هل هناك مجال للتّوافق مع الإسلام السّياسيّ؟

يصرّ رأس الفرقة النّاجية وأعضاده الشّرسون في تصريحاتهم الصّحفيّة وإطلالاتهم التّلفزيّة على نعت فرقائهم السّياسيّين بأعداء الإسلام، وخاصّة منهم أولئك الّذين تجرّأوا على تزكية تقرير « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة »، ووافقوا على ما ورد فيه بخصوص ضرورة المساواة في الإرث بين الإناث والذّكور. وهم في صنيعهم هذا يصدر عن قناعة راسخة لديهم بأنّ الحقّ – في ما ينادون به هم، وأنّ الباطل فيما أجمع عليه أعداء الإسلام باعتبارهم أعداء لفرقتهم المعصومة
ورأس الفرقة النّاجية، المتواري وراء هرم مجلس شورى نحلته، إذ يوجّه هذا الاتّهام الخطير لخصومه (يصرّ على اعتبارهم أعداء له) السّياسيّين، إنما يتوجّه بكلامه هذا لأنصاره وشيعته، تأكيدا منه لهم على ثباته على العهد والتزامه بالمبادئ المقدّسة التي قامت عليها حركة الإخوان المسلمين، وقرّرها بوضوح واحد من أعاظم أقطابهم، ومن « شهدائهم »، هو السّيد قطب الّذي أعدمه جمال عبد الناصر بعد محاولة اغتيال فاشلة دبّرها الزّعيم الإسلامسياسيّ ضدّه
المبدأ الأوّل يفسّر بوضوح إصرار الفرقة النّاشئة، ومن يدور في فلكها من التّنظيمات السّلفيّة الموغلة في التطرّف، على « أسلمة » المجتمع التّونسيّ برمّته، ومحاربة الخصوم السّياسيّين بتهمة معاداة الإسلام. يقول السّيد قطب متحدّثا عن الإستراتيجيّة الّتي يتعيّن على الإسلاميّين أن يتوخّوها إزاء خصومهم، أي كلّ من ليس على نهجهم، وليس العلمانيّون منهم فحسب: « المشقّة الكبرى الّتي تواجه حركات الإسلام الحقيقيّة اليوم تتمثّل في وجود أقوام من النّاس من أسلاف المسلمين في أوطان كانت في يوم من الأيّام دارا للإسلام يسيطر عليها دين الله وتحكم بشريعته. ثّم إذا هذه الأرض، وإذا هذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقة، وحملته اسما » (عبد الرّحيم علي، كشف البهتان، المركز العربيّ للبحوث والدّراسات، القاهرة، 2010، ص: 16). وهذا يعني بوضوح أن الشّعب التّونسي ينتمي إلى هؤلاء الأقوام الّذين « لم يعودوا مسلمين وإن ظنّوا أنّهم يوقنون بالإسلام اعتقادا » (نفس المصدر، ص: 17)، وهم بالتاّلي في حاجة إلى خدمات رأس الفرقة النّاجية وأعوانه ممّن يعتبرون أنفسهم من رجال الله المنافحين عنه باللّسان والّذراع، كما تفضّل ببيان ذلك واحد من « علمائهم » الأشاوس في اجتماع شعبيّ حاشد. وبغضّ النّظر عن مثل هذه الاعترافات السرّيّة (كما هو الشأن لرأس الفرقة النّاجية في مسارّاته الشّهيرة مع « أبنائه »، الّذين يذكّرونه شبابه »، حاملي لواء ثقافة جديدة)، أو العلنيّة كما هو الشّأن مع أولئك الّذين يتحدّثون عن الضّرب والذّبح والقتل (مجازا يزعمون)، فإنّ مجرّد اعتبار الآخرين أعداء هو إعلان للحرب عليهم
ويترتّب عن هذا المبدأ الأوّل مبدأ ثان، يزيد الأوّل وضوحا، ويلقي مزيدا من الضّوء على البعد اللاّتاريخي للحركات الإسلاميّة برمتّها، والدّليل على ذلك ما ذهب إليه السّيد قطب من أن « الجاهلية ليست اسما لمرحلة تاريخيّة سابقة على الإسلام، بل إنّها تنطبق انطباقا حرفيّا على كلّ وضع بصرف النّظر عن اعتبارات الزّمان والمكان، إذا كان الوضع مشابها لتلك المرحلة التاريخيّة السّابقة على الإسلام » (نفس المصدر، ص: 17). وهكذا يّتضح أن الأسلمة مبدأ ثابت في منهج الإسلامسياسيّين، قد يعلنون تراجعهم عنه مرحلياّ، من بات التّكتيك السّياسيّ كما هو الأمر في تونس اليوم، ولكنّهم لن يتخلّوا عنه أبدا كما يوحي بذلك إصرارهم على الالتزام بمقتضيات « الشّريعة » كمصدر تشريعيّ رغم موافقتهم على استبعادها من الدّستور
ذلك أن « الشّريعة » مطلب محوريّ في المشروع الإسلاميّ لا مجال للتّنازل عنه، وهو ما يجعل من تصريحات رأس الفرقة النّاجية عن تراجع حركته عن إقرار الشّريعة في الدّستور مجرّد تمويه يُراد به ربح الوقت وطمأنة المعارضين لهذا التّوجّه بانتظار أن تتمكّن فرقته من فرض الأمر الواقع على الجميع. وسبب تمسّك الفرقة النّاجية – الّتي تدّعي الاعتدال، وتسوّق نفسها على أنّها من الحركات المجدّدة – بالشّريعة مردّه إلى إيمانها الرّاسخ بما كان قرّره السّيد قطب من أنّ « القانون الوضعيّ لا يستحقّ السّيادة والسّمو به، فهذه المنزلة حقّقها الله بقانونه الّذي يجب على النّاس اتّباعه. إنّ مدلول الشّريعة لا ينحصر في التّشريعات القانونيّة أو في أصول الحكم ونظامه، فالشّريعة تعني كلّ ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشريّة. وهذا يتمثّل في أصول الاعتقاد وأصول الحكم والأخلاق والسّلوك والمعرفة. ويتمثّل في الأوضاع السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة » : نفس المصدر، ص: 18
وهذا يعني أن الإسلاميسياسيّين المدسترين لن يبذلوا جهدا يذكر للتّقارب مع فرقائهم السّياسيّين، رغم مهزلة « التّوافق » المستمرّة، خاصّة وأنّهم على يقين بأنّهم على الحقّ وغيرهم على الباطل، وأنّ من واجبهم أن يدعوا لهذا الحقّ بكلّ الطّرق، وأن يحاربوا كلّ من يعوقهم عن تحقيق هذا الهدف السّامي. وعليه فإنّ حديث الإسلاميين اليوم عن التّوافق يندرج هو الآخر في استراتيجيّة ربح الوقت بانتظار وقت الحسم، بعد أن تضع الفرقة النّاجية يدها بالكامل على دواليب الدّولة وتزرع أعوانها في مفاصلها. وهم إنّما يتصرّفون بهذا الخصوص على هدي من مبادئ منظرهم وشهيدهم السّيد قطب الّذي قرّر ما يلي، متحدّثا بضمير الجمع عن الحركات الإسلاميّة، الّتي تنضوي الفرقة النّاجية التّونسيّة لوائها: « ليست مهمّتنا أن نصطلح مع واقع هذا المجتمع الجاهليّ، ولا أن ندين له بالولاء، فهو بهذه الصّفة الجاهليّة غير قابل لأن نصطلح معه. إنّ أولى الخطوات في طريقنا هي أن نستعلي على هذا المجتمع الجاهليّ وقيمه وتصوّراته، وألاّ نعدّل قيمنا وتصوّراتنا قليلا أو كثيرا لنلتقي معه في منتصف الطّريق. كلاّ، إنّنا وإيّاه على مفترق الطّريق، وحين نسايره خطوة واحدة فإنّنا نفقد النّهج كلّه، ونفقد الطّريق » : نفس المصدر، ص: 19
فهل بقي بعد هذا البيان مكان للدّيمقراطية والتّداول السلميّ على السّلطة في إطار دولة مدنيّة؟ إن المتمعّن في تصريحات رأس الفرقة النّاجية، السّريّة والعلنيّة، يدرك جيّدا أنّ الرّجل مقرّ العزم على إرساء دعائم الدّولة الدّينيّة الّتي يزعم أنها مدنيّة الأصول رغم جوهرها الدّيني. وهو في تأويله هذا يزيّف التّاريخ الّذي لا يؤمن به، ويقطع على نفسه وفرقته وعودا يعلم جيّدا أنّه غير قادر على الوفاء بها. وليس أدلّ على هذا الاضطراب لديه من اعتماده لازدواجيّة الخطاب منهجا دائما، يرمي من وراء ذلك إلى طمأنة قواعده وخصومه على حد السّواء. ولكن يبدو أن هذه المنهجيّة العرجاء لم توت أُكلها، وأنّ بعض أعضاده ضجروا من التّقيّة وحظموا أمرهم على الظّهور للعموم بدون أقنعة. هذا هو ما يستشفّ أخيرا من الإطلالة التّلفزيّة لعضو « مجلس الشّورى »، المدعوّ الهاروني، فضلا عن السّعار الإعلامي المنقطع النّظير الّذي يصدر عن المنابر الإذاعيّة والتّلفزيّة للإسلام السّياسيّ، يمكن ردّها دونما عناء، وإن اختلفت العبارات من متكلّم إلى آخر، إلى المبادئ العامّة الّتي كان قرّرها مفكّرهم وشهيدهم السّيّد قطب، نسوقها فيما يلي بدون تعليق
1 – « إنّ هناك حزبا واحدا لله لا يتعدّد، وأحزابا أخرى للشّيطان والطّاغوت. هناك دار واحدة هي دار الإسلام الّتي تقوم فيها الّدولة المسلمة فتهيمن عليها شريعة الله وتقام فيها حدوده، ويتولّى فيها المسلمون بعضهم بعضا. وما عداها دار الحرب. علاقة المسلم بها إمّا القتال أو المهادنة على عهد أمان، ولكنّها ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين » : نفس المصدر، ص: 21
2 – « لا سبيل إلى النّجاة إلاّ عن طريق واحد. وهو أن تقوم صفوة مختارة تفهم الإسلام على وجهه الصّحيح، سواء أكانت هذه الجماعة من الإخوان أو غيرهم، ويبذلون كل جهودهم في تصحيح عقيدة النّاس وتفهيمهم شهادة لا إله إلاّ الله. إنّه ليس على الأرض كلّها ما يمكن أن يطلق عليه اسم الجماعة المسلمة بمفهومها الصّحيح، وإنّ هؤلاء الّذين يفهمون الإسلام يشكّلون النّواة الحقيقيّة لهذه الجماعة » : نفس المصدر، ص: 23
3 – « إنّ الانطلاق بالمذهب الإلهيّ تقوم في وجهه عقبات مادّيّة من سلطات الدّولة ونظام المجتمع وأوضاع البيئة. وحين توجد هذه العقبات والمؤثّرات المادّيّة، فلا بدّ من إزالتها بالقوّة أوّلا » : نفس المصدر، ص: 23
4 – « إنّ الشّرك بالله يتحقّق بمجرّد إعطاء حقّ التّشريع لغير الله من عباده، ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيّته، و تقديم الشّعائر التّعبّديّة له ». وعليه فإن « كلّ الأنظمة، وكذلك كل البلاد الإسلاميّة التي اتّخذت لها مناهج ونظما وتشريعات غير الكتاب والسّنّة قد كفرت بالله واتّخذت من نفسها إلها وأربابا. فكلّ من أطاعها مقتنعا فهو كافر » : نفس المصدر، ص: 17-18-24
5 – « إنّ العالم يعيش اليوم في جاهليّة من ناحية الأصل الّذي تتبيّن فيه مقوّمات الحياة وأنظمتها. جاهليّة لا تخفّف منها هذه التّيسيرات الهائلة وهذا الإبداع المادّيّ الفائق. هذه الجاهليّة تقوم على أساس اعتداء على سلطان الله على الأرض، وعلى أخصّ خصائص هذه الألوهيّة، وهي الحاكميّة. إنّها تسند الحاكميّة إلى البشر فتجعل بعضهم لبعض أربابا، لا في الصّورة البدائيّة السّاذجة الّتي عرفتها الجاهليّة الأولى، ولكن في صورة ادّعاء حقّ وضع التّصوّرات والقيم والشّرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن الله به، فينشأ عن هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداء على عباده » : نفس المصدر، ص: 27

فرج الحوار