دير شبيجل » والاستدارة السورية »

عندما حصل الفنانون السوريون على حصة الأسد من جوائز مهرجان الاسكندرية قبل أشهر، كتبنا عن العودة من طريق الفن، ومن ثم جاء مهرجان قرطاج في تونس ليكرس ذلك المدخل، من دون أن يعني هذا الاستشراف إطلاقاً، أن الفنانين السوريين لا يستحقون الجوائز التي حصلوا عليها، بل إن اكثرهم كفاءة كان حتى الأمس، يمنع من مجرد المشاركة في المهرجانات العربية والدولية. غير أن العودة السياسية، بعد كل الحرب المرة تحتاج أبداً الى مقدمات غير سياسية، تتحول في نظر المراقب الى إرهاصات . وقد اثبت الواقع صحة هذه القراءةاليوم تطل إرهاصات أخرى عبر الإعلام، ولا نقصد بذلك الخطاب الإعلامي إزاء سوريا، بل الانتباه المفاجىء لبعض الدوائر الغربية لعملية التزوير التي كانت تطا الأحداث على الأرض السورية. فعندما تبادر صحيفة عالمية مهمة مثل»دير شبيجل» الألمانية الى الإعلان عن أنها علقت مهام اثنين من المسؤولين في هيئة تحريرها بسبب مسؤوليتهما عن تلفيق قصص كاذبة عن سوريا، لا بد لنا من أن نتساءل: هل إن الصحيفة لم تعرف بالأمر إلا اليوم، أم أنها تريد البحث عن كبش فداء يبرر استدارة ما، ولو بطيئة؟
المسؤولان هما رئيس التحرير أولريتش فيشتنر، ومدير التحرير ماتياس جاير، أما المتهم بالتلفيق فصحفي يدعى كلاس ريلوتيوس، وظّفه الأول لدى المجلة، وكان الثاني مديره المسؤول. التهمة المحددة هي تزوير أخبار، واختراع مقابلات لم تحصل، واختلاس مبالغ جمعها بحجة دعم الأطفال السوريين
وللمفارقة، ذكّرني هذا بزيارة الى «دير شبيجل» عام 2000، نظمت لنا، ضمت وفداً رسمياً من رؤساء تحرير أو من يمثلهم الى «دير شبيجل» في هامبورج ، حيث استقبلنا رئيس تحرير الشؤون الدولية، ومعه صحفي قدم لنا كمتخصص بشؤون العالم العربي. خلال الجلسة أخبرنا الصحفي المذكور أنه كان يقوم بتغطية الانسحاب «الإسرائيلي» من جنوب لبنان، ومقابله زميل له كان ينفذ التغطية ذاتها من الجانب الآخر (الإسرائيلي)، في فلسطين المحتلة. وفي حين كان تقرير زميله ينشر بحرفيته، ظل تقريره هو يؤجل مرة تلو الأخرى، وكلما ألحّ طلب منه التريث وتعديل أمور ، الى أن أفرج عن مادته بعد أسابيع (وباللغة الصحفية بعد أن ماتت) شرط إن يقوم بتلخيصها الى ربع مساحتها، وعند النشر وجد أن ملخصه قد أعيد تلخيصه مرة أخيرة
بالطبع لا تشكل هذه القصة إلا نموذجاً عادياً لمن يفهم طبيعة الإعلام بشكل عام، كذراع من أذرع السياسة الخارجية للدول، ولمن عايش الإعلام الغربي وتعمق في طبيعة المسكوت عنه، من الإقصاء الى التهميش الى التزوير. خاصة في ما يتعلق بالقضايا التي تمس العالم العربي و : إسرائيل
كما أن متهم «دير شبيجل» المكتشف مؤخراً، لا يشكل إلا ذرة في بحر آلة التزوير والتضليل التي أحاطت بالحرب السورية. كثيرة هي عمليات التزوير في المكتوب، والمرئي، المسموع، التي لم تكن تستعصي على أي محلل يمتلك الحد الأدنى من المعرفة المهنية بالإعلام، وبالسياسة، وبالصورة. ونذكر منها على سبيل المثال موقع «موندياليزاسيون»، و»شبكة فولتير»، اللذين عملا بشكل شبه يومي، منذ بداية الحرب، على كشف هذا التضليل الإعلامي. فقد نشرا عام 2012- على سبيل المثال – وبالوثائق، أنه قد تم تحضير أفلام وأخبار وتقارير مفبركة تم تركيبها في الاستوديو، أو في عمل ميداني، أو عبر مونتاج لصور موجودة سابقاً. وهي عبارة عن أخبار كاذبة، وصور مجازر جماعية، وتظاهرات كبيرة في وسط المدن السورية. وكذلك تم إعداد فيلم يصور بشار الأسد وهو يهرب من القصر الجمهوري، وتحل حكومة ثورية مكانه، كما تمت دبلجة خطاب بصوته، في حين يحتل الثوار ساحات المدن الرئيسية
وعلى ذمة الوثائق، فقد أعدت لذلك استوديوهات خاصة في واشنطن، وفي مناطق عربية، تضم نسخاً من القصر الرئاسي السوري، ونسخا عن المواقع الرئيسية في حلب، حمص، ودمشق. أما الهدف من هذه الحرب الإعلامية فهو تحطيم معنويات الشعب، والجيش السوري، مقدمة لعملية انقلاب عسكري. انقلاب يمكّن حلف الناتو من تجاوز الفيتو الروسي -الصيني والسيطرة على سوريا من دون هجوم عسكري غير شرعي
وتقول الوثائق إن بن رودس، مساعد مستشار الأمن القومي الأمريكي، كان يشرف على هذه العملية من واشنطن مباشرة. (بن رودس هذا هو من كلفته إدارة بوش بكتابة تقرير لجنة كيت /هاميلتون حول أحداث 11 سبتمبر). ويساهم فيها عدد من الخبراء والسياسيين، الذين عقدوا عدة اجتماعات دولية لتنظيم هذا العمل، بدءاً من اجتماعين تقنيين في الدوحة
يقول تييري ميسان، إن الاجتماع الأول ضم ضباطاً في الحرب النفسية في فضائيات عربية وغربية عدة. وقد أعد هؤلاء تقارير لتعميمها على المحطات جميعاً بحيث يأتي بثها على الجميع تأكيداً لمصداقيتها لدى المشاهد. ولم تكتف اللجنة بهذه المحطات، بل تم تجهيز 40 محطة وظيفتها التحريض المذهبي، وصولاً الى الحرب الأهلية
في حين ضم الاجتماع الثاني مهندسين ومخرجين لتصميم وتنفيذ وإخراج المادة المذكورة، وتناول الثالث تنسيق عمل هذه الحملة الإعلامية مع : الجيش السوري الحر
فهل كانت «دير شبيجل»، أقل معرفة من شبكة فولتير؟ هل كان صحفيوها يعملون خارج الاستراتيجية السياسية لإدارتهم، وللحزب الذي تتبع له؟ وما الذي جعلها تكتشف المستور اليوم؟ أم أنها مقدمة الاستدارة؟

د. حياة الحويك عطية