من علامات التخلف الفكري

من علامات التخلف الفكري في أي بلد أن لا يُحْتَرَمَ علماؤه وأن يُصْبِحوا موضوع تندّر وانتقاد مجاني ممن لا اختصاص لهم ولا دراية بدقائق القضايا التي يعرفها ذوو الاختصاص. ويزداد التخلف درجة أقوى عندما ينساق من ينسب نفسه إلى العلماء ويشاركهم في اختصاصهم إلى تأييد المنتقدين عن غير اختصاص ودراية، ويزداد التخلف الفكري درجة أخرى أعمق عندما نعلم أن منطلقات النقد والانتقاد تتلخص في العصبية للمذهب السياسي والميل الخالص إلى الهوى،وشتان بين العالم المكتسب لعلمه بالخبرة والتجربة اللتين تسمحان له بالإفتاء فيه والمتعالم والمتجاهل اللذين تدفعهما العصبية والهوى إلى الاستخفاف بالآراء والأفكار التي لا توافق الهوى والعصبية عندهما. أقول هذا بعد الذي قرأته وتابعته حول مسألة « الوثائق » التاريخية التي بثتها رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة وتونس تحتفل بعيد استقلالها لتبين أن تونس ما زالت مستعمرة فرنسية وأن وثيقة الاستقلال لا تدل على استقلال حقيقي. وهذه السيدة معروفة من قبل – وخاصة بعد جلساات الاستماع التي أرادتها بداية لإعادة كتابة تاريخ تونس المعاصر – بمواقفها المتشنجة وبعدائها لدولة الاستقلال، ثم أقوله بعد متابعة ما تلا هذه الوثائق من ردود عليها كان آخرها النص الذي شارك في كتابته أكثر من ستين مؤرخا تونسيا منهم الشيخ الجليل ومنهم الشاب المجتهد، ونشر يوم الخميس 22 مارس في جريدة المغرب. ومن علامات التخلف التي أشرت إليها أن يقوم بعض من لا اختصاص لهم فيشكوا في معرفة هؤلاء العلماء بالقضية وفي نزاهتهم ويروا في ما عبروا عنه إجماعًا على الدفاع عن النظام السياسي في عهد الزعيم الحبيب بورقيبة خاصة. هكذا يُجْمِعُ ستون مؤرّخا تونسيا من ذوي المشارب السياسية المختلفة ومن ذوي الكفاءةات العلمية العالية على غاية واحدة : هي الدفاع عن النظام السياسي في عهد بورقيبة! هكذا بكل بساطة وسذاجة فكرية وعلمية يتفق ستون مؤرخا جامعيا تونسيا على تزييف الحقائق التاريخية فيتنكرون للموضوعية العلمية في البحث ولما علموه لطلبتهم من واجب الدقة في البحث والاستنتاج والتعليل والتدليل ويهدمون ماضيهم وحاضرهم العلميين من أجل الدفاع عن النظام السابق! أما أن تكون رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة مخطئة وأن تكون غايتها الأساسية هي تشويه صورة الاستقلال والتحقير من جهود الأجيال الوطنية التي حققته فلا تسمح العصبية السياسية والمذهبية لدى هؤلاء المنتقدين بأن تطوف بأذهانهم . وهذه في الحقيقة أسفل درجة من التخلف الفكري يمكن أن تسجل في مجتمع يدعي أنه بصدد الانتقال الديمقراطي وأنه يريد أن يبني ديمقراطية. لقد بدأ عهد الديمقراطية الزاهر هذا باحتقار المثقفين منذ سنة 2011، وهو الآن يحقّر من شأن المؤرخين الجامعيين دفاعا عن المنفلتين سياسيّا. وقد تأتي الأيام المقبلة بما هو أغرب من هذا كله

الأستاذ ابراهيم بن مراد