لا وسطيّة إلاّ في العلمانيّة

لا يتحدّث إلى النّاس متحدّث باسم الفرقة النّاجية (المنسوبة إلى « النّهضة » زورا وبهتانا)، في التّلفزة أو الصّحافة أو المنبر (في بعديه المدنيّ والدينيّ) إلاّ وأكّد بقوّة أنّ حركته هي حركة « وسطيّة »، تدين بالنّصوص القطعيّة الصّريحة أوّلا، وبالتّوافق ثانيا. لا ترى الفرقة النّاجية ضيرا في هذا المزج العجيب بين « القطعيّ » و »المتحوّل » (إن وجد، ولا مكان له نظريّا في المرجعيّات المعتمدة)، وفي ثمرتهما الغريبة المسمّاة « وسطيّة ». كلمة سحريّة وبرهان مفحم، لم ينفكّ الفرقنجويّون يلوكونها دون أن يكلّف أحد منهم نفسه ضرورة شرحها لنا بما يشفي الغليل، ومدّنا بالتّوضيح الضّروري، ومفاده: هم وسطيّون بأيّ معنى، وبالنّسبة لمن؟
وبانتظار أن يتفضّل رأس الفرقة الأبديّ، ومنظّرها الملهم، ومرجعها الحافظ المتمكّن بالاضطلاع (لأنّه إن لم يفعل ذلك فلن يتجرّأ أحد من صبيانه أن ينطق بحرف بدلا عنه) بهذه المهمّة، فإنّنا سنأخذ هذا اللّفظ على ظاهره ونتأوّله بأقرب ما يسعفنا به القاموس بشأنه، فنردّه إلى الاعتدال، ونفترض بناء عليه أن منتسبي الفرقة النّاجية يعتقدون محقّين أو واهمين أنّ نحلتهم نحلة معتدلة. ونحن لا نزعم أنّنا أعرف من القوم بفرقتهم، ولا نرى موجبا لعدم موافقتهم فيما أطلقوا من وصف عليها، ولكنّنا لن نتردّد مع ذلك في استفسار الجماعة عن جملة من الظّواهر والمواقف والأعمال المتعلّقة بتنظيمهم هذا حتّى نتبيّن لحيرتنا معهم ومع فرقتهم سبيلا إلى الانفراج
فهل من الوسطيّة أن يدّعي تنظيمهم الموقّر أنّه حزب مدنيّ يحتكم إلى المبادئ المدنيّة العلمانيّة المعلومة، وبناء عليها اتّصل بالنّاس ليخطب ودّهم، وعقد علاقات مع غيره من التّنظيمات الحزبيّة، وارتبط معها باتّفاقات ومعاهدات، ثمّ نراه يتحدّث ليلا نهارا عمّا يسمّيه « مجلس شوراه » (لعلّه قرين ما يسمى باللّجنة المركزيّة في الأحزاب المدنيّة الحقيقيّة)، وعن « المسلّمات » و »الثّوابت » و »النّصوص القطعيّة الصّريحة »، الّتي تكوّن « الخلفيّة الإسلاميّة للفرقة، والّتي آلى هذا المجلس على نفسه الدّفاع عنها ضدّ « التّطرّف » المدنيّ العلمانيّ، كهذا الّذي أفصحت عنه أخيرا « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة » الّتي أدانها هذا المجلس بكلّ حزم، وبنفس الحزم و »القطعيّة » أدان مناداتها بالمساواة في الإرث بين الإناث والذّكور لأنّ السّماء أعدل من الأرض، ومن يسعى فوقها من البشر، ولو بدا للجاهلين أنّها أجحفت في حقّ النّساء
وما كنّا لنلتفت لهذه المسألة، فهي « المطبخ الدّاخليّ » للفرقة النّاجية، لولا أنّ هذه الأخيرة تحكم البلاد اليوم من خلال توازنات (إن وجدت لأنّ هذا المجلس الموقّر يتّخذ، في الظّروف الحرجة، قراراته « الشّرعيّة » بالإجماع، خاصّة عندما يتعلّق الأمر بشأن من شؤون النّساء) هذا المجلس، الّذي يلتئم وقت الأزمات الّتي تعرض من حين لآخر، لينظر – على حدّ زعمه – في سبل الخروج منها، أو حفاظا على « التّوافق » الّذي جعل منه مطيّة للانفراد بالحكم. فماذا عساه يكون مجلس الشّورى هذا إن لم يكن صنوا لما يسمّى قديما مجلس « أهل الحلّ والعقد » الّذين يجوز لهم دون سواهم من العباد التّفكير في شؤون الجماعة وتدبّر أحوالها بما يرونه صالحا، ولعلّ هؤلاء هم المؤهّلون بالإمساك بدفّة الحكم في الغد القريب عندما تتهيّأ الظّروف الملائمة وتضمن الفرقة النّاجية – على حدّ تعبير رأسها المدبّر – الأمن والعسكر والإدارة – بدلا عن الحكومة والمجلس القائمين، أو اللّذين قد يقومان مستقبلا؟ هل من الوسطيّة إذن أن يعتمد « حزب مدنيّ » مّا إيديولوجيّة ملتبسة يستحوذ بمقتضاها، كما هو الشّأن للفرقة النّاجية، بالسّلطتين التّشريعيّة والتّنفيذيّة بحكم نصوصه القطعيّة أوّلا، وبحكم أغلبيّته العدديّة ثانيا، فيبطل بذلك الآليّات العلمانيّة الّتي يقوم عليها نظام الحكم الدّيمقراطيّ؟
وهل من الوسطيّة في شيء أن تبتزّ مجموعة مّا حقّ الشّعب في تقرير مصيره؟ وما الّذي يجيز لهؤلاء، إن تغاضينا عن أهليّتهم الدينيّة المزعومة، تولّي هذا الشّأن إن لم يكن ذلك عن إيمان منهم أنّهم يمتلكون الحقيقة الأزليّة، وأنّ من واجبهم أن يلزموا بها الآخرين طوعا أو كرها؟ هل من الوسطيّة في شيء أن تعتقد مجموعة من النّاس في نفسها الكمال وترمي ما عداها بالقصور، وتقرّ لنفسها على هذا الأساس حقوقا يترتّب عليها حرمان الآخرين من كامل حقوقهم، بل ربّما تجريدهم من آدميّتهم جملة وتفصيلا؟
وهل من الوسطيّة في شيء أن تحتلّ الفرقة النّاجية الفضاء العامّ وتخضعه بالكامل لخدمة أغراضها الملتبسة، منتهكة بذلك القانون المنظم للفضاء صلب الدّولة المدنيّة، الّتي لا تزال تقرّ بوجودها وتعلن التزامها بمبادئها؟ هل من الوسطية أن يعبث هذا التنظيم بالدين ويبتذله محولا إياه إلى تظاهرات احتفالية واستعراضية يهدف من ورائها إلى البرهنة عن قوته، وهو ما من شأنه أن يرهب خصومه ويزيد في تمكينه؟ هل من الوسطيّة أن تُهجر المساجد، وتُحتلّ، باسم التّقوى، السّاحات العامّة والملاعب وحتّى الشّواطئ، فتقام فيها الصّلوات بمناسبة وبغير مناسبة، ويخلط فيها الدّين خلطا شنيعا بالسّياسة، بدعوى أنّه لا انفصال لهذه عن هذا؟
وهل من الوسطيّة أن يعتلي المنابر في بيوت الله أناس، ينتمون فعلا أو تعاطفا إلى الفرقة النّاجية، ويطلقون العنان لسفاهتهم تطاولا على العباد من مخالفيهم (ناعتين إياهم بأسمائهم أحيانا)، وهتكا لأعراضهم، ورميا لهم، دون دليل، بشتّى التّهم والموبقات، وقد يتجاوزون كلّ ذلك فيرمونهم بالكفر وينادون بقتلهم أو دفنهم أحياء؟ هل من الوسطيّة في شيء أن تتحوّل بيوت الله إلى منابر للتّحريض على العنف والبغضاء والحقد، وتأليب عباد الله ليتناحروا ويتقاتلوا بتعلّة حماية « الثّوابت » والمرجعيّات الدّينيّة « القطعيّة الثّابتة » والدّفاع عنه، والحال أنّ هذا الدّين هو دين الجميع، وإن اختلفت كيفيّة ممارسة النّاس له، كما هو شأن المؤمنين في كلّ الأديان، وفي الإسلام نفسه منذ قديم الزّمان، فضلا عن أنّ نظام الحكم القائم هو علمانيّ المنزع، لا مجال فيه للحديث عن « شريعة » أخرى (ولو كانت إلهيّة المصدر كما تزعم الفرقة النّاجية) غير « شريعة » القانون الوضعيّ المدنيّ الجمهوريّ الّتي اعتمد على أساس مبدأ « التّوافق »؟
وهل من الوسطيّة في شيء أن يخطب رأس الفرقة النّاجية في شيعته محرّضا إيّاها على مقاطعة « مواطنيهم » مّمن يختلفون عنهم لباسا وملبسا ومطعما ومشربا، بدعوى تطهير المجتمع من مظاهر التّسيب والفساد، وحمل النّاس حملا على النّهج القويم الّذي قرّره لهم هو، زاعما أنّه الصّراط المستقيم؟ هل من الوسطيّة في شيء أن يزعم رئيس « حزب » لنفسه الحقّ في التحكمّ في ضمائر مواطنيه بحكم امتياز إلهيّ يتوهّم أنّه حاز عليه دون غيره من سائر العباد، ربّما قاده في يوم قريب إلى الزّعم بأنّ من حقّه أن يُبقي على حياة من يرضى ويَحرم من الحياة من لا يرضى عنه من عباد الرّحمان، وكلّ ذلك تفانيا منه في إعلاء كلمة الله وشريعته؟
هل من الوسطيّة أن يمنح حزب مدنيّ – كحزب الفرقة النّاجية – نفسه الحقّ في مراقبة النّاس والتّضييق عليهم وعلى أنشطتهم الفكريّة والعلميّة والفنيّة والسياسيّة بدعوى حماية المقدّس، إمّا بصورة مباشرة أو بطريقة غير مباشرة عبر جمعيّات ومنظّمات تدّعي حيازة الأحقّيّة في الهداية والإرشاد (وهي منظّمات بوليسية موازية بالأساس، ذات طابع دينيّ واضح)، وعبر منظّمات تربويّة تشتغل خارج إطار القانون، وتكرّس نمطا تربويّا منغلقا ومتخلّفا يرسّخ في النّاشئة مبادئ التّعصّب ورفض الآخر؟ هل من الوسطيّة في شيء أن يعتمد حزب، يروم حكم العباد على اختلاف مشاربهم، بمبادئ تكرّس الإقصاء وتقسّم المجتمع وفقا لاعتبارات دينيّة متهافتة، تفترض الأفضليّة زورا وبهتانا للماسك منها بالسّلطة، أي للطّرف الأقوى ممثّلا في الفرقة النّاجية بالذّات؟
هل من الوسطيّة أن تخاطب الفرقة النّاجية معارضيها ومخالفيها من منطلق أنّها صانعة الثّورة والمحافظة عليها – على ما في هذا الأمر من مجافاة للحقيقة وتزوير للتّاريخ القريب – وأنّه من منطلق هذا « الامتياز الثّوريّ » يجوز لها الحكم بإقصاء الآخرين على قاعدة الإيمان والولاء، وغيرها من الاعتبارات الّتي تشرّع لتصفية الخصوم سياسيّا وجسديّا لمجرّد أنّهم يعكّرون صفو النّظام العامّ؟ هل من الوسطيّة في شيء أن يمارس حزب حاكم العنف الممنهج بصورة علنيّة أو بطرق ملتوية، بدعوى الاحتكام إلى « النّصوص القطعيّة الثّابتة » (الّتي أضاف إليها أخيرا « الدّستور » و »مجلّة الأحوال الشّخصيّة »، باعتبار أنّ كلّ وثيقة قانونيّة هي جزء من شريعة الثّبات والجمود والموت الّتي يؤمن بها، على ما في الاعتقاد من خلط شنيع بين الضّوابط الأرضيّة الوضعيّة وأحكام السّماء الأزليّة) ضدّ الراغبين في الالتفاف عليها، وهو يروم من وراء ذلك تحصين موقعه على السّاحة السّياسيّة، وضمان ظروف نجاحه في انتخابات قد تقع، وقد لا تقع أبدا؟
إن كانت هذه هي الوسطيّة الّتي تدّعيها الفرقة النّاجية، فلتعلم أنّها لا تختلف جوهريّا عن مثيلتها الّتي كانت الدّيكتاتوريّة البائدة تنسبها إلى نفسها وتمارسها تحت مسمّى مختلف، لأنّهما تمتحان من نفس المعين، وتتمثّلان نفس العقيدة والمنهج والأسلوب. وهكذا يتبيّن لنا أنّ الفرقة النّاجية، ومن نهج نهجها في الإصرار على الإقصاء كسبيل إلى إنتاج منظومة الاستبداد والفساد القديمة، هو الوريث الشّرعي للاستبداد. وليس أدلّ على ذلك من التّصريحات المتهافتة لرأس الفرقة النّاجية حول « مدنيّة » الدّولة، وعلاقة « الشّريعة » بدستور الدّولة، ومستقبل نظام الحكم. وهكذا يتبيّن أنّ الفرقة النّاجية، رغم ما تدّعيه من وسطيّة، ليست النّاطق الرسمي باسم « النّهضة »، والمنفّذ الأمين لمبادئها، والمكرّس الحصيف لأهدافها، وإنّما هي، على العكس من ذلك كلّه، الوريث الشّرعي للدّيكتاتوريّة البائدة
وهكذا يتّضح أن أثر الدّيكتاتوريّة في تراثنا القديم والمعاصر أكبر ممّا قدّرنا، وأبعد أثرا ممّا افترضنا، لأنّه كيَّف سلوك النّخب السّياسيّة والإسلامسياسيّة بطريقة لن يتيسّر معها إرساء بديل ديمقراطيّ قابل للحياة. لقد سقطت الدّيكتاتورية: هذه حقيقة لا مجال لإنكارها. ولكنّ « الثّورة » المرجوّة لم تحصل، ولن تحصل في الأجل المنظور، لأنّ عقليّة الاستبداد وثقافته، الّتي نلمس أثرهما المخيف والمدمّر في « الوسطيّة » الّتي تتشدّق بها الفرقة النّاجية، ما تزالان قائمتين، وستظلاّن قائمتين ما استمرّت الفرقة النّاجية في عربدتها الإيديولوجيّة تحت ذريعة « الدّيمقراطيّة » و »حرّيّة التّعبير » و »الأصالة » و »الهويّة » و »حماية المقدّسات »، وغيرها من التّقليعات الإسلامسياسيّة التّلفيقيّة الّتي تفتّقت عنها « الخلفيّة الإسلاميّة » للفرقة النّاجية، الرّافد الضّروريّ « لمدنيّتها » الأصيلة
ونحن نرى أنّه لا يجوز الحديث عن « الوسطيّة » (القائمة على المقولة الشّهيرة: خير الأمور أوسطها) إلاّ في إطار نظام يقرّ بالتّمايز والاختلاف مبدأ، وهو ما لا تتيحه إيديولوجيّة « سياسيّة » جعلت من « الدّين » عمودها الفقريّ، واتّخذته العلمانيّة لنظامها الدّيمقراطيّ أسّا. وعليه، فإنّنا لا نبالغ البتّة إذا ما أكّدنا أنّه لا وسطيّة إلاّ في العلمانيّة. ونحن نقصد بالوسطيّة هنا القبول بمبدأ الاختلاف بصفته قانونا طبيعيّا وثقافيّا وسياسيّا يتناقض مع مبدأ « التّماثل المطلق » الّذي تزعم الفرقة النّاجية أنّها قادرة على تحقيقه
والدّليل على أنّ الوسطيّة علمانيّة أو لا تكون هو أنّها منحت الفرقة النّاجية حقوقها المدنيّة والسّياسيّة كاملة، مكتفية منها بالتزام شكليّ لم تحترمه أبدا، ينصّ على عدم خلط مجالي الدّين والسّياسة لأنّ مثل هذا الخلط – وهو متحقّق في فعل الفرقة النّاجية – سبب كاف لحرمانها من التّأشيرة القانونيّة لممارسة السّياسة في وضح النّهار. فلمّا حصلت هذه الفرقة على هذه التّأشيرة استغلّتها لتقويض الدّولة المدنيّة سرّا وجهرا. إن كانت هذه هي « وسطيّة » الفرقة النّاجية، والفريّقات الّتي تدور في فلكها، فهذا ما لم تخطئه عيون التّونسيّين منذ فجر انتخابات 25 أكتوبر 2011، وما زالوا إلى اليوم يعاينون زحفها المكتسح على مكتسبات دولتهم الوطنيّة الّتي أقامها أجدادهم بالدّماء والعرق والتّضحيات الجسام
الأمّيّة الدّينيّة (وهي ليست حكرا، كما قد يخطر في بال البعض، على العامّة) المتفشّية في أوساط كثير من ذوي المستويات التّعليميّة الرّاقية، في شتّى المجالات المهنيّة، هي من العوامل الأساسيّة الّتي روّجت لكذبة « الوسطيّة »، وساهمت في تسويقها. يكفي أن يقرأ المرء ما كتبه المسمّى جوهر بن مبارك عن موقفه من « المسلّمات والثّوابت والنّصوص القطعيّة »، وما يتعلّق بها عادة من الرّتوش والتّزاويق (السّيرة النّبويّة، مآثر الصّحابة، الأمجاد السّالفة، وغيرها من « المصادرات » الغبيّة الّتي يجترّها الكثيرون دون أن يعلموا عن حقيقتها شيئا) الّتي زيّنها لها وهمه ليقدرّ حقّ قدرها حجم هذه الأمّيّة (الحقيقيّة غالبا، والمفتعلة أحيانا) الّتي مهدّت طريق الغلبة والمجد للفرقة النّاجية
وهذا هو ما سعى الأستاذ أنس الشّابّي إلى توضيحه، فتبسّط، في معرض توضيحه، في إماطة اللّثام عن الأفكار المسبقة والمغلوطة الّتي تكوّن الرّصيد المعرفيّ الدّينيّ الوحيد لكثير من المتعلّمين (من حملة أعلى الشّهادات الجامعيّة أحيانا) الّذين يتطفّلون بكلّ وقاحة على الشّأن الدّينيّ في هذه الظّروف الّتي أضحى فيها « الدّين » في مثل القنبلة الموقوتة الّتي لن تبقي، إن انفجرت – وهي ستنفجر حتما – على شيء يذكر من مقوّمات الدّولة والمجتمع في تونس

فرج الحوار