلام منها براء

لقد كنت أبحث عن بديل سياسي يمكنه أن يكون العمود الفقري الجديد للعائلة الليبرالية و الوسطيّة و التقدميّة والدستورية الحقيقية، و يكون قاطرتها الفاعلة نحو المحطّات الانتخابية القادمة، و ليكون أيضا، الإطار الحزبي القادر على تقديم الحلول لجملة المشاكل التي تعاني منها العديد من القطاعات

و لقد كنت على قناعة كبيرة أن المسيرة ستكون طويلة، شاقة، و مؤلمة، و لكن الممتع فيها كان برؤية الأمل في أعين مناضلات و مناضلي الحركة الوليدة الجديدة و تشبثّهم بها كطوق نجاة جديد بعد خيبة أملهم في حركة نداء تونس و التي استطاعت – للأمانة – أن تقزّم حركة النهضة التي حلّت في المركز الثاني في انتخابات 2014 بـ 69 مقعدا بعد أن كان لها 89 مقعدا في التأسيسي، مقابل 86 مقعدا أي بفارق 17 مقعدا لفائدة حركة نداء تونس
و بصراحة، لاأزال أذكر جيّدا فرحة التونسيات و التونسيين بفوز كل من نداء تونس و الباجي قائد السبسي وتوجههم إلى مقرّ الحملة الانتخابية بضفاف البحيرة لأيام متتالية، حاملين الأعلام التونسية و ممتطين كل وسائل النقل المتاحة، راقصين و مبتهجين بنهاية عهد الترويكا أو ما أسميه أنا : الدسترويكا

و لكن سرعانما برزت الشقوق داخل الحزب الحاكم الجديد و لأسباب متعدّدة لا تعنيني باعتبار و أنني لم أنخرط يوما فيه. و لكن قناعتي بأن الحركة الاخوانية في تونس، لن يهدأ لها بال إلا عندما تقوم بالسيطرة على مفاصل الدولة فتمرّ في اللحظة الحاسمة إلى تطبيق نظريتها في الحكم و إن بعد حين. و قد يكون الحين بعد عشرات السنين. و هذا لا يهمّ في نظرهم. فهم انتظروا لعشرات السنين، فما السوء من الانتظار بضع سنين أخر؟ كما أن الإخوان « المتأسلمين » استخلصوا العبر مما حدث « لإخوانهم » بمصر

و عليه، خرجت حركة مشروع تونس إلى النور، قائمة على جملة من المبادئ من بينها استكمال المشروع الوطني العصري، و السير على خطى الآباء المؤسسين و في مقدمتهم الزعيم الحبيب بورقيبة، و فصل الدين عن السياسة، و تأكيدها على أهمية فتح ملف الإصلاحات الكبرى من أجل إصلاح الوضعين الاقتصادي والاجتماعي، و كذلك العمل على تجميع العائلة التقدميّة و الوسطية

و لقد استطاعت حركة مشروع تونس في زمن قياسي لم يتجاوز الخمسة أشهر، من انتخاب المؤتمرين في كامل جهات البلاد، و عقد العديد من الاجتماعات الشعبية الناجحة، انتهت بمؤتمر تأسيسي في جويلية 2016، تلاه انتخابات المكتب السياسي و المكتب التنفيذي، كما انطلقت في مسار انتخابي طويل لاستكمال المكاتب الجهوية والمحلية. و هي حركية حزبية لم يشهدها أي حزب آخر في تونس منذ 2011 باستثناء الحركة الاخوانية

و لا يخفى عن أحد، أن سبب انخراط المئات إن لم نقل الآلاف في حركة مشروع تونس، كان أساسا إعلانها القطيعة مع حركة النهضة، و عدم اعتراف الحركة بالإسلام السياسي باعتباره مخالفا لأحكام القانون و الدستور، ناهيك عن الحصيلة السلبية لحكم الترويكا بقيادة حركة النهضة بين 2011 و 2014

و مع تخبّط الأحزاب الحاكمة فيما بعد 2014 في العديد من المشاكل خاصة على مستوى العمل الحكومي، نتيجة الأزمات المتتالية داخل حركة نداء تونس، و هو ما انعكس أيضا على نتائج العمل الحكومي. فمن حكومة الحبيب الصيد إلى حكومات يوسف الشاهد، لم تستطع تونس أن تخرج من الأزمة الاقتصادية الخانقة، بل إن جميع الأرقام و المؤشرات الاقتصادية و الاجتماعية تؤكد فشل الحكومات المتعاقبة في حلحلة الأمور نحو الأحسن

ففي حين تؤكد مؤشرات معاهدة ماستريخت الأوروبية، أنه لاقتصاد سليم، يجب أن لا تتجاوز نسبة التداين 60% من الناتج الداخلي الخام، و يجب أن لا تتجاوز نسبة العجز العمومي الـ 3% من الناتج الداخلي الخام، مع ضرورة تحقيق نسبة نمو لا تقل عن 4 أو 5% على المدى المتوسط و البعيد، كما يجب لاحتياطي العملة الصعبة أن يغطي 90 يوم توريد. إلاّ أن الوضع في تونس – و هذه حصيلة الحكومات المتعاقبة و لكن أساسا الحكومات الأخيرة – فإن نسبة التداين بلغت 75%، و نسبة التضخم تبلغ حوالي 7.5% حاليا (بعد أن كانت في حدود 4 و5% عندما عيّن الشاهد رئيسا للحكومة)، و انخفض احتياطي العملة الصعبة ليغطي 70 يوما أو أقل بقليل، كما أن نسبة النمو دون المأمول (أقل من 3% المنشودة)، و نسبة البطالة ارتفعت لتستقر عند 15.3% في 2017، كما بلغ العجز نسبة 11.2% من النتاج الداخلي الخام في 2017، مقابل 9.7% في 2016. و هي مرشرات خطيرة، تدلّ على فشل العمل الحكومي. يضاف إلى كل هذا، العديد من الملفات العالقة مثل معضلة الصناديق الاجتماعية حيث تضخّ الدولة مبلغا يتجاوز 1200 مليار لتغطية عجز الصناديق و هو ما يثقل ميزانية الدولة و يتسبب في انخرام توازناتها المالية. دون أن ننسى المشاكل في قطاع الصحة، والخدمات، و المؤسسات العمومية، و التجهيز و الإسكان، و الفلاحة، والتربية، و الطاقة و ملف محاربة الفساد و استفحال الاقتصاد الموازي الذي بلغ نسبة تضاهي 53% أو أكثر من الناتج الداخلي الخام

و عليه، و أمام هذا التشخيص السلبي للاقتصاد التونسي نتيجة انعدام وجود برنامج عمل اقتصادي واضح للحكومة التي واصلت اعتماد الحلول الترقيعية، و هو ما انعكس على الوضع العام للبلاد، تقرّر الدخول في الحكومة الجديدة دون أن يتمّ إيضاح ما إذا كان الدخول في الحكومة الجديدة تمّ على أساس برنامج عمل واضح؟ أو أن الحزب سيتحمل خلال المحطة الانتخابية في 2019 فشل جميع الحكومات السابقة و يدفع الفاتورة مكانهم؟ خاصة و أن حركة النهضة لديها ما لديها من أموال و قواعد متكلّسة فكريّا، تضمن لها البقاء رغم الحصيلة السلبية لحكمها أو لمشاركاتها الحكم

فلا يمكن لنا أن ننكر أن حصيلة حكم النهضة منذ 2011 إلى يومنا هذا، شملت أحداث 9 أفريل 2012 و القمع الذي تعرّض له المواطنون التونسيون المتظاهرون على هامش أحداث 9 أفريل 1938، و أحداث الرّش بسليانة، و الاغتيالات السياسية التي طالت الشهيد شكري بلعيد و الشهيد الحاج محمد البراهمي (الذي وصل تنبيه من الاستخبارات الأمريكية يؤكّد أنه مستهدف و لكن الحكومة لم تعره اهتماما)، و سحل الشهيد لطفي نقّض، وخروج الإرهابي أبو عياض من جامع الفتح تحت مراقبة الأمنيين بأمر من وزير الداخلية النهضاوي، و أحداث السفارة الأمريكية، و التنظيم السرّي و ما يدور حول الغرفة السوداء و غيرها من الأحداث و الملفات التي تطول قائمة عرضها

و لقد سبق لحركة مشروع تونس أن منحت الثقة لحكومة الشاهد ولكن بشروط بعد عرض المسألة على أنظار المجلس المركزي، ثم قرّرت الحركة الخروج من وثيقة قرطاج، لتقرّر في الختام الانضمام للمعارضة

و أخيرا، قرّرت حركة مشروع تونس الانضمام للحكومة الجديدة ليوسف الشاهد. و هي حكومة ائتلافية تضمّ أطرافا سياسية و برلمانية متعدّدة من بينهم حركة النهضة

وحيث أن انضمام المشروع للحكومة قد حصل على موافقة المكتب السياسي للحركة المنعقد يوم 28 أكتوبر 2018 و هو ما يعني الموافقة على عقد اتفاقيات سياسية مع عدد من الأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة الجديدة

وحيث ورد بالفقرة الرابعة من الفصل 31 من النظام الداخلي للحزب أن المجلس المركزي : يصادق …على الإتفاقيات السياسية مع الأحزاب الأخرى

و حيث أن المصادقة المذكورة لم يقع طرحها على أنظار المجلس المركزي بتاتا

و حيث أنه كان من المفروض أن تعرض مسألة المصادقة على أنظار المجلس المركزي قبل الدخول في الحكومة

و حيث أنه بالإضافة لكل ذلك، فإن الدخول في حكومة تضم حركة النهضة يعتبر مخالفا لما سبق لحركة مشروع تونس أن أعلنت عنه من قطيعة مع الحزب الاخواني المتأسلم

و حيث أنه كان من بين دوافعي للمشاركة في تأسيس حركة مشروع تونس، بعث حزب سياسي قوي قادر على أن يكون بديلا للحكم، لا يؤمن بالحركات الإخوانية، و مصمّم على وضع برنامج إصلاحات و عمل واضح للسنوات المقبلة

و حيث أنه اتضّح للبعض، بعد مرور 4 سنوات و نصف، أن الدستور الذي تمّ إقراره في 27 جانفي 2014، ودخل حيز التنفيذ في 20 فيفري 2014، هو الفيصل بيننا و بين النهضة، و أنه وضع حدّا نهائيا للصراعات الايديولوجية باعتبار و أنه أكّد على مدنيّة الدولة، وهو ما يتناقض مع سبب العديدين من حركة نداء تونس، حيث أن هذه الحجّة تدحض أحد ابرز أسباب الخروج ألا و هو التحالف مع حركة النهضة، و بالتالي كان من الأجدر للمنسحبين عندها، البقاء في حركة نداء تونس و العمل على إعادة هيكلته وإعداده للاستحقاقات الانتخابية المقبلة بما أن دستور 2014 وضع حدّا لكل الخلافات و الصراعات الايديولوجية في تونس

و حيث أن الدخول في الحكومة يعني الانضمام لحكومة ائتلافية بين مجموعة من الأحزاب و المستقلين و هو ما يعني التضامن فيما بينهم فيما يتعلّق بالعمل الحكومي

و حيث أن تسويق البعض إلى كون النهضة موجودة أيضا في البرلمان و يتم التعامل و التنسيق معها، فإنني أوّد أن أوضّح أن البرلمان هو هيئة دستورية تمثل السلطة التشريعية و هي منتخبة مباشرة من الشعب. و بالتالي فإن الأحزاب الممثلة في البرلمان هي أحزاب اختارها الشعب. و سيكون لزاما على نواب الشعب التعامل فيما بينهم حتى و إن كان هنالك حزب نازي أو فاشي، في حين أن الدخول إلى حكومة ما هو اختياري و ليس إجباري

أما فيما يخصّ التبرير المتعلّق بقلّة عدد الوزراء و كتاب الدولة التابعين لحركة النهضة و المتواجدين داخل الحكومة مقارنة ببقية الوزراء، و بالتالي فإن هذه الحكومة ليست حكومة النهضة، فإن هذا التبرير مردود عليه لأن الحكومة الثالثة للشاهد استطاعت أن تحصل على ثقة نواب الشعب بفضل تصويت 68 نائبا لحركة النهضة – أي أن نواب النهضة منحوا أكثر من نصف الأصوات المطلوبة لمنح الثقة للحكومة و تمريرها. و عليه، فلولا الـ 68 نائبا نهضاويّا، لما استطاعت الحكومة أن تمرّ. بل يكفي لحركة النهضة أن تقرّر رفع يدها عن الحكومة حتى تسقط في أية لحظة

وحيث أنه سبق لي أيضا في 29 نوفمبر 2018، أن رفعت كل ما سبق ذكره لعنايتكم صلب مذكّرة طويلة وعريضة. كما وجّهت مراسلتين في الغرض لكلّ من السيّدة رئيسة المجلس المركزي و السيد رئيس لجنة النظام

وحيث رفعت لكم أيضا الخروقات التي طالت النظام الداخلي في بعض الجهات، و عدم احترام ما جاء صلبه

وحيث أنني أستغرب عدم اكتراث قيادة الحزب بالمذكرّة التي رفعتها لكم و لكل من السيدة رئيسة المجلس المركزي و السيد رئيس لجنة النظام، خاصّة فيما يتعلّق بخرق أحكام النظام الداخلي لحركة مشروع تونس، إضافة إلى ما سبق لي أن تحدّثت فيه معكم بخصوص العمل الحزبي خلال اللقاء الذي جمعني بكم و الأخت رئيسة المجلس المركزي يوم 15 نوفمبر 2018، و هو ما أعتبره شخصيا تقزيم لدور أعضاء المجلس المركزي و عدم التعامل معهم بجديّة، أو الأخذ برأيهم و الإنصات لهم،

و بصراحة، و بالنظر لكلّ ما تقدّم،

و حيث أنني أصبحت على قناعة بأن حركة مشروع تونس قد حادت عن مسارها

و حيث أن حركة مشروع تونس لم تعد تمثّلني

و حيث أن قناعاتي و مبادئي خاصة فيما يتعلّق بالتعامل و التحالف مع الحركة الاخوانية، و الانخراط في حكومة تجرّ إرثا سلبيا ثقيلا، لم تعد تتماشى مع التوجه الجديد للحزب، إضافة إلى أن مبادئي و قناعاتي هي مبدئية وقطعية

وحيث أنني أشكر لكم اقتراحكم تعييني عضوا في المكتب السياسي و تكليفي أيضا بالإشراف على عملية التكوين و التثقيف السياسي داخل الحزب، و هي مناصب أعتذر عن قبولها،

فإنني قرّرت و بكل مرارة و ألم، أن أستقيل من حركة مشروع تونس

و أتمنى لقيادة الحزب، و لجميع أصدقائي داخل الحركة، حظا سعيدا في نشاطهم و عملهم. و أدعو الله أن يوفّقهم. و أنا متأكد أننا سنجتمع يوما ما في حركة وسطية تقدمية واسعة و قوية. و إلى أن يتحقّق ذلك، دمتم في حفظ الله و رعايته

تحيا تونس
أ. يـامن العكاري

تونس في 26 ديسمبر 2018

نصّ الاستقالة الموجّهة للأخ الأمين العام لحركة مشروع تونس