اتّبع عقلك، فالعقل نبيّ (15) : وَهْمُ الإعجاز العلميّ

هذه الآيات (الّتي يُستشهد بها عادة على الإعجاز العلمي في القرآن فيما يتعلّق بـ « علم » الأجنّة)، لو شاء سوء حظّ طالب، في كلّيّة طبّ، وكتبها في ورقة امتحانه، لما سقط في الامتحان وحسب، بل ولطرد منها. الإنسان علميّا لم يخلق من طين. « خلق آدم من أديم الأرض، من صلصال، هي أسطورة سومريّة ترجمها حزيقال في « سفر التّكوين »، وعنه أخذها القرآن. تسلسل خلق الجنين نطفة، ثمّ علقة، ثمّ مضغة، رواية خياليّة لا علاقة لها بأطوار تكوّن الجنين
العفيف الأخضر، إصلاح الإسلام، ص: 114

– 342 –

الإسلام ليس مطالبا، خلافا لما يذهب إليه بعض أتباعه، أن يكون ندّا للعلم لأنّ الإعجاز الحقيقيّ للدّين لا يكمن في توافقه مع الفيزياء والرّياضيّات وعلم الفلك وعلم الجيولوجيا، أو تعارضه معها، بل يكمن في تحقيق التّقوى الّتي عرّفها الرّسول في قوله « المسلم من سلم النّاس (بعض أطياف الإسلام السّياسيّ يستبدلون لفظة « النّاس » بلفظة « المسلمين ») من يده ولسانه

– 343 –

يخطئ أتباع الإسلام السّياسيّ عندما يتوهّمون أنّ « أعداء الإسلام » (الذّين خلقهم ضيق صدورهم وعبادتهم المرضيّة للأسلاف و »آثارهم ») يسيئون إلى الإسلام عندما يبطلون مقولة « الإعجاز العلميّ » في حقّه. والحقيقة، الّتي لا مراء فيها، أنّ الأذى الذّي يلحق الإسلام وأهله يكمن في المزاعم « العلميّة » الّتي توازي بين المطلق والنّسبيّ. ومن الظّلم أن يقاس المطلق الدّينيّ بالنّسبيّ العلميّ

– 344 –

إذا كانت الغاية الأساسيّة للإسلام، كما حدّدها الرّسول نفسه، هي « إتمام مكارم الأخلاق »، فيصبح من المنطقيّ عندئذ إدارج الإعجاز العلميّ ضمن « مكارم الأخلاق »، واستثناء الرّياء والتّهريج والتّطاول على النّاس وامتهانهم والتّقليل من شأنهم بدعوى أنّهم مختلفين عن « المؤمنين »، من صلب « مكارم الأخلاق »، بل هي جوهرها المصفّى
هل من مكارم الأخلاق أن تبتذل طقوس العبادة إلى حدّ أن تتحوّل إلى « كرنفالات » سياسيّة استفزازيّة، وتهاجر بسبب ذلك من الفضاء، الّذي أقيم لينادى فيه باسم الله (ولا شيء غير اسم الرّحمان الرّحيم)، إلى فضاء الشّارع، فضاء القذارة والرّجس والأهواء المنفلتة من عقالها؟

– 345 –

بلغ الإسفاف بأحد رافعي الإسلام السّياسيّ، من أدعياء التّقوى والعلم معا الّذين سطع نجمهم بعد « ثورة الرّبيع العربيّ الياسمينيّة »، إلى حدّ أن أكّد لمريديه المنبهرين « بعلمه » أنّ العلم أثبت، بما لا يدع مجالا للشكّ، أنّ تعدّد الزّوجات هو الدّواء النّاجع ضدّ سرطان الرّحم، وأنّ على النّساء الرّاغبات في العافية، أن تلتزمن بـ  : شرع الله
والغريب في الأمر أن لا أحد من « حماة الإسلام » المزعومين، من فرسان السّاحة السّياسيّة اللاّئذين براية الإسلام السّياسيّ والفرقة النّاجية النّاطقة بلسانه، اعترض على هذا التّجديف، أو آخذ هذا « الكاراكوز » على جرأته على دين الله، أو طالب بحماية حياض الدّين من هؤلاء المندسّين الّذين يسيئون إليه وهم يظنّون أنّهم يرفعون من شأنه

– 346 –

تبجيل الدّين يتمّ باستبعاده نهائيّا عن مجال الأهواء والأخذ والرّد والاختلافات الّتي تنجم عادة بين البشر. وليتحقّق ذلك يتعيّن النّأي بالإسلام عن ذهنيّة المواجهة – بل والمبارزة أحيانا – الّتي تحكم السّاحة السّياسيّة في تونس وفي غيرها من بلدان المعمورة. والقائلون بنظريّة « الإعجاز العلميّ » إنّما يصدرون عن هذه الذّهنيّة الصّداميّة، فيتحوّل الإسلام بفعل هذا الخلط العجيب، من إرث رمزيّ عامّ إلى مجرّد حزب سياسيّ، يخطئ ويصيب كغيره من الأحزاب

– 347 –

منتهى الجور هو أن يتعلّل الإسلام السّياسيّ بالعلم – أو يتعلّل به أتباعه على الأرجح – لتبرير مراسمه وتعاليمه التّعبّديّة، وخرافاته وأساطيره المؤسّسة الّتي يشترك في جزء كبير منها مع اليهوديّة والمسيحيّة. وأشدّ درجات البؤس هو أن يتحوّل « العلم » في أفواه عشّاق الغيب ومدمنيه إلى إعجاز سماويّ متوار بين سطور الكتاب، لا يكشف عن وجهه إلاّ إذا اضطرّه إلى ذلك المنقطعون إلى البحث في مخابر الشّرك الصّليبيّ الصّهيونيّ ومعامله. أمّا المنقطعون إلى العبادة في المساجد، فهم عن البحث أبد الدّهر مكفوفي الأبصار، ممسكين عن التّفكير، سمّروا رؤوسهم في تراب المعابد امتثالا لأوامر أئمّتهم وشيوخهم الّذي ألهموهم أنّ أفضل الأعمال عند الله الصّلاة
ولو سأل سائل عن ماهية هذا « الإعجاز » العجيب، لقيل له بكلّ بساطة إنّه الدّليل القاطع على أنّ العلم للّه يؤتيه من يشاء، وقد أكرم اللّه به رسوله الأمّيّ، إكراما منه لخير أمّة أخرجت للنّاس. فإن كابر السّائل واستفسر عمّا حدا بالله أن يغدق علمه على من لا يدرك له كنها في ذلك الزّمان، حرد المسؤول والتهبت عيناه حنقا، وارتعشت أوداجه غيرة، وتهدّج صوته استنكارا واستهجانا، واتّهم السّائل العنيد أنّه من إخوان الشّياطين. فلا يسع السّائل عندئذ إلاّ الصّمت، أو المجازفة برأسه. وهو سيفضّل بالفعل العافية على المغامرة، ولكنّه لن يتراجع عن إغواء السّؤال، وسيستمرّ مجادلا المحال في نفسه، يقول لها: « ما معنى أن يمنحني إلهي دبّابة وراجمة لا تردّان عنّي وخزة إبرة؟ أليس هذا هو حال هذا الإعجاز الّذي تزخر به متون المسلمين الدّينيّة، لم يجنون منه حتّى ثمن الأحجار الّتي أقيمت بها المراكز التّي تزعم أنّها تتدبّره اليوم بالدّرس؟ إن كان ثمّة من ضرورة للحديث عن الإعجاز، ألا يفترض المنطق أن يُنقّب عنه في منابع الذّهب الأسود وليس في محاريب المعابد؟ فالذّهب الأسود هو من أمدّ المصابين بعصاب الإعجاز العلميّ بالإمكانيّات المادّيّة الهائلة لممارسة هذا الضّرب العجيب من الغباء العلميّ. كيف لم يطرأ على بال أحد من هؤلاء المهووسين بهذه الإنجازات الهائلة أنّ إعجازهم العلميّ الكسيح القاصر كان سيظلّ مقبورا في مطاوي مناجم الكلم المقدّس لو لم ينشط علماء الغرب – الّذين لا يؤمنون بالإعجاز (ولو كانوا به مؤمنين، لكانوا التحقوا بالكسالى المتواكلين في مراكع خمولهم وهوانهم) – للبحث والتّنقيب في الكون (وليس في الكتاب) ليفكّوا فيه مغاليق أسراره
وغاية ما في الأمر، يقول رهين المحبسين، أنّ المكر يضع « الحقّ » (يحلو له أحيانا أن يحلّيه باسم « العلم »، يزعم أنّه مرادف « للإيمان »، نور تقذفة المشيئة في صدور دون أخرى، فليست كلّ الصّدور جديرة بأن تكون أوعية علم الأوّلين والآخرين) حيث يريده هواه، لا حيث يضعه المنطق 

إِنَّمَا نَحْنُ فِي ضَلاَلٍ وَتَعْلِيلٍ

فَإِنْ كُنْتَ ذَا يَقِينٍ فَهَاتِهْ

رُئِّسَ نَاسٌ بِالدَّهَاءِ، فَمَا يَنْفَكُّ

جِيلٌ يَنْقَادُ طَوْعَ دُهَاتِهْ

– 348 –

يخطئ المشغوفون بالإعجاز العلميّ في الكتاب والسّنّة عندما يجهدون أنفسهم في استنباط الأدلّة الدّامغة على التّوافق التّامّ بين العلم والإسلام، متناسين أنّ أتباع الدّيانات الأخرى ينسبون لأديانهم – « المحرّفة » في نظر المسلمين – نفس الفضائل العلميّة المعجزة. ويكمن الخطأ في خلطهم السّاذج بين ظاهرتين متعارضتين تستحيل مقارنتهما لأسباب بديهيّة، لا يمكن أن تغيب إلاّ على المهووسين بالغيب وخوارقه الباهرة. ففي نظر هؤلاء الممخرقين، دون غيرهم من البشر، يستوي الحصان والجنّيّ، والملاك والبراق، والبساط الطّائر والطّائرة، والمارد العابر للقارّات والمركبات الفضائيّة العابرة للمجرّات
وحقيقة الأمر أنّ الفروض الدّينيّة لا تقوم على مبدأ المصلحة أو الفائدة. فالمؤمن الحقّ لا يجب أن يتوقّع ثمنا لامتثاله لأوامر خالقه ونواهيه، بل إنّ عليه، على العكس من ذلك، أن يرضخ لهذه الإلزامات والإكراهات بدافع الخوف، ولو أدّى به الأمر، في سبيل ذلك، إلى التّضحية براحته وصحّته وماله. والمتأمّل في جوهر الفروض الدّينيّة لا بدّ له من أن يتبيّن أنّ الإيمان الدّينيّ يقتضي التّضحية أحيانا ببضعة من البدن أو بنصيب من الرّاحة، كما هو الحال في الختان والصّلاة، أو ببعض المال كما يتبيّن ذلك في الحجّ خاصّة، أو بالمال أو الولد معا كما يستشفّ ذلك في النّحر والختان، فلا فرق هنا بين الولد والحيوان
والتّضحية خسارة أو لا تكون، وهي غالبا ما تكون فادحة، وغير قابلة للتّعويض، والشّرط الأساسيّ فيها أن تكون بدون مقابل. فالإله يأمر ليطاع، ولا يخلّ وجود فائدة افتراضيّة اعتباريّة مؤجّلة (رضا الإله وبركته وسطوته ودولته الخليفيّة أو السّلطانيّة ودعمه راهنا، والجنّة ونعيمها وحور عينها وولدانها، وسمنها وعسلها وكوثرها وراحها معادا) من جوهر هذه العلاقة العموديّة، خاصّة إذا ما تذكّرنا أنّ « الثواب » (وهو الاسم الاصطلاحي للفائدة في مجال الاستثمار الدّينيّ) ليس نتيجة آليّة للأعمال الصّالحات (وهو الاسم الاصطلاحي لرأس المال المستثمر في البورصة الدّينيّة أو في دنيا الأعمال فيه) لأنّ الثّواب، كما تنصّ على ذلك الأدبيّات الدّينيّة عامّة، يظلّ رهن الإرادة الإلهيّة، أي أنّه ليس خاضعا لمنطق المقايضة أو المعاملة التّجاريّة القائمة، في المجال الإنسانيّ، على مبدأي الرّبح والخسارة
الإيمان السّاذج، الّذي يقرن العقيدة الدّينيّة بمبدأ الكسب والفائدة، لا يختلف جوهريّا عن الطّمع، بل والجشع أحيانا، ذلك الّذي يحوّل الإله إلى ربّ مؤسّسة بنكيّة تتعامل بمبدأ « القرض الحسن » الّذي يثيب على « الحسنة » بعشرة أمثالها. إنّ هذا التّصوّر للإيمان الدّينيّ، القائم على مبدأ المرابحة (وهو نقيض الفائدة الرّبويّة في نظر المتأسلمين وهلوساتهم الاقتصادويّة)، يتضارب مع فكرة أنّ اللّه كائن متعال مكتف بذاته، وإلاّ لما كان احتاج أن يعبد، ولما أثاب من عبده وعاقب من امتنع من عباده على الانصياع له. لكأنّ اللّه لا يمكنه أن يوجد، ويتحقّق وجوده، إلاّ إذا عبد، فإن لم يعبد زال وانتفى. فمن ترى من اللّه (في المنظور الإسلامسياسيّ) أو من الإنسان أشدّ حاجة إلى صاحبه؟
يتّضح ممّا تقدّم ألاّ معنى للصّوم والحجّ والصّلاة خارج إطار التّضحية، أي خارج بذل الرّاحة والمال والنّفس لغير ما هدف إلاّ البذل نفسه. ومبدأ البذل هذا هو الّذي تقوم عليه عمليّات السّذّج من الجهاديّين الانتحاريّين. ولا معنى هنا للحديث عن توافق بين الفرائض الدّينيّة والمكتشفات العلميّة، خاصّة وأنّ هذه العلاقة المفترضة، الّتي يراد لها أن تكون عضويّة والّتي يتحوّل بموجبها الإله إلى عالم العلماء بامتياز، ليست بديهيّة في كلّ الحالات. فلو سلّمنا جدلا أنّ للصّيام فوائد صحّيّة أقرّها العلم الحديث، فإنّه من المتعذّر جدّا افتراض الشّيء نفسه في ما يخصّ الصّلاة والزّكاة والدّعاء والاستخارة والحجّ
يقدّم أنصار الإعجاز العلميّ الإسلاميّ (لتمييزه عن نظرائه في اليهوديّة والمسيحيّة، وحتّى في البوذيّة) كتابهم المقدّس باعتباره موسوعة علميّة متخصّصة، ولكنّها تتميّز عن مثيلاتها من الموسوعات الوضعيّة بكونها تحتوي على المتن العلميّ كلّه، ما ظهر منه إلى الوجود في المعامل والمختبرات الغربيّة، وما زال منه طيّ الغيب، وقد يماط عنه اللّثام يوما في نفس هذه المعامل والمختبرات المشركة. ذلك لأنّ مهمّة أنصار الإعجاز العلميّ الإسلاميّ تتمثّل بالتّحديد في البرهنة على ألاّ جديد تحت الشّمس اليوم، ولن يكون جديد تحتها في مستقبل الأيّام، ولن تتمخّض عن جديد على وجه الدّهر لأنّ حقائق هذا الكون وأسراره أفرغت بالكامل بين دفّتي المصحف منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرنا
لا ينقص من قيمة هذا الاكتشاف العلميّ المذهل ما نلاحظه من تردّي مستوى البحث العلميّ في البلدان الإسلاميّة عامّة، والعربيّة منها خاصّة. والسّبب في ذلك أنّ هذه البلدان تمتاز عن نظرائها في بقيّة المعمورة بكونها تملك معمل المعامل ومخبر المختبرات ممثّلا في كتابها المقدّس، بعد أن ثبت بالدّليل القاطع أنّه معين لكلّ العلوم الرّاهنة والآتية. وممّا يزيد هذه الحقيقة قوّة وثباتا، في نظر أصحابها من الإسلاميّين على الأقلّ، أنّ الدّليل على صحّتها أقامه أعداء الكتاب المبين من علماء الغرب ومفكّريه وفلاسفته وجغرافيّيه، وغيرهم من أساطين العلوم الصّحيحة والإنسانيّة في تلك الرّبوع النّائية
يكفي العالم العربيّ الإسلاميّ فخرا أنّه اكتشف الإعجاز العلميّ. وفي هذا الاكتشاف المذهل بالذّات تتمثّل مساهمته الفعّالة في تنمية الحضارة الإنسانيّة. وما على الأمم الأخرى إلاّ أن تضطلع بالأمور الإجرائيّة التّفصيليّة في المخابر والمعامل الّتي أقاموها خصّيصا للبرهنة على حصافة الفكر الإعجازيّ الإسلاميّ وبعد نظره. ألم يبيّن علماء الأمّة وجهابذتها وحفّاظها أنّ اللّه سخّر علماء المعمورة من المشركين والوثنيّين وأهل الكتاب لخدمتنا حتّى يتسنّى لنا التّفرّغ كلّيّا للعبادة؟ ألا يدلّ ذلك على أنّ الإعجاز العلميّ هو الأصل، وأنّ البحث العلميّ المخبريّ فرع وضيع ما كان ليتيسّر وينجز لولا هذا الأصل المبارك؟
فليبارك اللّه للإسلام السّياسيّ في إعجازه العلميّ الّذي بيّن له، بما لا يمكن ردّه من القرائن الشّرعيّة الدّامغة، أنّ الجوع الاضطراريّ المقنّن هو سبيل الصّائم إلى الصّحّة والعافية والحيويّة الدّافقة، وهو سبيله إلى النّشاط والفعل وتسلّق مدارج السّماء باتّجاه سدرة المنتهى والعرش وما وراءه، وهو سبيله إلى العمل الصّالح الّذي سينهض بالاقتصاد الوطنيّ، ويضع الأساس القويّ للحضارة الرّوحيّة العالميّة الّتي لا خلاص للكون بدونها. ألا يعني هذا في النّهاية أنّ القوّة الحقيقيّة، الّتي تبني الحضارات، لا تكمن في قوّة الأجساد والعقول، بل تكمن بدون ريب في قوّة الإيمان ونوازعه المدمّرة؟

– 349 –

سائق التّاكسي الّتي أقلّتني من سوسة باتّجاه حمّام سوسة كان يستمع إلى برنامج من برامج إحدى الإذاعات القرآنيّة الّتي لم تزل تتكاثر كالأرانب منذ غلب المسجد الدّولة على أمرها، وابتزّها الجزء الأكبر من صلاحيّاتها، وما زال يطمع بالمزيد. وكيف لا يطمع بالمزيد من همّه الدّنيا وما فيها، ومن بعدها الآخرة وما يليها؟ وكيف لا يطمع المسجد المحكتفتيشيّ بالمزيد وهو على يقين أنّه أجدر من الدّولة في إدارة الشّأن العامّ والخاصّ معا؟
صوت المنشّط ينضح تصنّعا وافتعالا، انخرط طوال الرّحلة، الّتي استغرقت حوالي ربع ساعة، في تفسير حديث نبويّ (أغفل، رحمة بعقول مستمعيه القاصرة، أن يبيّن حكم أهل الحديث فيه، وهو ما يفيد ضمنيّا أنّه متأكّد مائة في المائة من سلامته من كلّ العلل) عن فضل اليد العليا على اليد السّفلى (ردّد فيه عبارة « × » ما يربو عن مائتي مرّة، بطريقة مقزّزة من فرط ما داخلها من تصنّع وافتعال)، محاولا بكلّ ما أوتي من ألاعيب البلاغة وحذلقاتها الغبيّة السّمجة أن يبرهن لإخوانه من المؤمنين عمق هذه الحقيقة الاقتصاديّة الفذّة. ماذا ترى كان حدث في البلدان الإسلاميّة لو أغفل رجال الحديث، لسبب من الأسباب، إيراد هذا القول – النّبويّ بزعمهم بشهادة الرّجال الذّين تزخر بسيرهم وأخبارهم كتب الجرح والتّعديل، وغيرهم من العلماء الأثبات الثّقاة – في متون صحاحهم ومسانيدهم ومصنّفاتهم ومعاجمهم وجوامعهم وغيرها من الدّواوين الحديثيّة
ما يستشفّ من تحاليل المنشّط المتحذلق أنّ المسلمين كانوا سيحرمون، لولا هذا السّبق « الاقتصاديّ » العبقريّ، من لذّة إدراك قيمة العمل، وكانوا سيركنون حتما إلى التّواكل والخمول والكسل. إنّ المتأمّل لأحوال المسلمين الرّاهنة لا يمكن إلاّ أن يحمد اللّه على هذه النّعمة السّابغة، فلولا حديث اليد العليا وفضلها على اليد السّفلى لما وجد في المسلمين مؤمن بقيمة العمل، باستثناء الأعمال التّعبّديّة اليوميّة ونوافلها الرّمضانيّة، ولكان العالم العربيّ الإسلاميّ – لا قدّر اللّه – انقرض منذ زمن طويل. ونسي المنشّط الألعبان أن ينبّه مستمعيه أنّ هذا القانون « الاقتصاديّ » الرّائع، الّذي استلّه من متون السّنّة المطهّرة، لا يدين اليد السّفلى، وإن أقرّ بدونيّتها. والسّرّ في ذلك أنّ اليد العليا، لتكون هي الأعلى فعلا ودائما، لا بدّ لها من يد سفلى. إنّ اليدين معا جزء لا يتجزّأ من منظومة اقتصاد الزّكاة الّذي يفترض ضرورة وجود الفقراء والمساكين والمعدمين، أي جيشا عرمرما من الأيادي السّفلى، ممدودة على الدّوام لأصحاب الأيادي العليا لتلقّي ما يجودون به عليها من فتات الصّدقات. ومن الأيادي العليا (الّتي لم يشر إليها المنشّط) من لا تمدّ الأيادي السّفلى، من عامّة المؤمنين ورعاعهم، بالخبز والإدام، بل تمدّها « بالعلم » والهدى والتّقوى، وما شابه هذا من ثمار الاستقامة والورع
ذلك هو التّكافل الإسلامويّ في أروع تجلّيّاته، لا يختلف في جوهره عن « مطاعم القلب » – الّتي لا يموّلها « الخيّرون » من حكّام المسلمين وأثريائهم إلاّ منّا واحتيالا – ويموّلها الخيّرون من فنّاني أهل الكتاب خاصّة، ليسدّوا رمق المشرّدين والمعذّبين في الأرض. يضاف إليها الدّروس المسجديّة الّتي تعقدها الأيادي العليا إثر كلّ صلاة لتجرّع الأيادي السّفلى فيضا من كوثر عرفانهم الأثير، فتحدث المعجزة في الإبّان، وتأخذ الحماسة بعض هذه الأيادي السّفلى – ومن هذه الأيادي السّفلى من اتّخذ له شكل الفروج (السّفلى هي الأخرى) – فتقودها في يوم وليلة إلى جبهات الجهاد
غير أنّ الأمثولة الصّينيّة القديمة أعمق معنى من حديث اليد السّفلى هذا لأنّها تمكّن الفقير المعدم من صنّارة يخرج بها قوت يومه بنفسه من البحر، ولم تكتف باليد العليا الّتي تتصدّق عليه، من وقت لآخر، بسمكة لا تقيه غائلة الفاقة وهوان السّؤال، وإن عصمته من أهوال الجوع في يومه. هذا هو الفرق بين اقتصاد الزّكاة، القائم على امتهان كرامة البشر وهدر إنسانيّته والزّجّ به في أتّون الحروب الّتي لا وطن له فيها ولا قضيّة، واقتصاد المبادرة القائم على إحكام التّصرّف في وسائل الإنتاج. وبين هذين الاقتصادين مسافة ما بين الأرض والقمر، بل ما بين الخرافة والحقيقة، أي ما بين الحياة والموت

– 350 –

الإعجاز الوحيد الذّي تمخّضت عنه عبقريّة الإسلام السّياسيّ هي « إعجاز السّير القهقرى » قدما نحو المدن الفاضلة الغابرة. لهذا السّبب تجهد الفرقة النّاجية نفسها في خداع التّونسيّين لإيهام السّذّج منهم أنّ لها برنامج متكامل لحكم البلاد وإسعاد العباد، كانت جنّدت أخصّائيها، في شتّى العلوم الشّرعيّة، لإنجازه، ونشرت أجزاء منه في حملاتها السّابقة، وخطب به خطباؤها على منابر شعبها المسجديّة، وهي كثيرة ولله الحمد والمنّة، فأعلنوا أنّ « حركتهم » ستحدث مئات الآلاف (أربعمائة أو خمسمائة) من مواطن الشّغل في ظرف قياسيّ، لن يتجاوز السّنة، وقد يقضون على البطالة القضاء المبرم خلال سنتين. وتبسّط الخطباء في عرض نماذج أخرى من الإنجازات المعجزيّة (نسبة إلى المعجزات) الّتي سيحقّقونها للبلاد خلال ولايتهم السّعيدة
فماذا كانت النّتيجة؟ لسنا في حاجة إلى الإجابة عن هذا السّؤال لأنّ التّونسيّين كلّهم عاينوا بأمّ أعينهم هذه « المعجزات » الّتي تمخّضت عنها عبقريّة الإسلام السّياسيّ في الذّود عن المقدّسات، وإرساء مراسم الحياء والعفّة في الشّوارع والإدارات والجامعات والمستشفيات، وغيرها من المرافق العامّة، وقمع نوازع التّسيّب التّقوويّ خلال شهر رمضان المعظّم، وزرع أساسيّات التّربيّة القويمة، المتلائمة مع الفطرة الإسلاميّة السّليمة، في روضات الأطفال والمدارس الابتدائيّة والثّانويّة، وحتّى في المؤسّسات الجامعيّة. هذا، فضلا عمّا أبدته الفرقة النّاجية من حزم وصرامة في لجم « الأزلام » وسدّ الطّريق أمامهم للالتفاف على الثّورة، وهو ما دعاها إلى بعث « لجان حماية الثّورة » ورعايتها والاستبسال في الدّفاع عنها ضدّ المطالبين بحلّها. يضاف إليها ما أبدته الفرقة النّاجية من جهد في حماية الفضيلة والأخلاق العامّة، وذلك بمنحها تراخيص قانونيّة للرّاغبين في بعث تنظيمات حسبويّة خاصّة، تتولّى مهامّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في مختلف أنحاء البلاد
ولو شئنا أن نخوض غمار الخيال السّياسيّ (قياسا على الخيال العلمي)، وأجهدنا أنفسنا في تصوّر فقرات برنامج الجمهوريّة الإسلامدستوريّة المرتقبة، على ضوء ما سجّله التّونسيّون في السّنوات الأخيرة من سلوكيّات الفرقة النّاجية، لحصلنا على مشروع لا يخرج في مجمله عن الإنجازات الّتي أشرنا إلى بعضها آنفا. ونحسب أنّ خيالنا سيقصّر في تمثّل عبقريّة الفرقة النّاجية، الّتي بهرت الكون بأسره، فلن نهتدي إلى محاور مهمّة من إصلاحاتها الشّرعيّة المرتقبة، ولكنّنا نرجّح أنّها لن تقلّ براعة عن سابقاتها في استخفافها بالعقل، وازدرائها للتّاريخ، وتهاونها في حقّ الإنسان التّونسيّ

– 351 –

المطالبة بالمساواة ونبذ التّمييز والعدل بين النّاس رجالا ونساء لا تسيء إلى الإسلام في شيء، ولا تبطل « شريعة الله » كما يزعم ليوث الإسلام السّياسيّ، الّذي جاؤونا من كلّ فجّ عميق، ليقيموا الصّلوت الشّارعيّة دفاعا عن ثوابت العقيدة المؤيّدة بالنّصوص الصّريحة. إن كانوا يؤمنون حقّا أنّ التّمييز والتّفرقة والظّلم من « مكارم الأخلاق » الّتي جعل منها الرّسول شعارا لدعوته (أو من الإعجاز الحقوقيّ الّذي امتاز به « إسلامهم » عن بقيّة الشّرائع)، فليستمرّوا في غيّهم، وليتركوا أمر الدّفاع عن الإسلام وحضارته لمن هم أحرص على مكارم الأخلاق منهم

– 352 –

المسلمون العاديّون لا يهمّهم من أمر « الإعجاز العلميّ » شيء، ولن يؤثّر في إيمانهم كون الإسلام لا يتوافق مع العلم في كثير من أحكامه وحقائقه. وهذا يعني أنّ مقولة « الإعجاز العلمي » هي من ابتكار الإسلام السّياسيّ الّذي أخذ على عاتقه أن يقيم الدّليل على أنّ الإسلام صالح لكلّ زمان ومكان، وذلك رغم المشاكل العويصة الّتي يتخط فيها الإسلام وأهله اليوم بسبب هذه « الصّلوحيّة » المزعومة، علما بأنّ هذه « الصّلوحيّة » لا تهمّ المبادئ العقديّة (وأهمّها الشّهادتان)، ولكنّها تهمّ الأحكام الإجرائيّة الّتي تحدّدها ظروف المكان والزّمان، وليست النّصوص القطعيّة. ومن أجل ذلك وضعت آليّة النّسخ الإسلاميّة الّتي استعملها الحكّام المسلمون الأوائل، وخاصّة منهم عمر بن الخطّاب. زد على ذلك أنّ : الدّين الموجود اليوم هو تراكم لتراث مملوء بالغثّ والسّمين. فضلا عن ذلك هناك مصطلحات مستحدثة، وتلال من الحشو، جعلت الدّين صعب مستعصب، لا طاقة لأحد على فهمه إلاّ نخبة النّخبة. الجبل الموجود من المعلومات المتراكمة قام بتضخيم فكرة الدّين، وأفرغها من محتواها، وحرّفها عن مسارها بقصد وبدون قصد 
يتبيّن من كلّ ذلك أنّ « الدّين (الإسلاميّ وغيره من أديان المعمورة) خطوط عريضة، وقواعد أخلاقيّة، وحوادث تاريخيّة، منها ما هو مطلق ونافع لكلّ زمان ومكان، ومنها ما هو نسبيّ يرتبط ارتباطا وثيقا بزمانه فقط » ، يتعيّن على علماء المسلمين اليوم أن يميّزوا فيها بين الغثّ والسّمين، لا أن يعتمدوها برمّتها، مدفوعين إلى ذلك بهاجس تقديس الأسلاف، علما أنّ تقديس الأسلاف طقس وثنيّ يتعارض مع مبدأ الوحدانيّة في الإسلام

– 353 –

القول بقطعيّة النّصوص هو حكم بالجمود فالموت على الإسلام، لأنّ الحياة في الحركة، ولا يمكن أن يكون صالحا لكلّ زمان ومكان من انعدمت فيه الحركة. ولو أمعن حرّاس المعابد، الحريصون على « نصوصهم » القطعيّة أكثر من حرصهم على مقاصد الله الكبرى، النّظر في تاريخ الإسلام لكانوا أدركوا أنّ هذا التّاريخ ليس تكرارا لعهود الإسلام الأولى، أو لبعض عهوده اللاّحقة، ولكانوا أدركوا حينئذ أنّ الإعجاز الإسلاميّ الحقيقيّ يكمن في حركيّته وليس في التزامه بحرفيّة نصوصه المؤسّسة، أو بالأحرى ببعض منها. والمنادون بضرورة الإصلاح الدّينيّ، من رجال الدّين ومن العلمانيّين على حدّ السّواء، هم الّذين أدكوا أنّ حياة الإسلام وإشعاعه يكمن في ثباته على الحركيّة، أي في خروجه على الثّوابت المتكلّسة، وهو المبدأ الّذي أقام عليه الرّسول دعوته. وهكذا يتّضح أنّ التّمسّك بقطعيّة النّصوص مناف لجوهر الإسلام، وهو بالتّالي إيذاء للإسلام وأهله لأنّه يغذّي الإسلامفوبيا ويزوّد أنصارها بالبراهين الّتي يحتاجونها لاتّهام الدّين الإسلاميّ ومؤسّسه بالإرهاب، وبالتّالي عن استحالة تلاؤمه مع قيم الدّيمقراطيّة والتّعدّد والاختلاف

– 354 –

لا يحتاج المؤمن إلى الإعجاز العلميّ ليكون مسلما صالحا. كلّ ما يحتاجه لتحقيق هذا الهدف هو التّقوى. أمّا من يقرن إيمانه بالإعجاز العلميّ، فهو يبحث في الحقيقة عمّا يؤكّد في نفسه إيمانه المهتزّ بالله. أن يكون الإعجاز العلميّ شرط الإيمان وعماده يعني أنّ هذا الإيمان يمكن أن يضعف أو يزول إذا ما نضب معين الإعجاز العلميّ في الدّين، وهو أمر وارد جدّا عندما يخلط المؤمن بين يقينه الغيبيّ (الّذي لا يحتاج إلى مبرّرات عقليّة) وبين متطلّبات عيشه الّتي ينجزها العلم في مختلف المجالات

– 355 –

كم يجب أن نكرّر أنّ المطالبة بإصلاح الإسلام لا تستهدف حياة الإسلام أو التّشكيك في رسالته الرّوحيّة والأخلاقيّة والعرفانيّة؟ كم يجب أن نكرّر أنّ الإصرار على سجن الإسلام في بوتقة الاجترار والتّقليد – بدعوى الالتزام بقطعيّة النّصوص وحرفيّتها – هو الخطر الذّي يتربّص بحياة الإسلام ممثّلا في أقصى اليمين الإسلاميّ. ويكمن هذا الخطر الدّاهم في الصّورة الدّمويّة الّتي يقدّمها الإسلام السّياسيّ الجهادي عن الإسلام ونبيّه وشريعته، والّتي أضحت اليوم في مقام « الفرجة »، تبثّها قنوات الدّعاية على العالمين بين الحين والآخر. الإسلام الدّمويّ هذا، الّذي يجد في داعش وغيرها من تنظيمات الصّحوة الإسلاميّة المزعومة، خير ممثّل له، يجيز لنفسه، باسم الله والنّبيّ، أن يذبح الأطفال، ويستعبد النّساء، ويحرق الخصوم، ويسفك الدّماء بدون رادع، وينتهك المحارم تحت ذريعة الجهاد، إلى غير ذلك من الفظائع والموبقات الّتي باتت معلومة للجميع
واهم من يظنّ إذن أنّ الإسلام يمكن أن ينتشر بهذا « الإعجاز الدّمويّ » البربريّ الذّي يستهدف كلّ النّاس، والمسلمين منهم بصورة خاصّة، أوّلا لأنّ « الإيمان حالة يدعمها الشّعور الدّاخليّ والتّأمّل أكثر ممّا يدعمها الاستدلال » العقليّ، أو العنف في شتّى مظاهره، وثانيا لأنّ هذا الأسلوب مخالف لتعاليم الإسلام الّذي لا يجيز الإكراه في الدّين. وعليه فإنّه يتعيّن اليوم سجن من يعو من النّاس : « إلى إلغاء الآخر باسم السّماء » أو الزّجّ بهم في : مستشفى الأمراض العقليّة

– 356 –

للدّين علومه الّتي « تحوي في طيّاتها تاريخا وأخلاقا وفلسفة، وأسلوب حياة، وتفسيرا للوجود. والإنسان قادر على تعقّلها وهضمها وتقييمها بالضّرورة، لأنّها وجدت لأجله ولأنّها معدّة أصلا لكي تعقل وليس كي تطبّق تطبيقا أعمى. وإذا طبّقت دون فهم ودون وعي، فهذا يعني أنّها ولدت ميّتة ». هذا فضلا عن أنّ هذه العلوم ضروريّة لمن يشتغل في حقل العلوم الإنسانيّة، وخاصّة علمي الأديان المقارنة والأنتروبولوجيا. و »لكنّ هذه العلوم الدّينيّة لا يمكن أن تقفز على علوم أخرى، ومن الظّلم [محاولة] دحض العلم المثبت بالفكر الدّيني »، باسم الإعجاز العلميّ، : فهذا ظلم للعلم والدّين معا
والمطلوب اليوم هو أن يدحض « رجال الدّين التّراث الّذي ينافي العلم المثبت »، وخاصّة منهم أولئك « الّذين يصرخون ليلا نهارا أن الدّين لا يناقض العلم ». فبدلا من أن يربطوا تلك الآية بهذه النّظريّة ويدّعون أنّهم اكتشفوها قبل الغرب بأكثر من ألف عام، لينظّفوا التّراث من التّفاسير والرّوايات الّتي تناقض العلم المثبت لو كانوا حقّا يؤمنون أنّ الدّين لا يناقض العلم المثبت » . فما نحن في أشدّ الحاجة إليه اليوم هو « بناء نسخة جديدة من الفكر الدّينيّ على ركام التّراث القديم، والفهم القديم للنّصّ المقدّس، تتوافق مع الواقع، وقابلة للتّطوّر والتّأقلم مع المتغيّرات. وهذا ما يحدث فعلا، فالنّسخة القديمة تحرق نفسها بنفسها، وجاري التّحديث للنّسخة الحديثة (كذا) الأكثر توافقا مع الواقع، والأكثر مواءمة للفطرة الإنسانيّة، وواقع البشريّة المتغيّر والمتطوّر. خامة النّسخة الحديثة وقاعدتها هم هؤلاء الذّين يرفضون العنف والقتل باسم الدّين، ويبرّؤون ساحة الدّين منه. ورسّامو هذه النّسخة ونحّاتوها هم روّاد الحداثة والتّجديد في عصرنا، وهم كثر » ، وينتمون بالضّرورة إلى مشارب مختلفة

– 357 –

ثمّة فرق بين الإيمان الدّينيّ والحقيقة العلميّة. أمّا الإيمان فهو « قوّة دافعة نحو المعرفة والتّأمّل، وفي حال لم يكن كذلك – كما هو الأمر بالنّسبة للإسلام السّياسيّ – فهو مجرّد معلومات موروثة لا قيمة لها ». والحقيقة أنّ « الإيمان حالة روحانيّة ورابطة وجدانيّة بين الإنسان وكلّ ما هو غامض في العالم ». أمّا الحقيقة العلميّة فعمادها التّجربة ومجالها المخابر والمعامل ومراكز البحث والجامعات، فما على « من يدّعي أنّ الدّين يحوي كلّ النّظريّات العلميّة [أن] يتقدّم إذن وينافس جهابذة العلم في مختلف المجالات منافسة « قبليّة » وليس ‘بعديّة »، أي أن يأتي بالفكرة قبل أن تكتشف، وليس [أن] يربطها بعد أن تكتشف بنصوص دينيّة، ويدّعي أنّها تدلّ عليها. فليأت بنظريّة جديدة أو اكتشاف جديد ويدلّ النّاس عليه، ويثبت كلامه بأدلّة، وسيخرس بذلك كلّ الألسن

– 358 –

لو كان ما يروّج عن « الإعجاز العلميّ » صحيحا لجاز عندئذ أنّ ينصّب « العلماء » المؤمنون به في الجامعات ومخابر البحث بدلا عن العلماء والباحثين المختصّين. وهذا مستحيل لأنّ « الإيمان عكس العلم. فالعلم يشترط الدّليل ليسمّى علما، ومفردة علم ترادف مفردة جهد. أمّا الإيمان فهو توقيع على بياض، [فأنا] أؤمن بوجود عالم آخر دون أراه، وهذا الإيمان لا يحتاج إلى جهد. ولو أردت أن أعامل الإيمان بقواعد العلم فسأنسف إيماني بأقلّ من دقيقة [لأنّ] الماء لا يختلط بالزّيت ».
والحقيقة أنّ « حشر الدّين في كلّ شيء هتك لحرمة الدّين ولحرمة العلم [لأنّ] مهمّة الإيمان [الأساسيّة هي] أن يجعلني أكثر قوّة وصلابة، ويجعلني أكثر بصيرة في محاولة تلمّس الحقيقة مهما كانت، ومن أيّ طريق كانت، [أي] الدّين أو العلم أو الفلسفة أو التّأمّل الفلسفيّ » ، وليس من مهمّته قطعا أن يجعلني مختصّا في علم الأجنّة أو في علم الجيولوجيا، أو غيرها من الاختصاصات العلميّة. وخلاصة العقل أنّ الله – وهو مدار الحديث هنا – : لا يعرف بالدّين، ولا ينفى بالعلم

– 359 –

رأيت منذ أشهر، في أحد المواقع السّلفيّة الوهّابيّة لتحميل الكتب الإلكترونيّة الإسلاميّة، إعلانا عن كتاب بعنوان « ترجمة القرآن الكريم بين الحظر والإباحة »، كان في الأصل رسالة ماجستير ثمّ أخرجته المطابع السّعوديّة الوهّابيّة إلى الأمّة الإسلاميّة في بزّة أنيقة جدّا، لينضمّ إلى سلسلة مصنّفاتها الكثيرة في هذا الغرض الخطير بالذّات. وبعد الاطّلاع عليه، والتّثبّت من طروحات أهل الحظر وأهل الإباحة، لم أتمالك من التّساؤل عن الدّاعي إلى حظر ترجمة كتاب بعينه، ولو كان القرآن الكريم، مستغربا من هذه الدّعوة الملحّة إلى الصّوم الأبديّ عن ترجمة آي الذّكر الحكيم رغم حاجة الإنسانيّة إليها في مختلف أنحاء المعمورة الغارقة في ظلمات الجاهليّة الجهلاء، على حدّ تعبير السّلفيّين الجهاديّين المنبثّين في كلّ الأنحاء؟
ما معنى أن يعتبر هؤلاء ترجمة الكتاب المبين أمرا محظورا، ويزعم آخرون أنّه، على العكس من ذلك، أمر مباح؟ إن كان ثمّة فعلا ما يعوق عمل المترجم في هذا الكتاب المقدّس، كما يزعم أنصار الحظر الأهلجماعيّين (نسبة إلى أهل السّنّة والجماعة)، فلماذا لم ير هذه العوائق البارزة أنصار الإباحة منهم؟ وما معنى ما ذهب إليه المتحذلقون منهم من أنّ ترجمة الفرقان، إن جازت، يجب أن تتعلّق بالمعنى دون المبنى؟ كيف يمكن الفصل، في الآي الحكيم، بين هذين المستويين الخطيرين؟ ألا يعني هذا الفصل المصطنع أنّ القرآن لا يفهم إلاّ إذا قرئ في لغته الأصليّة، وأنّه يفقد حتما، إذا ترجم، بضعة من سحره البلاغيّ والإعجازيّ المؤثّر، يرجّح أنّها مضمّنة في مبناه دون معناه؟
لو رضخ أهل الرّفض من عرب هذا الزّمان لداعي الحظر وصاموا عن ترجمة كتاب الله إلى كلّ اللّغات، ألا يحدّ ذلك من عالميّة الرّسالة الإسلاميّة ويحول دون اكتساحها للأصقاع الّتي لم تطأها سنابك خيل الفاتحين الأوائل، واستباحتها اليوم قنابل الجهاديّين وبنادقهم وشاحناتهم ومفرقعاتهم الآدميّة؟ فإن اتّضح فعلا أنّ حزب الحظر هذا على صواب، وأنّ القرآن يفقد شيئا من سرّ مبناه إذا انتقل من لغة الضّاد إلى غيرها من اللّغات، ألا يعني ذلك أنّ غير النّاطقين بالعربيّة من أعاجم المسلمين لم يدركوه على وجهه الحقيقيّ، ولذلك حادوا به عن قصده، كما هو الشّأن مع رافضة إيران والغلاة من الشّيعة في أكناف آسيا ومجاهلها؟
وبعد، ألا يعني هذا الاختلاف الحادّ حول مسألة ترجمة القرآن أنّ المسلمين من غير العرب لن يدركوا، مهما اجتهدوا في ذلك، جوهر الإعجاز الأسلوبيّ في القرآن ما ظلّوا جاهلين باللّغة العربيّة، وأنّ التّرجمات الّتي بين أيديهم لن تجديهم شيئا في إدراك لطائفه وأسراره؟ فإن ثبت، كما ذهب إلى ذلك أهل الحظر، أنّ القرآن لا فكاك له من العربيّة، أفلا يعني ذلك أيضا أنّ هذا الكتاب موجّه إلى العرب دون غيرهم من الأمم، لا يفضّ أختامه إلاّ الأقحاح منهم، وهو ما يفيد في النّهاية أنّ الإسلام دين محلّيّ في جوهره رغم ما حقّقه من انتشار؟
لو كان الأمر على غير ما ذهبنا إليه، هل كان أهل الرّفض من العرب استمرّوا في تبديد وقتهم وجهدهم في جدل لاهوتيّ، عن ماهية القرآن وأساليب بيانه وتأويله، لن يفضوا منه إلى ما يشفي الغليل لأنّه، على ما أثر عن أوّل خلفاء الإسلام، ليس في متناول عقول البشر. فالله أعلم من البشر بحقيقة ما قال، وهو أعلم منهم بما أراد، وهو أحرص منهم على كلامه من أن يبذله لكلّ من هبّ ودبّ، مفسّرين كانوا أو مترجمين، عربا أو أعاجم
ولكن يبدو أنّ فرسان هذا الجدل اللاّهوتيّ قد غفلوا عن حقيقة أنّ ما قالوه عن ترجمة القرآن يجوز في حقّ كلّ الكتب المترجمة، دينيّة كانت أو مدنيّة. وهم ينسون كذلك أنّ القرآن ترجم قديما، وما زال يترجم اليوم، وسيترجم لاحقا، لن يحول دون إقبال المترجمين عليه ما يتقاذفه أهل الحظر وأهل الإباحة الأشاوس في وجوه بعضهم البعض من غرائب الحجج وعجائب البراهين. وينسى هؤلاء أيضا أنّ القرآن ما كان لينتشر لو لم يترجم، وأنّه خرج بفضل التّرجمة من سجن لغته الأصليّة، واكتسب جنسيّات شتّى، لا فضل لواحدة منها على الأخرى، فكلّها تعبّر عن جوهره بطريقة تقرّبه من حملة تلك الجنسيّة
من بإمكانه اليوم، من العرب الّذين لم يقبلوا بعد بفكرة عالميّة النّصّ القرآنيّ، أن ينكر حقيقة أنّ القرآن لا حاجة به إلى العربيّة، بل إنّه لا يحتاج إلى لغة بعينها، فهو، أسوة بغيره من الكتب المقدّسة، ذات البعد العالميّ، قادر على اختراق كلّ الأنظمة اللّغويّة دون أن يفقده هذا التّرحال قدرته على التّأثير والانتشار. ألا يعني هذا أنّ قضيّة التّرجمة، ومسألة الصّوم عنها من عدمها، قضيّة زائفة من أساسها، وأنّ المطلوب اليوم هو أن يصوم العرب، والسّلفيّون منهم بصورة خاصّة، عن العنف المقدّس الّذي يمارسونه ضدّ العالم بأسره باسم كتاب ما زالوا يتوهّمون أنّهم الممسكون بناصية مبناه ومعناه، والمنقّبون عن أسراره وأحاجيه
متى يدرك هؤلاء ألاّ فضل لقرآنهم العربيّ على القرآن الإيرانيّ أو الأندونيسيّ أو الصّينيّ؟ فلو كان القرآن لا يحيا إلاّ في العربيّة وبها، لكان مات واندثر في كلّ الأصقاع الّتي حلّ فيها بمجرّد أن عادت إلى قواعدها جحافل العساكر والتّجّار الّتي دفعت به إلى هناك. صمد القرآن حيثما حلّ، ولم يحتج إلى اللّسان العربيّ ليبوح بأسراره لمن اعتنقه من شعوب أصقاع الإمبراطوريّة الإسلاميّة المترامية الأطراف وأممها، وتوارثه النّاس هناك كما توارثوه في غيرها من الأقطار، فهم كلّهم مسلمون بالوراثة أو بالثّقافة، ولكنّهم ليسوا من طينة السّلفيّين الجهاديّين الّذين يعتقدون أنّهم الوحيدون القادرون اليوم على استكناه معاني النّصّ القرآنيّ الخفيّة وتبليغها إلى النّاس كافّة. هؤلاء يحتكرون القرآن ليترجموه على هواهم، ويحجّرون على غيرهم ما أباحوه لأنفسهم
ولسائل أن يسأل، وهو محقّ في ذلك، إذا كان من قارئي القرآن في غير لغة الضّاد: ألا تخفي دعوة السّلفيّين العرب إلى الاكتفاء بترجمة معاني الكتاب دون مبناه، أو بالصّوم عن ترجمته كلّيّا، رغبة خفيّة في الاستئثار به، أو في الاكتفاء به عن غيره من كتب العالم، تفصح عنها بوضوح هلوساتهم الإعجازيّة الرّامية إلى اختزال التّاريخ، ماضيه وحاضره ومستقبله، بين دفّتي المصحف العربيّ. ودليل ذلك أنّ الكثير من مكتشفات الإعجاز العلميّ، القائمة على تهويمات لغويّة متهافتة، قد تطمسها ترجمة القرآن العربيّ إلى الألمانيّة أو الإنجليزيّة مثلا. فلن يرى الألمانيّ أو الإنجليزيّ، ولو اعتنقا الإسلام، ما يجيز الحديث عن الإعجاز البيولوجيّ أو الجينيّ في « النّطفة » و »المضغة » و »الأمشاج »، ولا ما يجيز الحديث عن الإعجاز الذّرّي في لفظة « الذّرّة »، ولا ما يدعو إلى الحديث عن الإعجاز الكوسمولوجيّ في حديث القرآن عن الجبال والأوتاد والمهاد والمصابيح والبرزخ والأرضين السّبع ومثيلاتها من السّماوات، ولا ما يدعو إلى الحديث عن الإعجاز الرّقميّ في السّجع القرآنيّ الّذي لا أثر له في ترجمتيهما
ولعلّ ما يذهب إليه القائلون بالحظر من استعصاء القرآن على التّرجمة هي المقدّمة الطّبيعيّة للإيديولوجيّة السّلفيّة الّتي ترى مستقبل الإسلام في لحظة نشأته الأولى، وتؤكّد بناء على ذلك ألاّ حلّ لقضايا العصر إلاّ في العودة إلى تلك اللّحظة، ولا سبيل للوقوف في وجه الطّاغوت المحلّي والجبروت الصليبيّ الغربيّ إلاّ في التّمسّك بالدّين في صيغته الجهاديّة الّتي تتمثّل ملاحم فترة الفتوح. وخلاصة القول أنّ التّرجمة تؤنسن القرآن وتزجّ به في مسار التّاريخ البشريّ العامّ الّذي يسعى أهل الحظر لينتزعوه منه بكلّ الطّرق ليلحقوه بمسار تاريخيّ مواز، يزعمون أن لا مكان فيه للإنسان إلاّ عبدا خاضعا لإرادة السّماء
فالقرآن، في نظرهم، هو كتاب الله الّذي لا كتاب له غيره، ولذلك فهو ليس في متناول المترجمين من البشر، فضلا عن كونه ليس في متناول المتأوّلين منهم. فإن جاز أن يترجم كتاب كهذا، فلا مناص من أن يضطلع بهذه المهمّة المتبحّرون في « العلم »، ولا وجود لهم في عالم الإنسان. فقد تبيّن بما لا يدع مجالا للشّكّ أنّ البشر ينطقون بما يبثّه الله في صدورهم من لطيف إلهامه، وأنّه لا قدرة لهم على تدبّر غامض القرآن ودقائقه وأسراره، فإنّه يصبح من المنطقيّ القول بأنّ ترجمة القرآن من المحال، وأنّ كلّ ما يمكن فعله في هذا المضمار هو تقريب معانيه السّلفيّة العويصة – بل الملتبسة أحيانا – إلى معتنقي الإسلام من العرب ومن غير العرب على حدّ السّواء. أليس لذلك يتهافت المتأوّلون من أفذاذ « العلماء » السّلفيّين في كلّ عصر على إضافة كمّيّات من التّفاسير « الحديثة »، بل و »العلميّة » أيضا، إلى آلاف التّفاسير السّابفة، دون أن يستنفدوا معين العلم في محكم الآي الحكيم؟

– 360 –

اليقينيّة المطلقة هي مطمح الإسلام السّياسيّ على الصّعيدين المعرفيّ والفلسفيّ. وهذا يعني أنّ « الشّكّ » هو عدوّه اللّدود، لا سيّما وأنّه وليد العقل والفكر الحرّ، متجاهلا أنّ « الشّكّ هو الأساس »، وأنّ في حالة استبعاد « كلّ أنواع الشّكّ، فما [يبقى] ليس إيمانا، إنّما هو اعتقاد مطلق لا جوهر له »، هو الطّريق المعبّد للخمول والتّواكل والتّبلّد. وهذا يدلّ على أنّ « الشّكّ ليس أمرا سيّئا، فهو من أوصل المنظومة المعرفيّة إلى ما هي عليه الآن، وهو من سيطوّرها لاحقا » ، ولولاه لما أمكن الحديث عن « الإعجاز العلميّ »، فضلا عن البرهنة عليه

– 361 –

المنتشون بخمرة الإعجاز العلميّ يهيمون في فيافي السّراب ويديرون ظهورهم لجوهر الدّين الّذي ينصّ، كما أسلفنا، أنّ مجاله « مكارم الأخلاق ». هذا هو لبّ الموضوع، لا ضير أن ينعت بالإعجاز، علما أنّه ليس حكرا على الإسلام. وإذا كان « الدّين بكلّ ما فيه محصور في هدف واحد هو الأخلاق »، فيضحي من المنافي لهذا الهدف الأسمى أن « تكون وسائل الوصول إليه بعيدة عن الأخلاق كالقتل والغلظة وسوء الخلق وسلب إرادة الآخرين باسم حماية الدّين وتنظيف المجتمع من الرّذيلة. أكبر كذبة على وجه الأرض (وهي الكذبة الّتي اعتنقها الإسلام السّياسيّ واتّخذها لنفسه منهاجا) حين يدّعي أحدهم أنّه حريص على الدّين والأخلاق، فيقوم بسلب إرادة من يراهم بلا أخلاق بسبب مظهرهم الخارجيّ أو سلوكهم. وقد يسلبهم حياتهم أو يعذّبهم لا لشيء إلاّ لتقويم أخلاقهم، أو تخليص المجتمع من شرّهم، فيقوم بذلك بتشويه ذاته قبل غيره
أوضح نموذج لهذا الغباء المركّب هو حين أحاول علاج سلبيّة بسلبيّة أكثر فداحة منها » . وعليه، فإنّه من الحكمة اليوم، حرصا على سلامة الجميع، الإقرار بحقيقة أنّه  :  لا يحلّ مشاكلنا إلاّ دولة مدنيّة قويّة توقف كلّ من يتطاول على حياة الآخرين عند حدّه، سواء كان متديّنا أو غير متديّن

– 362 –

من الجيّد جدّا أن نقول إنّ « الدّين لا يناقض العلم ». ولكن على من يقولون ذلك أن يعترفوا أنّنا « ملزمون اليوم أن نراجع فهمنا للنّصّ الثّابت أو للرّواية بما يتوافق مع العلم المثبت. وحين نقول إنّ الدّين يكمّل الأخلاق فنحن ملزمون بالضّرورة أن نعيد النّظر بفهمنا للنّصّ والرّواية بما يتّفق مع الأخلاق المطلقة الثّابتة » ، وفي مقدّمتها احترام حرّيّة الغير، وعدم الاعتداء على حرمته البدنيّة والفكريّة باسم المقدّس
إنّ إصلاح الإسلام لن يتمّ بالمحاولات البهلوانيّة الّتي تسرق إنجازات العلم ومكتشفاته لتضيفها إليه، فهذا الأمر لن يفيده في شيء. أمّا إذا تعاضدت جهود المؤمنين وغير المؤمنين لملاءمة الإسلام القروسطيّ الموروت بظروفنا الرّاهنة، فإنّ النّتيجة ستكون إيجابيّة للجميع باعتبارنا كلّنا ننتمي إلى الأفق الحضاريّ الإسلاميّ، رضينا بذلك أو أبيناه. فمتى يدرك الإسلام السّياسيّ أنّ مهمّة إصلاح الإسلام وتنقيته من شوائب النّقل والتّقليد ليست مهمّته وحده، بل هي مهمّة لن يكتب لها النّجاح إلاّ إذا تمّت بشكل جماعيّ

– 363 –

إنّ من يعتقد جازما أنّ « الحقائق العلميّة موجودة في الدّين قبل أن يكتشفها العلماء المختصّون في مجالها »، ويعتقد كذلك « أنّ العلم لا يناقض الدّين، بل يدلّ عليه »، لا يجب أن يكتفوا – كما يفعلون الآن – « بربط تلك الحقيقة العلميّة بذلك النّصّ الدّينيّ ربطا ظنّيّا حمّال أوجه، قابل للتّأويل، وليشتغلوا بتنقية التّراث الّذي يخالف العلم المثبت لأنّ دفاعهم عن هذا التّراث [المشوّه بالخرافات والأساطير]، وتأويلهم وتزويقهم له، وربطهم للدّين بالعلم في نفس الوقت يثير الضّحك » . كيف يمكن أن يصدّق القائل بالإعجاز العلميّ أنّ الإقرار بالسّبق، في هذا الميدان، لا يتمّ إلاّ لصالح العلماء المختصّين؟

– 364 –

من مآثر الإسلام السّياسيّ، الّذي تدستر في تونس – ولعلّها من « معجزاته » المفحمة – ارتفاع نسبة التّديّن الّتي تمسّ بالهيئة، وبالملبس خاصّة، أي أنّها تمتح من القشور الواهية الّتي رفع الإسلام السّياسيّ من شأنها على حساب جوهر الدّين. وفي المقابل انخفضت نسبة « التّقوى »، وهي على رأس القيم النّبيلة ضمن منظومة « محاسن الأخلاق » الّتي أسّس عليها الرّسول دعوته. وانخفاض نسبة « التّقوى » هو الّذي يفسّر اكتظاظ المساجد بمن هبّ ودبّ، واستشراء الفساد في فضاء المقدّس (حيث يحرَّض « المصلّون » على الكراهيّة ونبذ الخصوم وازدرائهم) وفي فضاء المدنّس الّذي باتت تحكمه قيم هجينة، أُسبغ عليها الطّابع الإسلاميّ، وفي مقدّمتها مبدأ الولاء والبراء
وعليه فليس من العجيب مثلا أن تتحوّل الطّقوس التّعبّديّة إلى براهين دامغة (أو يعتقد أنّها كذلك) يشهرها الإسلامسياسيّون في وجوه خصومهم، ومنها الصّلاة الطّريقيّة الإشهاريّة المستفزّة، كهذه الّتي تفتّقت عنها عبقريّة سليل حركة « المحبّة » الّتي لا تحبّ من تونس وأهلها إلاّ رئيسها، ولذلك آلت على نفسها، بدافع هدا الفيض العشقيّ، أن تمكّنه من عرش البلاد لينشر فيه تعاليم محبّته الانتقائيّة الرّجعيّة. لو كانت عبادة الله هي المقصود من هذه التّظاهرات الهجينة المتخلّفة لما طلب منظّم هذه المسخرة المقرفة من بعض أذنابه تثبيت هذا البرهان الدّامغ في صورة تاريخيّة، أو لكان اعترض على ذلك لو أنّ هذه الصّورة تمّت بدون موافقته.
لو غيّر هؤلاء الأراجيز ما بأنفسهم، ومارسوا السّياسة بريئة من تزاويق التّديّن الرّيائيّ (أي وفقا لقوانين اللّعبة السّياسيّة الّتي تضع البشر في مواجهة بعضهم البعض، ولا تضع البشر في مواجهه الله ورسوله)، لكان الله بدّل ما بأنفسهم

فرج الحوار

يتبع