كِلْمتُو ما تْطِيحِشْ في القاعْ

نحتنا، عملا باقتراحات المفكّر التّونسيّ العفيف الأخضر – رحمه الله -، الّتي بلورها في كتابه « إصلاح العربيّة »، مصطلحي الإسلامسياسة والسّياسإسلام، سعيا منّا إلى الكشف عن أسرار الفعل السّياسيّ كما تمارسه الفرقة النّاجية في تونس. فما الفرق إذن بين المصطلحين اللّذين يمتزج فيهما « الإسلام » بالسّياسة، متقدّما عليها مرّة، ومتأخّرا عنها مرّة أخرى؟ وهل من معنى لهذا التّقديم والتّأخير، أمّ أنّ الأمر يندرج كلّه في مجال الألاعيب التّمويهيّة الّتي اتّخذها الإسلام السّياسيّ منهجا ثابتا في تعامله مع « أعدائه »؟
أمّا المصطلح الأوّل فيتمثّل في إقحام الإسلام عنوة في السّياسة، بزعم البرهنة على تفرّده (فهو، خلافا لكلّ أديان المعمورة، « دين ودولة ») ألا، وللبرهنة ثانيا على شموله وكماله ونجاعته في حلّ كلّ المعضلات أنّى كان مأتاها. وغاية الإسلامسياسة، كما يتّضح من ممارسات ممارسيها على أرض تونس، إحياء ما أباده التّاريخ (ظلما وعدوانا بطبيعة الحال) من أحكام الإسلام وشرائعه، والحفاظ على طابعها العتيق المنفّر (ظاهريّا، ولذلك تجرّأ أعداء الله فنعتوها « بالهمجيّة »، وما هو بالهمجيّة طبعا وإنما ضرب الله على أبصارهم وقلوبهم فهم عمي لا يبصرون) باعتباره عنوان أصالتها. ومن ذلك، إضافة إلى المعلوم المتداول من أمور دين الفطرة، ما يتعلّق بأحكام الأحوال الشّخصيّة، وأحكام الميراث، والأخلاق العامّة وما يتّصل بها من ضرورة النّأي بالأسرة عن كلّ الظّواهر الّتي من شأنها أن تمسّ بكيانها، وخاصّة منها المفاسد والآفات الّتي تهاطلت على البلاد التّونسيّة، تحت مسمّى الحداثة
أمّا السّياسإسلام فهي مدار إستراتيجيّة الإسلام السّياسيّ قبل التّمكين، وتتمثّل في التّنازل عن « الدّكّان » مؤقّتا للفوز « بالسّوق » مستقبلا، على حدّ تعبير رأس الفرقة النّاجية في إحدى مسامراته مع فلذات أكباده الرّافعين راية الثّقافة الإسلامسياسيّة الجديدة (أو الثّوريّة بعبارة أخرى) في تونس، أي ثقافة الإخراس والتّرهيب والتّركيع والتّصفية. ويعوّل في إنجاح هذا المخطّط على لفظة « الإسلام »، المثبتة في ديباجة الدّستور، بصفتها أوّلا مرادفا صحيحا للشّريعة (لا أصل له في معاجم اللّغة العربيّة قديمها وحديثها) الإسلاميّة. وهذه واحدة من المعادلات الرّياضيّة الّتي انبنت عليها نظريّة السّيإسلام، المستلّة بدورها من رحم نظريّة التّدافع، الواقعتين كلتيهما في حقل الإعجاز الإيديولوجيّ الّذي جعل الفرقة النّاجية تأخذ بزمام الأمور كلّها في السّاحة السّياسيّة
ويعوّل على لفظة « الإسلام » ثانيا بصفتها المرجع القانونيّ والشّعبيّ الأوّل والأخير، لا مرجع للدّولة سواه. وعليه، فيغدو من الطّبيعيّ جدّا أن يحلّل ما لا يخالف « الشّريعة »، ويحرّم تحريما باتّا ما يتناقض مع تعاليمها القطعيّة الصّريحة. وهكذا تصبح لفظة « الإسلام »، وإن تأخّرت ظاهريّا عن السّياسة، في مضاء « الفيتو » ونفاذه. والعجيب في الأمر أنّ بعض المنادين اليوم بفوقيّة هذه المعادلة الرّياضشرعيّة (نسبة إلى الرّياضيّات والشّريعة)، من أزلام « ديكتاتوريّة الحداثة » البائدة الّذين تابوا ولاذوا بأذيال رأس الفرقة النّاجية طلبا لغفرانه)، لم يقوّلوا لفظة « الإسلام »، المثبتة في الدّستور القديم، طوال عهدي بورقيبة وبن علي، ما يعزونه إليها اليوم. فكأنّ « إسلام » البارحة مات بموت « الدّيكتاتوريّة »، وولد مع « ثورة الياسمين » (وفي رواية أخرى: « ثورة البرويطة ») إسلام آخر لا عهد للتّونسيّين به، هو « إسلام » الفرقة النّاجية
ويتبيّن هكذا أنّ الحكمة من وجود هذين المصطلحين تتمثّل أوّلا في « لجم أعداء الإسلام »، باسم الدّيمقراطيّة ظاهريّا، الكامنة بالضّرورة في الإسلام السّياسيّ، كما صرّح بذلك رأس الفرقة النّاجية في تركيا، وبحرّيّة التّعبير تحديدا المنصوص عليها في الدّستور الّذي صاغه الإسلام السّياسيّ على مقاس نزواته وازدواجيّته. وهذا هو بالضّبط مدار ما أسميناه الإسلامسياسة، خاصّة وأنّ هدفها الأسمى هو إقامة الدّليل على « أسبقيّة » الإسلام في كلّ المجالات، بما في ذلك السّياسة، ممّا يجوّز الحديث، قياسا على « الإعجاز العلميّ »، عن « الإعجاز السّياسيّ » الّذي مهّد الطّريق أمام الإسلام السّياسيّ المحلّيّ ليرتقي مدارج المجد
وتتبيّن الحكمة ثانيا في إمكانيّة لجم « أعداء الإسلام » (لأنّه ليس للإسلام السّياسيّ، كما يتوهّم فرقاؤه من جهابذة اليسار، خصوم سياسيّون) باسم « الثّوابت و »المسلّمات » الهوويّة الإسلامدستوريّة الّتي ليس بإمكان أيّ أحد أن يتفصّى منها. وهذا هو بالضّبط مدار ما أسميناه السّياسإسلام. والنّتيجة المنطقيّة لهذه الإستراتيجيّة المزدوجة (الّتي تفصح عن الازدواجيّة الهيكليّة للإسلام السّياسيّ) أنّ الفرقة النّاجية تكسب في الحالتين باستعمال سلاح « الإسلام »، وتهمّش « السّياسة » كمجال للفعل البشري، لتجعل منها مجالا مغلقا للفعل الإلهيّ. وهذا هو بالضّبط ما تعبّر عنه السّلفيّة بكلّ وضوح عندما تعلن على منابرها أن « الدّيمقراطيّة » كفر يجب مقاومته
نخلص ممّا تقدّم أنّ الإسلام السّياسيّ يلجأ إلى الإسلامسياسة للبرهنة على الطّبيعة (ولعلّ الأصحّ أن يقال « الفطرة » لأنّ رأس الفرقة النّاجية ولد « ديمقراطيّا » حتّى النّخاع، وقضى عمره في المنافي مناضلا في سبيل الدّيمقراطيّة) الدّيمقراطيّة للإسلام، ويلجأ للسّياسإسلام للبرهنة على أسبقيّة الإسلام على الدّيمقراطيّة. وهكذا يصبح « الإسلام » هو أصل كلّ شيء، لا مجال للاستغناء عنه البتّة. وهذا هو بالضّبط ما يفسّر أن يقوم الجزء (ممثّلا في الشّريعة) مقام الكلّ الّذي هو الإسلام، والعكس جائز أيضا
إنّ ما يسمّيه « خصوم » الإسلام السّياسيّ، الطّيّبين جدّا، « دهاء » سياسيّا، كثيرا ما يضاف إلى رأس الفرقة النّاجية باعتباره النّاطق الرّسميّ باسمه، ليس في حقيقته إلاّ خلطا إبستيمولوجيّا قبيحا، وهذيان (يحلو للبعض أن يخلع عليه نعت « الفلسفيّ ») دينيّ يتمّ عن حالة انفصام حادّة في شخصيّة المتحدّث، ناجمة عن تضخّم في « أناه » بلغت حدّ « النّفاج »، وأصبحت مستعصية على العلاج. وهذا يدلّ أنّ التّوافق في عرف الإسلام السّياسيّ هو تنازل غير مشروط من خصومه، يتيح له، دونما تكاليف تذكر، أن يضرب حفنة عصافير بأقلّ من نصف حجر، أو ربّما بلا حجر أصلا. ومن أهمّ هذه العصافير ضمان حقّه الانتصاب في السّاحة السّياسيّة، وقدتمّ ذلك فعلا باحتلال الإسلام السّياسيّ للدّستور، وحقّه في خلط السّياسة بالدّين متى شاء وكيفما شاء، رغم أنّ هذا الفعل من المحرّمات السّياسيّة في الدّيمقراطيّات النّاشئة والمستقرّة
فلا عجب إذن أن جمع رأس الفرقة النّاجية في خطابه، « السّياسيّ » بزعمه، بين اللّيل والنّهار، وبين الوجود والعدم وغيرها من المتناقضات والمتضادّات، فأكّد من ناحية أنّ « إسلامه » ديمقراطيّ مدنيّ »، ثمّ أكّد من ناحية أخرى أنّ نفس إسلامه هذا لا يجيز من الحرّيّات الفرديّة إلاّ ما يتلاءم مع متونه السّماوية القطعيّة الصّريحة. فإن لم يقبل التّونسيّون بديمقراطيّته – أو تيمقراطيّته على الأرجح – فلم يبق إلاّ الاستفتاء، سبق في وهمه (بإلهام من العزيز القدير) أنّه سيكون فيه من الفائزين. ولتنطبق السّماء على الأرض، وليأت الخراب على تونس من الحدّ إلى الحدّ، فلن : تطيح كلمته في القاع

فرج الحوار