الإسلام السّياسيّ ومأزق الحداثة

ثمّة أمر يثير الاستغراب في تصريحات بعض الأطراف من محترفي النّقد السياسيّ، – أو السياسويّ – وراكبي موجات الثّورات بانتهازيّة وقحة، يدّعون فيها، بدون أدنى دليل، أنّ الحداثة انهزمت شر هزيمة، ومآلها الانقراض ثمّ الموت الزّؤام إن عاجلا وإن آجلا، وأنّ المكان– كل المكان – لم يعد يتّسع اليوم لغير الإسلامسياسيّين، روّاد أحزاب الهويّة والأصالة. وقد التحق بأصحاب الحصافة هؤلاء، معزّزا لصفوفهم المتراصّة، رئيس الجمهوريّة المؤقّت السّابق، الّذي لم يتردّد، تزلّفا لرأس الفرقة النّاجية، وليّ نعمته ومحقّق حلمه في الاستحواذ على العرين البورقيبيّ، في التّصريح بأنّ الإسلام هو الحلّ الأمثل للمشاكل المزمنة الّتي تعاني منها بلداننا (بما في ذلك ربّما البلدان الّتي تحكمها أنظمة إسلاميّة منذ عقود، اللّهمّ إلاّ إذا كان يعتقد أنّ بلدانا كالعربيّة السعوديّة وقطر وإيران والسّودان والصّومال هي مثال الكمال في الرقيّ والتّنمية والتحضّر يتعيّن على باقي البلدان، وفي مقدّمتها بلادنا، النّسج على منوالها!)، ضاربا عرض الحائط بما كان قد أعلن عنه ذات سنة من سنوات نضالاته الطّويلة في كتاب له بعنوان « سجن العقل » من أن التحزّب الدّيني، وما يؤول إليه من انغلاق وتقوقع وتعصّب، هو اغتيال للعقل والحياة معا

وقد أعلن المتحمّسون لمسألة الهويّة، والقائلون بأولويّتها على ما عداها من المسائل الحارقة بما فيها الاقتصاديّة، أنّ المعركة حسمت ولم يبق إلا أن نشيّع جثمان الحداثة إلى مأواه الأخير ونمسح أيدينا من العصر ومتطلّباته لنتفرّغ نهائيّا للّحية والجلباب والحجاب والنّقاب والوتر والشّفع والنّوافل، وأكباش العيد نسفك دمائها بدون رادع، باعتبارها جميعا بلسما لكلّ الجراح، ومن بعدها للخلافة والاعتكاف والتحنّث وغيرها من متطلّبات التّقوى، باعتبارها الضّامن للمعاد، بعد أن اطمأنّت القلوب على مآل الحياة الدّنيا، ولله الحمد والمنّة
ومن طيّبات الحلّ الأمثل، الّتي لا غنى عنها للبلاد والعباد، اللّحظات الرّبّانية الّتي تحظى بها حركة ربّانية بدورها، انضوى تحت لوائها الميمون الطّالع أناس ربّانيّون منزّهون عن الأهواء كلّها، وخاصّة منها « الحوفة » – على حدّ تعبير زعيمها الرّبّاني الفذّ، رضي الله عنه وأرضاه، المشهود له عالميا بالاستقامة والأمانة – الّتي برع فيها أسلافهم من حكّام النّظام البائد الّذين اكتسحتهم الثّورة « المباركة » منذ سبعة سنوات، وجاءت بالفرقنجويّين الأمناء، ذوي الطّبائع الملائكيّة، من جوف المعتقلات والسّجون وأحلّتهم مكانهم على سدّة الحكم ليعيدوا الأمور إلى نصابها، فبدؤوا عهدهم السّعيد برعاية صلة الرّحم، وذلك بتعيين المؤتمنين من أقربائهم على الشّؤون الخارجيّة للخلافمهوريّة، وهي خلافة على النّمط الجمهوريّ الرئاسيّ المدنيّ الدستوريّ المجلسيّ البرلمانيّ إلخ…إلخ
ولسائل أن يسأل: هل أصبح الله حكرا على هذه الحركة بالذّات من دون الخليقة قاطبة، يقوم على نصرتها هي دون غيرها من الحركات والأحزاب والتّنظيمات على كثرتها؟ على كلّ حال هذا هو ما رسب في وهم بعض عامّة الناس – أو ما شاءت له ماكينة البروباغندا العاتية أن يرسب في أذهانهم (وهي أيضا من نتاج الحداثة وسليلتها – الطيّبة أو الخبيثة، لا يهمّ ما دامت في خدمة النهج القويم –، ومنها الشّبكة العنكبوتيّة وصفحات الفايس البوك، وظّفوها للتّبشير بكلّ ما لذّ وطاب من ثمار الماضي الموغل في القدم لحلّ مشاكل اللّحظة الرّاهنة بكلّ تعقيداتها، لا شكّ لديهم في أن الماضي قادر على معالجة أزمات الحاضر والمستقبل معا) – برهنوا عليه يوم الاقتراع بالانتصار « لورقة الله أو ورقة الجنّة »، فالأمر لديهم سواء. إن لم يكن هذا الخلط الشّنيع هو الشّرك بعينه – بل أبشع من الشّرك – فماذا تراه يكون إذن؟
والإسلامسياسيّون، بمختلف مللهم ونحلهم الّتي تتناسل كل يوم ليزيد عددها أضعافا مضاعفة عمّا جاء في الأثر عن السّبعين فرقة (بزيادة واحدة أو اثنتين حسب الرّوايات الّتي تقاسمت أشلاء الأمّة الإسلاميّة في عهودها المبكّرة)، عندما يعلنون على الملإ هذه النّهاية الفاجعة للحداثة، لا يتأخّرون، بدافع من عقيدتهم السّمحاء، في التّقدّم لمنتحليها من بني جلدتهم الضّالّين، بالعزاء طالبين المولى عزّ وجلّ أن يشمل الفقيدة بمغفرته الواسعة وأن يرزق أهلها وذويها جميل الصّبر والسّلوان، ويهديهم سواء السّبيل فيعودون من تلقاء أنفسهم، قبل احتدام التّدافع الاجتماعيّ – الذي بشّر به رأس الفرقة النّاجية رضي الله عنه – وفوات الأوان، إلى ربوع الأمّة لينعموا فيها بالرّاحة والاطمئنان
ولعلّنا كنّا شهدنا للإسلامسياسيّين والنّافخين في أبواقهم، فيما ذهبوا إليه من القول بأفول نجم الحداثة، بسعة الخيال والعبقريّة، وبالإلهام المؤزّر بعناية السّماء الّتي استأثروا بدعمها من دون النّاس جميعا، لو لم نكن انتبهنا بعد غفلة، كادت أن تدفعنا للمثول بين أيديهم مهنّئين مباركين، أن المرحومة (أي الحداثة) لم تُفقد إلا في ربوعنا نحن، وهي لا تزال قائمة بكامل عافيتها في كلّ ربوع العالم (ما عدا ديارنا الغالية، المنزّهة عن الرّجس منذ الآن فصاعدا بفضل الماسكين بمقاليد الأمور فيها الّذين عقدوا العزم صادقين على استئصال بوادر الفساد فيها وتعقّب كلّ مظاهر التسيّب والخلاعة، وهو ما أوجب أن يكون الحجاب والنّقاب وحدّ الحرابة – وربما غيرها من الاكتشافات المذهلة في لاحق الأيّام – في مقدّمة اهتماماتهم الثّوريّة العظيمة)، آخذة فيها بمقاليد الحكم، ماسكة فيها بأسباب الحياة والرّفاه، مدلية بدلوها في الخاصّ والعامّ والدّقيق والعظيم من شؤون العباد
وكان من نتائج هذه اليقظة المباركة أن انتبهنا إلى تكالب أتباع الفرقة النّاجية على رضا الفقيدة الملعونة (أي الحداثة)، في معاقلها البعيدة، وطمعهم في مساندتها ودعمها ومعوناتها الجزيلة لإِعلاء صرح بديلهم الإسلامسياسيّ الفذّ، يقولون – دون أن يطرف لهم جفن – أنه سيغيّر وجه المعمورة، رغم استبشارهم بزوالها في مواقعهم واستنزالهم اللّعنات على أيتامها وتعييرهم لهم بالتّبعية والخيانة والارتهان للأعداء وأجنداتهم المريبة، في حين يتهافتون هم على طلب ودّ القاصي والدّاني، بدعوى الصّداقة مرّة، وبدعوى الأخوّة مرّة أخرى، ويقطعون العهود على أنفسهم للحفاظ على مصالح هؤلاء، ولو أدّى ذلك إلى التّفريط في مصالح البلاد الّتي يزعمون أن الثّورة « المباركة »، الّتي لم يساهموا فيها بحجر أو شعار واحد، أورثتها إيّاهم هم دون غيرهم من المناضلين لمزيّة فيهم ليست في غيرهم، لا يدرك كنهها إلا الرّاسخون في العلم والتّقوى من مؤيّديهم وأشياعهم، المنافحين عنهم باللّسان والذّراع
ويخصّص أعوان حزب الهويّة أحيانا فينعتون أيتام الحداثة بأيتام بورقيبة، متناسين أنّهم هم أيضا أيتام هذا الرّجل العظيم، الّذي لولا المدارس الّتي بثّها في كلّ أنحاء البلاد لما كان بلغهم خبر محمّد بن عبد الوهاب وحسن البنّا والسيّد قطب وأبي الأعلى المودودي وابن باز وابن عثيمين، وقبلهم ابن تيميّة وتلميذه ابن القيّم الجوزيّة، وقبلهما صاحب المذهب الأحمد أحمد بن حنبل، وغير هؤلاء من الأئمّة الأبرار والعلماء المبرّزين، وذلك لأنّهم كانوا سيكونون مجرّدين من آلة العلم الّتي عمّمها المرحوم بورقيبة بديمقراطيّة منقطعة النّظير آنذاك، لم يحرم منها منطقة واحدة من البلاد، بما فيها المناطق الدّاخليّة الّتي جاء منها بعض أقطابهم ليحتلّوا مركزه اليوم ويبذلوا قصارى جهدهم في استئصال إرثه. والعجيب في الأمر أنّهم، على تحاملهم عليه ومقتهم له – الّذي بلغ برأسهم الملهم رضي الله عنه حدّ رفض الترحّم على روحه -، لا يستنكفون – لإدانته وتسفيه رؤاه يزعمون – من أن يتكلّموا لغته بكلّ مفرداتها، بل إنّهم ذهبوا في تقليده إلى أبعد الحدود فقاموا بالسّطو على أهمّ منجزات الرّجل، وهي مجلّة الأحوال الشّخصية، فنسبوها إلى فقهاء مغمورين ما كانوا ليجرأوا على التّفكير فيها أصلا – هذا إن صحّ أنّ لهم فيها يدا تذكر – لولا القرار السّياسيّ الجريء الّذي اتّخذه الزّعيم بورقيبة باستصدارها
ألا يعني هذا أن الإسلامسياسيّين – قبل الحداثييّن الّذين وفّوا الرّجل حقّه فقدّروا مزاياه حقّ قدرها وأدانوا مساوئه بكلّ وضوح وموضوعيّة – هم أيتام بورقيبة الحقيقيّون، وأشدّهم حاجة إليه، أأقرّوا بذلك أم أنكروه، وأنّهم مجبرون اليوم أكثر من أيّ وقت مضى على السّير في النّهج الّذي رسمه للبلاد فجر الاستقلال بإعلانه للنّظام الجمهوريّ واتّخاذه سلسلة من القرارات الجريئة الّتي أرست دعائم الدّولة التّونسية الحديثة؟ أليس من المفارقات العجيبة أن يتكلّم الإسلامسياسيّون لغة عدوّهم اللّدود ويتعهّدون لمنتخبيهم – ولغير منتخبيهم خاصّة، وهم كثر – بالمحافظة على منجزاتها، بل وتدعيمها بالديمقراطيّة الّتي لم يحقّقها هذا الرجل؟
وليعلم الشّيخ-الأستاذ، رأس الفرقة النّاجية، رضي الله عنه (أو الأستاذ-الشّيخ ربّما، وقد قدّمنا الأولى على الثّانية لاعتقادنا الرّاسخ بأنّ الرّجل يفضّل مركزه الدّينيّ على مركزه الدّنيويّ المدنيّ الّذي يضطلع به اليوم، في إطار الدّولة المدنيّة الّتي آلت إليه عبر صناديق الاقتراع بأغلبيّة جدّ نسبيّة، من دون تفويض من أحد، اللّهم إلاّ إذا كان يعتقد أنّه، أسوة بسميّه آية الله روح الله الخميني، مفوّض من الأمّة بكاملها)، أنّ في رقبته لبورقيبة دينا كبيرا، وليعلم كذلك أنّ التونسيّين لا يشعرون البتّة أنّهم مدينون بشيء للشّيخ الوهّابيّ، أعمى البصر والبصيرة، المدعوّ ابن باز الّذي تجاسر على بورقيبة وضميره فنبش فيه وقطع بكفره، وليعلم أخيرا أن التّونسيّين حسموا أمرهم مع الوهابيّة البغيضة، الّتي لم يتورّع سماحته عن امتداحها والتغنّي بمآثرها القبيحة، منذ القرن الثّامن عشر في رسالة شهيرة وجّهت إلى باعث الحركة المسمّى محمّد بن عبد الوهاب، فليراجعها رأس الفرقة النّاجية – إن شاء – في تاريخ المغفور له ابن أبي الضّياف
فهل تكون الحداثة طيّبة عند غيرنا، خبيثة لدينا؟ وهل نكون نحن من دون العالمين ممّن يقولون بالشّيء ونقيضه التزاما منّا بمقوّمات هويّتنا وتاريخنا (جعلوهما لنا معتقلا)، وصونا لهما من أن يلحقهما ما يشوب صفاءهما الأزليّ ويعرض نقاءهما لخطر العدوى؟ ونحن قد نتفهّم خوف الإسلامسياسيّين وهلعهم من فيروسات الحداثة وعقابيلها، ولكنّنا لا نوافقهم في إدانتهم لبني عمّهم في أورشليم وما تاخمها بتهمة العنصريّة الوبيلة، ونذكرهم – لعل الذّكرى تنفع المؤمنين – أنّهم وأبناء عمومتهم هؤلاء في هذه العاهة سواء عندما يتمسّكون مثلهم بأسباب النّقاء والاصطفاء ويوصدون دون العالم الأبواب نأيا بأرواحهم من رجس الانفتاح والاختلاط، فهم بزعمهم خير أمّة أخرجت للنّاس وأولئك، بشهادة توراتهم، شعب الله المختار
أليس من المنطقيّ – بل من الضروريّ – تساوقا مع هذا التمشّي الصفويّ أن ينصرف خدّام الهويّة والقائمون عليها كلّيّا عن نتاج العلوم ومخترعاتها في شتّى جوانب حياتهم اليوميّة من صّحة ونقل واتّصالات وتقنيّات صناعيّة وفلاحيّة ومبتكرات إلكترونيّة باعتبارها من ثمار الحداثة الخبيثة الّتي ماتت (وهذا يقتضي أن تموت معها كلّ منجزاتها) وأن يعوّضوها بمبتكرات تتماشى مع مقتضيات هويّتهم ومتطلّبات أصالتهم – أي إسلامسياسيّة صرفة -– « يستوردونها » من ماضيهم المجيد، ويعيدون إليها بريقها الّذي فقدته منذ قرون؟ فإذا كان الحلّ الإسلامسياسيّ يرى في اللّحية والنّقاب والثّوب الأفغاني تعبيرا عن الهويّة (ويزيدون بالقول إنّ هذه الخلعات الموضويّة – نسبة إلى الموضة – هِي من صلب الحرّيّة الّتي تكفلها حقوق الإنسان!) وتمسكا بهدي السّلف الصّالح، فلماذا لا تنبذ الفرقة النّاجية الحداثة العلمانيّة المارقة وتلزم أشياعها بتقليد السّلف الصّالح في كلّ شيء بدون استثناء، فلا معنى للعودة إلى النّقاب مثلا والإعراض عن البعير والفرس والبرذون والحمار، وهي الوحيدة التي كان يستعملها السّلف الصّالح في حلّه وترحاله، والإقبال بشراهة منقطعة النّظير على السّيّارة والقطار والطّائرة والهاتف المحمول، وهي، إضافة إلى غيرها من المستحدثات، من البدع الّتي تلت عهد النّقاء والطّهر، أي عهد السّلف الصّالح الذي هم بهديه اليوم مهتدون؟!
وليس هذا الاختراع الفريد من نوعه، ممثّلا في إلغاء عامل الزّمن والتّقهقر إلى الوراء لمعانقة المطلق الّذي انبثق منذ ما ينيف عن أربعة عشر قرنا، بالمستحيل على الإسلامسياسيّين الّذين يزعمون أنّ الكتاب المقدّس (كما يتأوّلونه هم من دون سائر المسلمين) يحتوي، تصريحا وتلميحا، على كلّ العلوم ومنجزاتها، ما تحقّق منها على أيدي الكفرة في المعامل والمخابر (وليس في المعابد والمساجد الّتي امتلأت بضجيجهم وعجيجهم)، وما لم يتحقّق بعد، فلعلّهم، بتوفيق من السّماء، يستخلصون منه كل العلم دفعة واحدة ويضعونه في خدمة الإنسان وسعادته الدّنيويّة والأخرويّة، ويجنّبون بذلك البشريّة مشقّة البحث ومصاريفها الباهظة
إن كان البديل الإسلامسياسيّ المزعوم مكتفيا بذاته كما يُدّعى، فلماذا لا يستغني عن هبات الحداثة الّتي قضت وانتهت إلى الأبد، ويكتفي بمؤهّلاته النّورانيّة، ومقدّراته الإعجازيّة، ومبادئه الرّاسخة في رحم الأصالة، والهويّة، واللّحية والنّقاب، والقفّازات الّتي لا تكتمل عفّة النّساء، المتواريات كلّيّا عن العالم وأنواره، إلاّ بها، والأنفة، والثّوب الأفغاني، والعزّة، والقلنسوة الّتي لا نعرف لها أصلا ولا فصلا، وكلّها من التّراتيب الضّرورية الّتي لا يجوز ركوع أو سجود لله سبحانه بدونها؟ لو كان في هذا البديل المزعوم خير مّا، لما كان زعماؤه اضطرّوا إلى مهادنة الأعداء، أنصار الحداثة الفقيدة والموالين لشريعتها، بالتّنازل تلو التّنازل، حتّى أخذت الحماسة رأسهم الملهم فأكّد أن دستور تونس المقبل (ولا علاقة له بتدبيجه من قريب أو بعيد باعتبار أنّه لم يكن من أعضاء المجلس التأسيسيّ، ولا يضطلع بأيّة مسؤولية حكوميّة) لن يتضمّن اسم بلد آخر غير تونس، في إشارة منه إلى حياد البلاد تجاه الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، ثمّ فوجئنا ببعض « السّفهاء » من قواعده يصرخون بهستيريا منقطعة النّظير (عاقب عليها المرحوم بورقيبة، المؤمن حتّى النخاع بالقيم المدنيّة وبحرّيّة المعتقد، بالسّجن حفاظا على وحدة الشّعب التّونسي في خضمّ حرب سبعة وستّين من القرن الماضي لمّا تعرّض بعض مواطني البلاد اليهود إلى الأذى على أيدي بعض مواطنيهم من المسلمين، غالبا لأسباب لا علاقة لها بالقضيّة الفلسطينيّة) عند استقباله رسميّا لمسؤول إسلامسياسيّ فلسطينيّ مُقال: « الموت لليهود »، لا فرق في ذلك بين يهود أورشليم ومواطني تونس من معتنقي الدّيانة اليهوديّة
وبعد، لماذا يصر الإسلامسياسيّون على استعمال لغة الحداثة والاستماتة في الدّفاع عنها برهنة منهم عن انخراطهم في التّاريخ؟ وما حاجتهم إلى التّاريخ أصلا وقد اختصروه في حقبة زمانيّة محدّدة، انقضت منذ ما ينيف عن الأربعة عشر قرنا، وهم يجاهدون اليوم لاستعادتها وإحلالها في الحاضر ليعمّ نورها أرض بلادنا وينتقل منها بزعمهم إلى الكون برمّته؟ أليست لفظة الدّيمقراطيّة الّتي تلوكها ألسنتهم اليوم بدون كلل ثمرة – مرّة أو طيّبة! – من ثمار الحداثة؟ أَليس النّظام الجمهوريّ وما يحكمه من دساتير وبرلمانات ومجالس، وما يفترضه من إقرار لحقّ الاختلاف والاعتقاد والتّنظيم والتّعبير، إلى غير ذلك من مقوّمات الحكم في زماننا ثمرة -– مرّة أو طيّبة! – من ثمار الحداثة؟
لماذا ينبذ الإسلامسياسيّون مفردات قاموسهم الأصيل، ويعتذرون بالتعلاّت والشّروح والتّخريجات إذا زلّت ألسنتهم بمفردة منه، ويتكلّمون لغة الحداثة المارقة وهم لها في قرارهم كارهون؟ أَليست الخلافة الّتي بشر بها أحد زعمائهم (والرّاشدة منها على وجه الخصوص، وفي ذلك إقرار بوجود نقيض لها، هو الخلافة الباغية أو الملك العضوض الّذي دشنه الصّحابي الجليل معاوية بن أبي سفيان، واستعمل في سبيل تشييد صرحه كل الوسائل المتاحة، بما في ذلك سفك الدّماء، وانتهاك الحرمات، ومخالفة التّعاليم الرّبّانيّة، وهي أمور مقرّرة في المظانّ بإمكانهم التّثبّت منها إن كانوا يجهلونها أو تلقينها من يجهلها من شيعتهم إذا كانوا بها عالمين) والشّورى وأهل الحلّ والعقد والزّكاة والحسبة، كلّها قوانين أزليّة بزعمهم، يتعيّن على أمّة المؤمنين الالتزام بها حتّى قيام السّاعة، وإلا عرّضوا أنفسهم للخسران والبوار في الدّنيا والآخرة؟
فلماذا يتحرّج الإسلامسياسيّون من هذه المفردات الّتي تعبّر خير تعبير عن هويّتهم ويجنحون إلى مفردات الحداثة العلمانيّة الخبيثة ليبرهنوا عن حسن نواياهم إزاء فرقائهم والتزامهم بمبادئ العدل والصّلاح، فهم لذلك يتشدّقون في تصريحاتهم بمصطلحات فضفاضة من جنس « الشّعب » (ممثّلا في منتخبيهم هم دون غيرهم)، وصناديق الاقتراع، والشّرعية الدّستوريّة، والثّورة الّتي نصّبوا أنفسهم قيّمين عليها وحماة لها وادّعوا لهم في إنجازها الدّور الأكبر، والأغلبيّة؟ ألا يقوم هذا التّذبذب بين مرجعيتين ومعجمين متناقضين إلى حدّ التّعارض دليلا على أن الجماعة لا تؤمن بكليهما وأنها تكتفي باستعمالهما وفقا للظّروف والمصالح الطّارئة، باعتبار أنّ الهدف الأسمى والغاية الّتي ما بعدها غاية يتمثّلان في الإمساك بمقاليد الحكم، وأنّ الطّريقة لبلوغ هذا الهدف ليست مهمّة في حدّ ذاتها؟
وبقيت أسئلة على غاية من الأهمية، نوجهها إلى رأس الفرقة النّاجية رضي الله عنه، قائد سفينة النّجاة التي ستحمل الأمّة إلى برّ الأمان، تعليقا منّا على ما كان صرّح به مرارا وتكرارا، وخطّه بيمينه المباركة في بعض مصنّفاته القيّمة، من أن طموح حركته يتمثّل في اعتماد الإسلام منهجا دون القطع مع مقتضيات الحداثة. سؤالنا إليه إذن هو التّالي: ما مدى مشروعيّة هذا الزّواج المبارك بين دين سماويّ ومنظومة قيم وضعيّة مشهود لها بالمروق والزّيغ، إذا صحّ أنّه ممكن؟ ألا تتعارض هذه الزّيجة الهجينة مع مبادئ التّوحيد الّتي ينادي بها سماحته، خاصة وأن « الخطيبة » (أي الحداثة، الّتي يفترض أنّها قضت نحبها وقبرت، فهل تكون بعثت قبل الميعاد لتزفّ إليه، هو المنتصر الجديد تكريسا لمجده التّليد؟)، بشهادة الشّيخ-الأستاذ نفسه، علمانيّة العقيدة والمنحى، ولا يجوز شرعا أن ينكح المؤمن مشركة، فكيف يجوز له أن ينكح ملحدة لا تستنكف من التّصريح بكفرها على الملإ؟
ولو غضضنا النّظر عن هذه التجاوزات، وافترضنا جدلا ألاّ وجود لما يمنع هذا التّقارب الميمون، فلا مفرّ من التّساؤل عندئذ عمّا يدعو بديلا سماويّ المصدر كبديل سماحته، متكاملا ومكتفيا بذاته – هو البديل الإسلامسياسيّ – على التّزوج بمنظومة إنسانيّة وضعيّة يأتيها الباطل من كلّ اتجاه؟ من سيرمّم شعث من في هذا اللّقاء العجيب المناقض لقوانين الطّبيعة بقدر تناقض المعجزة مع التّجربة المخبريّة؟ وإذا كان هذا التّصاهر أمرا ضروريّا على علاّته لأنّ فيه صلاح الدّنيا والآخرة، فمن المستفيد منه أوّلا وأخرا؟ ولو صحّ ما يرددّه رأس الفرقة النّاجية من أنّ البديل الإسلاميّ صالح لكلّ زمان ومكان، وهو لهذا السّبب علاج ناجع لمشاكل الإنسانيّة قاطبة، فلماذا لم تعمد القوى الإمبرياليّة الغاشمة الّتي استهدفت ثرواتنا الماديّة، إلى حرماننا من ثروتنا المعنويّة هذه لتستأثر بها دوننا وتجرّدنا نهائيا من مقومات النّهوض والرقيّ؟
ماذا كان يمنع قوى الطّاغوت، بما أُثر عنها من براغماتيّة، من الاستفادة من البديل الإسلاميّ، وإدماجه في منظومتها الفكريّة والقيميّة، إذا كانت على يقين من جدوى هذا المزج السحريّ ونجاعته في فكّ الأزمات الاقتصاديّة النّاجمة عن العولمة؟ ألا يعني هذا كلّه أنّ هذه القوى المتنفّذة لم تفكر في هذه الإمكانيّة إطلاقا لأنّها مقتنعة تماما أنّ الحداثة، الّتي امتلكت ناصيتها، هي بديل متكامل مكتف بذاته، قائم بوظائفه على الوجه الأكمل؟ ونترك لرأس الفرقة النّاجية مهمّة استنتاج ما يتعيّن استنتاجه من هذه الفرضيّات والبداهات
ولو تجاوزنا كلّ هذه الإشكالات، وأخذنا الأمر على عواهنه، فقبلنا عن رأس الفرقة النّاجية فرضيّته هذه على أنّها فرضيّة فلسفيّة لا تخضع لمبدإ التّناقض باعتبارها من طبيعة ربّانيّة فوقيّة متعالية، فلا بدّ لنا إذن من سؤال أخير نوجّهه إليه، هو التّالي، وهو جماع الأسئلة السّابقة كلّها: كيف بإمكان سماحته المزاوجة بين المطلق ممثّلا في الإسلام وبين النّسبيّ ممثّلا في الحداثة؟ أليس في إقحام المطلق في النّسبيّ ابتذال وامتهان له، وزجّ به في متاهات مشاكل وقضايا هو ليس مخوّلا للإجابة عنها، بدليل أنّه لم يجب عنها فعلا منذ خمسة عشر قرنا خلت، أحكم المطلق فيها قبضته على كلّ شيء في حياة الأمّة؟
أليس من المغالطة القول بأن البديل الإسلامسياسيّ هو الحلّ لأنّه لم يجرَّب، والحال أنّه جُرِّب لقرون طوال فلم يأت بطائل؟ إنّ الحكمة تقتضي اليوم أن نحفظ للدّين – وهو إرث رمزيّ جماعي لا حقّ لأحد في الاستئثار به دون الآخرين، ويمارس السّياسة باسمه فيفسدهما معا – مكانته الرّوحيّة السّامية بدلا من تحويله إلى وسيلة دعائيّة رخيصة، وسبب من أسباب التّحريض على العنف والكراهيّة والعنصريّة، وسلاح فتّاك لمستعمليه وضحاياه على حدّ السّواء؟

فرج الحوار