مقدّمة لا بدّ منها (1) : فِيمَا كَانَ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ وَلَمْ يُقَلْ

منذ انطلق قطار « التّحوّل » – ينعت تجاوزا بالدّيمقراطيّ وهو تيوقراطيّ قلبا وقالبا -، وخرافة « التّوافق » الرّكيكة السّمجة الّتي صاحبته، والكوارث والفظائع لم تنفكّ تتوالى في نسق مطّرد يشي بأنّ أَياد خفيّة تمسك بخيوط اللّعبة « السّياسيّة » كلّها، تضرب حينا فتُوجع وتُبكي، وتمسك أحيانا أخرى لتندّد مع المندّدين وتذرف دموع التّماسيح مدرارا على من اغتالتهم أنياب الغدر ومخالبه في ساحات المواجهات والصدّ
يزعمون أن لا مكان في بلادنا للإرهاب، والحال أنّ هذه الآفة حلّت بين ظهرانينا حالما تقيّأتهم جنّات منافيهم الأروبّيّة بيننا. حالما وطئت أقدامهم أرض البلاد الّتي لا يكنّون لها ذرّة من حبّ اشتعلت النّيران في كلّ الأنحاء وتنادت أصواتهم على منابر الحقد والانتقام والتّشفّي بالويل والثّبور لمن يقف في وجه قاطرة « الخلافة الرّاشدة » القادمة إلينا من أغوار الماضي السّحيق، أردنا ذلك أو أبيناه. والأفضل لنا – وللقمة عيشنا الّتي أضحت على كفّ عفريت، تفضّل بتذكيرنا أخيرا وزير سابق للفلاحة، وأحد أبرز فرسان حلبتهم الأشاوس- أن لا نمانع ولا نقاوم لأنّ الأمر قضي حتّى قبل أن نستفتى فيه
وكيف لا يغالون ويدلّون على تونس بسطوتهم وقد سكتت كلّ الأراجيز الّتي تتقاسم معهم – نظريّا على الأقلّ – ميدان القتال السّياسيّ الحضاريّ الذّي انطلق منذ 14 جانفي 2011؟ سكت اليمين والوسط واليسار حتّى لم يظلّ في السّاحة إلاّ صوت الغلبة يقضي في حقّ المارقين والمنافقين والطّواغيت بالذّبح والرّجم (أمّا الجلد فهو نصيبنا جميعا، تجلد ظهورنا يوميّا بألسنة الدّعاة والأئمّة على منابر التّقوى المتجبّرة) والقطع من خلاف، وما شاكل هذه الطّيّبات الدّمويّة من نعم الشّريعة السّمحاء الّتي يسعون لجعلها أسّ دستور أرغموا مرحليّا على القبول بنفيها منه
سكت الجميع، وتصاممت الحكومة وعدالتها فلم تجرأ مثلا نيابتها العموميّة على مؤاخذة المعتوه المهؤوس الّذي قضى في حقّ الأستاذة بشرى بن حميدة بالرّجم لأنّها ولجنتها اعتدت على ثوابت « إسلامه »، بل طالبت بإلغائها واستبدالها بكمّ من « الموبقات » الحقوقيّة والوضعيّة الّتي ستلحق أذى كبيرا بالفطرة السّليمة وبكيان الأسرة وببنية المجتمع التّونسيّ برمّته. وسكتت النّيابة العموميّة عن « الدّعاة المعتدلين »، من قيادات الحزب الأغلبيّ وأذياله الظّاهرة والخفيّة، الذّين استظلّوا براية « التّحوّل الدّيمقراطيّ »، وانتشروا في رياض الأطفال ومدارسهم ومصائفهم يلقّنونهم فيها أبجديّة « التّمكين » القادم لا محالة، ويحشون رؤوسهم الهشّة بما يثبّت الإيمان في وجدانهم ليكونوا على تمام الأهبة في ساحة الفصل، يوم يدقّ ناقوس المعركة الحاسمة
وسرعان ما هرع طاقم التّدريس من « علماء » جامع الزّيتونة المعمور و »عالماته » (وإن لم يرد لهنّ ذكر في نصّ العريضة) إلى ساحة المواجهة ليعلن بدوره بصوت « الإسلام المالكيّ الأشعريّ الوسطيّ المعتدل » أنّهم يرفضون مشروع الأستاذة بن حميدة حتّى آخر فاصلة فيه لأنّه، وبكلّ اختصار، يتناقض مع ثوابت « الإسلام »، دين « الفطرة السّليمة »، ومع الأحكام الرّبّانيّة المؤكّدة بالنّصوص القرآنيّة الصّريحة، ويتناقض خاصّة مع المبادئ الّتي انبنى عليها كيان الأسرة والمجتمع في الدّولة التّونسيّة الّتي ينصّ دستورها، بدون لفّ ولا دوران، أنّها « عربيّة مسلمة ». هذا ملخّص الاسطوانة المشروخة الّتي تفتّقت عنها « عبقريّة علماء » الزّيتونة الموقّرون، لا يختلف ما جاء فيها عمّا لم تنفكّ تردّده قبلهم وبعدهم، أبواق الدّعاية في كلّ مساجد البلاد ومنابر الإعلام الّتي كرّست جهودها للذّود عن « الهويّة الإسلاميّة »، وعن « الإسلام » الّذي يبغي به أعداؤه الدّوائر
يتّضح ممّا تقدّم أنّ الإصلاح القانونيّ المأمول، الذّي اقترحته اللّجنة الّتي تترأّسها الأستاذة بشرى بن حميدة »، مرفوض قلبا وقالبا من اليمين الدّينيّ بكلّ أطيافه، لا فرق فيه بين جناحي التّطرّف والاعتدال، وغير مرغوب فيه، في الوقت الرّاهن على الأقلّ، يسارا لأنّه ليس من أساسيّات المرحلة (وهو ما يفسّر الصّمت المطبق الّذي التزمت به الجبهة الشّعبيّة بكلّ مكوّناتها)، وأوكل الوسط اللّيبراليّ الحاكم أمر البتّ فيه إلى آليّة التّوافق المعتمدة منذ انطلاق « مهزلة » التّحوّل الدّيمقراطيّ. وفأجأت الحكومة القائمة الجميع بالإعلان عن حيادها وحياد مؤسّساتها في هذه المواجهة، إيمانا منها ربّما أنّ الغلبة ستكون للأقوى، وأنّ هذا « الأقوى » هو : الأفضل
ولسائل أن يسأل: ما طبيعة هذا التّحوّل الدّيمقراطيّ الذّي يملي اليمين الدّينيّ الفاشستيّ الرّجعيّ في إطاره إرادته على جميع الأطراف السّياسيّة « الفاعلة »، أو بالأحرى الّتي تدّعي أنّها فاعلة؟ هل يعني ذلك مثلا أنّ « الثّوابت » و »المسلّمات » الّتي يتذرّع بها اليمين الدّينيّ في رفضه للإصلاح هي ممّا لا يجب فعلا مناقشته، فضلا عن محاولة تحويره أو استبداله بما هو أوفق منه في الوقت الرّاهن؟ فإن كان الأمر كذلك (باعتبار أنّ السّكوت، كما هو معلوم، من علامات الرّضا)، فلماذا لا تنصهر كلّ الدّكاكين السّياسيّة القائمة صلب حركة « النّهضة »، أو غيرها من التّنظيمات الدّينيّة، لتقوم بدعمها ضدّ المحاولات الّتي لم ينفكّ العلمانيّون يكرّرونها للإضرار بدعائم الهويّة الوطنيّة المقدّسة؟
وبعد، ما هي طبيعة هذه « المسلّمات » و »الثّوابت »، ولماذا يتعيّن أن تكون « مسلّمات » اليمين الدّينيّ الرّجعيّ و »ثوابته » هي نفسها مسلّمات وثوابت المجتمع التّونسيّ بأسره؟ كيف يجوز الحديث عن مسلّمات في إطار نظام ديمقراطيّ مدنيّ متعدّد تخضع فيه كلّ الأطروحات للتّحليل العقليّ الرّصين، ولا تحسم بالعودة إلى « اليقينيّات الدّينيّة »؟ ألم يحن الوقت بعد لمناقشة هذه « المسلّمات »، الّتي تقدّم إلينا في شكل « بديهيّات »، وإثبات المغالطات الّتي تنبني عليها؟ ألم يحن الوقت مثلا للقول إنّ تمسّك اليمين الدّينيّ بيقينيّات إسلام البدايات والإسلام القروسطيّ إنّما هي في حقيقتها انتصار للظّلم والجور والتّمييز والامتهان، وإنها كلّها من « الموبقات » الّتي تضاف زورا وبهتانا إلى الذّات الإلهيّة؟ ألم يحن الوقت بعد لنبيّن أنّ الخطر المحدق بالإسلام، كمنظومة حضاريّة، مصدره اليمين الدّينيّ الرّجعيّ، الّذي يتصدّر السّاحة اليوم مدّعيا الذّود عنه؟ ألم يحن الوقت بعد لنبيّن للجميع أنّ الخلط بين الدّين والسّياسة يضرّ بالدّين أكثر من إضراره بالسّياسة؟
إلى متى يتكلّمون ونصمت؟ إلى متى يستهترون ونطأطئ الرّؤوس والأصوات جبنا وهلعا؟ إن أردنا فعلا للديمقراطيّة أن تنتشر في ربوعنا فلنبدأ حالا بالحديث في « مسلّمات » اليمين الدّينيّ و »ثوابته » المزعومة. « مسلّمات » و »ثوابت » أضحت – لهوانها على أصحابها أوّلا – لعبة يتلهّى بها أدعياء العلم والتّقوى من أمثال « بائع الغلال » الّذي تحوّل في طرفة عين إلى « عالم » من أجلّة علماء الزّيتونة، همّه الوحيد إعادة العمل بنظام تعدّد الزّوجات وترويع مفطري شهر رمضان ليعودوا إلى الجادّة. ولو كان الأمر على خلاف ذلك لكنّا رأينا القائمين على مؤسّسة الزّيتونة في أوائل المندّدين بهذا الدّعيّ وأمثاله والفاضحين لخزعبلاته. لماذا لم يعترض أحد على هذا المسخ الجاهل لمّا زيّنت له صفاقته أن يقضي بالرّجم في حقّ الأستاذة بشرى بن حميدة؟

 الدكتور فرج الحوار

يتبع