اتّبع عقلك، فالعقل نبيّ (8) : في « أخلاقيّات » الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ

النّصّ الدّينيّ لا ينطق بنفسه، بل ينطق به الفاعلون الاجتماعيّون، مدفوعين بمصالحهم المادّيّة والسّياسيّة، أو أيضا بهذياناتهم، فبين الدّين والهذيان علاقة وثيقة. وهكذا نجد الآية الواحدة، أو الحديث الواحد، فسّرتهما كلّ فرقة بما يتناسب مع معتقداتها السّياسيّة أو الدّينيّة. والمتديّن محافظ يرفض التّجديد، وهذا ما جعله في صراع دائم مع التّجديد الدّينيّ، والفكريّ، والعلميّ، والأدبيّ والفنّيّ. حسبنا تذكّر حديث « كلّ جديد بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار ». وعليه فإنّ العلمانيّة هي المخرج الوحيد من هذا المأزق: بجعل الدّين لله والوطن للجميع
العفيف الأخضر، إصلاح الإسلام، ص: 53

– 204 –

أن تجعل من الإيمان بالله خيارا حزبيّا يعني، فيما يعني، أنّ الدّين يصبح محلّ أخذ وعطاء، يرضى به البعض ويردّه البعض الآخر، تماما كما هو الحال مع المبادئ الّتي تنادي بها الأحزاب المدنيّة. هذه هي الجريرة العظمى للإسلام السّياسيّ، يتحمّل وزها معه كلّ من واطأه عليها من الأشياع والأذناب والغربان النّاعقة مع كلّ قائم

– 205 –

الطّامة العظمى أنّ « الدّعاة » و »الشّيوخ » و »العلماء »، وغيرهم من فرسان المنابر المنفلتة من عقالها، حوّلوا الله إلى جبّار جاف سفّاح سفّاك للدّماء. فعلوا ذلك و »المسلمون » – أو بالأحرى الأغلبيّة السّاحقة منهم – من حولهم يباركون ويصفّقون ويكبّرون ويهلّلون

– 206 –

كيف بإمكان أيّ حزب مدنيّ أن ينتصر على حزب « مدنيّ » آخر يزعم – مؤيّدا من مناصريه وخصومه – أنّه مفوّض الله ورسوله، بلسانهما ينطق، وبحقّهما ينادي، وباسمهما يكذب ويفتري على خصومه؟ وقد أصبح الكذب والافتراء اليوم ديدن بعض « الأئمّة » (والأجدر أن يقال « الأبواق المأذونة للإسلام السّياسي) في المساجد الّتي أخذت على نفسها، من باب الغيرة على « الإسلام »، أن تشنّع على لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة، الّتي لم يقرأوها هم أنفسهم، ولو كانوا قرأوها لكانوا « قرأوا » على العموم الفصول الّتي تطالب فيها اللّجنة بإلغاء الختان والتّشريع للزّواج المثلي، وغيرها من التّرهّات الّتي يردّذها هؤلاء « الأئمّة » في بيوت الله

– 207 –

الإسلاميّون (وليس المسلمين) « خير أمّة أخرجت للنّاس » رغم أنّهم يحيون على هامش التّاريخ، و »ملّتهم » أفضل الملل والنّحل وإن لم يزد عدد « المؤمنين بها عن مئات الآلاف (على أقصة تقدير)، وفرقهم النّاجية في مقدّمة الأحزاب الدّنيويّة والأخرويّة لأنّ صناديق الاقتراع في الدّنيا (وفي الآخرة كذلك، وإن لم يئن وقتها بعد، ولكنّ « الجماعة » على يقين أنّ الله سيدخلهم جنّته) امتلأت برقاع الرّضا عنها. فهلاّ أدركتم – يا من أعمى الحسد أبصاركم وبصائركم – أنّهم المختارون المصطفون على الدّوام، وألاّ لا معنى في ميزانهم للقليل والكثير لأنّ الانتصار حليف أقلّيّتهم وأكثريّتهم

– 208 –

الإسلاميّون يربحون دائما، وهذا هو المهمّ. يربحون بكلّ الوسائل والأساليب. ولا ضير على « المصطفين » إن تصرّفوا تصرّف الأوغاد. إنّهم معجزة العصر بدون منازع في خلطتهم العجيبة الغريبة الّتي مزجت بكلّ نجاح المدنيّة بالخلفيّة الإسلاميّة، وبالضّروريّ من توابل الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان الّتي لا تتعارض بطبيعة الحال مع القيم والثّوابت والمسلّمات الإسلاميّة. فكان من ذلك « حزب » يعقد اجتماعاته الحاسمة في المساجد لينادى فيها على المنابر، قبل اسم الله أو بعده، بأسماء آلهتهم المتوحّشة الّتي تنادي بالويل والثّبور. إنّه الشّرك تحت قبّة التّوحيد يمارس عيانا جهارا باسم « الإسلام » وبمباركة منه

– 209 –

هل بإمكان حزب مدنيّ أن ينتصر على « حزب » مدنيّ (؟) آخر يزعم أنّه مفوّض الله ورسوله، بلسانهما (حقيقة لا مجازا) ينطق، وبحقّهما ينادي؟ كم وددت لو تفضّل ما يسمّى اليسار، بشتّى أطيافه، بالإجابة عن هذا السّؤال. ولا بأس لو شرح لنا هذا اليسار « المتسامح الجواد »، الّذي يعتبر الإسلاميّين مجرّد « خصوم » سياسيّين، لماذا لا يتوقّف « خصومهم » عن اتّهامهم بمعاداة « الإسلام »، أي عدوّ الله ورسوله. وهو ما يقال فعلا على منابر المساجد

– 210 –

« ثوابت » الإسلام الّتي تلوكها الألسن على منابر الشّطط والرّياء والعمى هي الّتي تسفك ذودا عنها دماء « الطّاغوت » في الثّغور والجبال، على مرأى ومسمع من « الإسلام الدّستوريّ » الّذي لا يحرّك ساكنا لإيقاف هذا النّزيف. وقد جاء في الآثار أنّه لا يسكت عن المنكر إلاّ شيطان أخرس

– 211 –

كلّ كلمة تقال في المساجد المنفلتة اللّسان والوجدان، دفاعا عن « ثوابت العقيدة » في الظّاهر، هي بمثابة القنبلة الموقوتة، ما أسرع ما تنفجر في مكان مّا من أرض تونس الّتي حوّلتها « التّقوى » إلى : دار حرب »

– 212 –

المترحّمون على أرواح الشّهداء هم قتلتهم الحقيقيّون. سلاحهم الوعظ والهدي والإرشاد، يلوّحون به من أعالي المنابر المستباحة فتشرع على إثرها رشّاشات التّخوم المستعصية

– 213 –

استباحتنا الذّئاب يوم صرّح رأس الفرقة النّاجية أنّ الأمن والجيش لم يرضخا بعد لداعي « سمائه ». وها قد رضخا اليوم، وقضي الأمر. لم تحرّك النّيابة العموميّة ساكنا في السّابق، وهي لن تتصدّى اليوم بالتّأكيد لمجانين الله في السّاحات وبلاتوهات التّليفزيونات، وغيرها من منابر الشّطط، ينادون بجلد خصومهم وسحلهم ورجمهم لأنّ هؤلاء لم يقترفوا ذنبا وإنّما مارسوا حرّيتهم في التّعبير

– 214 –

هل هي الصّدفة الّتي شاءت أن يتهدّدنا جلف دميم من أوغاد المعبد بقطع الأرزاق، وبعد سويعات من ذلك انغرست مخالب السّباع في لحمنا وسالت الدّماء في الأطراف الّتي كان عهد بها في وقت سابق إلى هذا الجلف نفسه ليكون لها حارسا أمينا؟

– 215 –

« الإسلام السّياسيّ » بريء من الدّماء، والمذنبون حفنة من « المسلمين الغاضبين » (كذا)، أخرجهم عن طورهم ما لمسوا من ازدراء « لدينهم » و »استخفاف » به. هذا ما يقال صراحة على « المنابر الدّستوريّة » بمباركة مؤسّسات « الدّولة المدنيّة » الّتي تتفهّم « غضب » هؤلاء الغاضبين، وتقدّر « غيرتهم » على عقيدتهم. والسّؤال الّذي يلحّ على الأذهان اليوم هو التّالي: لماذا لا تتساهل « الدّولة المدنيّة » إلاّ مع « الغضبى » من أتباع « الإسلام السّياسيّ » بالذّات؟ ألا يعني ذلك في النّهاية أنّ هذا « الغضب » بالذّات « مباح حلال » لأنّه « سماويّ » المصدر والمنزع وأنّ كلّ ما عدته حرام؟

– 216 –

لا مستقبل لدولة قلّمت مخالب الرّدع فيها خوفا من سباع الفلاة المتنكّرين في بزّة الزّهّاد والصّالحين والهداة

– 217 –

لا جدوى من الحديث مع معاصر لك يحيا في إهاب سلف له اندثر منذ ما يزيد عن ألف وأربعمائة سنة. هذا ما قاله بورقيبة في الرّبع الأخير من القرن الماضي. وها نحن نكرّر اليوم نفس هذا الكلام بعد أن شاهدنا بأمّ أعيننا الخراب الّذي أحدثته الماضويّة في بلدنا خلال ثلاث سنوات

– 218 –

طوبى للسّذّج الّذين يتوهّمون أنّ المساواة والحرّيّة، وغيرها من نعم الدّيمقراطيّات الغربيّة، ستتمخّض عنها قريبا في « مهد الرّبيع العربيّ »، منابر المعابد الّتي ينادي فيها الأئمّة بالنّفير ليلا نهارا للوقوف في وجه لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة

– 219 –

ماذا بالإمكان أن ننتظر اليوم من إنسان تعلّقت همّته بصحيح البخاري وما تلاه من حصون الأصالة والهويّة ومتاريسهما على مرّ القرون؟

– 220 –

أين نحن اليوم من الجاحظ وأبي نواس وابن عربي وابن رشد وابن سينا وابن الرّاوندي وابن الحجّاج والتّوحيدي والمعرّي، وغيرهم من الأقطاب الفكريّة الّذين رفعوا عاليا راية الحضارة (و »الدّين » جزء من الحضارة، وليس كلّ الحضارة) الإسلاميّة عاليا؟

– 221 –

لم يبق اليوم في محافل الإسلام السّياسيّ (الّذي أضحى دستوريّا بعد أن تمّ الاعتراف « بثوريّته » محلّيّا ودوليّا) إلاّ « حكاية الثّوابت »، الّتي لا تختلف جوهريّا عن « حكاية قميص عثمان » و »حكاية مسمار جحا »، و »خرافة الفطرة » الّتي حوّلت « الإسلام السّياسيّ »، من دون الأديان كلّها، إلى « حتميّة بيولوجيّة ». وبقيت أخيرا « مهزلة الأصالة » الّتي لا تستسيغ من أبعاد الزّمن المتحرّك على الدّوام إلاّ « عصر البدايات السّعيدة » الّذي شهد ميلاد « الدّولة المدنيّة »، أو المدينيّة، فلا فرق بين الاسمين في عرف رؤوس الفرق النّاجية، الّتي تقترف اليوم بهدف إحيائها أبشع الجرائم. هذا هو « الإسلام » الّذي يراد له أن يكون « دستورا » لشعب من إنسانيّة الألفيّة الثّالثة، يتعيّن عليه اليوم، تمسّكا بثوابته وفطرته وأصالته، أن يتردّى في مجاهل البدائيّة والهمجيّة والتّخريف

– 222 –

عندما يتحدّث « الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ » عن « التّحوّل الدّيمقراطيّ »، وينافح عنه على منابره المعبديّة والمسجديّة (باعتبار أنّ الأرض كلّها له مسجد)، فهو يتحدّث ويدافع في الحقيقة عن « اللّعبة السّياسيّة الملتبسة » الّتي بوّأته مكان الصّدارة ووضعت في يمينه صولجان السّطوة فبات نافذ الكلمة، مهيب الجانب، يعمل في وضح النّهار على استكمال أسباب التّمكين الّذي ستتيح له أخيرا إعلان قيام « دولة الأبد »، دولة « ديمقراطيّتة الإجماعيّة (نسبة إلى الإجماع)، التّماثليّة الفاضلة » بالضّرورة طالما أنّه هو وحده الماسك بزمام الأمور فيها

– 223 –

حرّاس « التّحوّل الدّيمقراطيّ »، والسّاهرون على إنجاحه بكلّ ثمن، رغم كلّ المؤشّرات الّتي تقطع بفشله، هم أنفسهم الّذين يحفرون له الأنفاق بانتظار أن يحين الإلقاء بجثمانه المتحلّل في القبر. كلّ أطراف « اللّعبة السّياسيّة » شركاء في هذه الجريمة، لا فرق بين يمينيّ ووسطيّ ويساريّ، فالكلّ يقدّمون مصالح « دكاكينهم » و »كنائسهم » (الّتي يطلقون عليها تجاوزا اسم « الأحزاب ») على مصلحة « وطن » لا يتذكّرونه إلاّ إذا التأم شملهم في المآتم الموسميّة « التّوافقيّة » للاحتفاء بشهدائه (أي الوطن). وأوفر « الشّهداء » نصيبا من التّبجيل والحظوة أعلقهم صلة بالإسلام السّياسيّ الدّستوريّ بعد أن نجح هذا الأخير في إرغام شركائه في السّاحة السّياسيّة على اعتبار « إرهابيّيه » « شهداء » يتعيّن على « الجميع » (بما في ذلك الملحدون – نظريّا على الأقلّ – من أهل اليسار) حضور مآتمهم الحاشدة

– 224 –

لا يكون التّوافق توافقا في نظر الإسلام السّياسيّ إلاّ إذا كان إذعانا كاملا وغير مشروط لثوابته المقدّسة، ومنها أنّ التّونسيّين كلّهم مسلمون، باستثناء « شرذمة » لا يعتدّ بها من الهامشيّين. لذلك يدين الإسلام السّياسيّ اليوم، في المساجد وفي كلّ مكان يبلغه صوته، ما جاء في تقرير لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة لأنّها بكلّ بساطة تتعارض مع هويّة « الشّعب المسلم ». ولذلك التزم اليسار الصّمت لأنّه يحترم هويّة الشّعب، وهو ملتزم بالتّقيّد بقيمها الثّابتة. ولن يقبل الإسلام السّياسيّ بغير هذا « التّوافق »

– 225 –
لقد بات لزاما علينا اليوم أن نذكّر بأبسط بديهيّات الفعل السّياسيّ، ومنها تلك الّتي تنصّ على استحالة الجمع بين المتناقضات. لذلك نقول، ونكرّر القول إنّه من المحال الجمع بين الدّين والسّياسة، ومن المحال كذلك أن يفلح « تحوّل » سياسيّ (ينعته القائمون عليه بالدّيمقراطيّ) يتوهّم أنّه سيقهر هذا المستحيل ويلغيه ليقيم الدّليل على تلاؤم « الإسلام السّياسيّ » الرّجعيّ الفاشستيّ مع : الدّيمقراطيّة

– 226 –

وضع النّقاط على الحروف يقتضي منّا اليوم أن نلحّ على حقيقة أنّ استشراء الإرهاب في بلادنا كان نتيجة حتميّة لتصدّر الإسلام السّياسيّ السّاحة السّياسيّة فيها. ولن ينهزم الإرهاب ما لم يفصل بين مجال قيصر ومجال الله

– 227 –

لا يمكن أن تكون « الشّريعة الإسلاميّة » (أو غيرها من الشّرائع الدّينيّة) ديمقراطيّة لأنّها تدين الاختلاف الّذي لا وجود للدّيمقراطيّة بدونه. كيف السّبيل إذن إلى تجريد الشّريعة من طابعها الكليانيّ دون أن يكون في ذلك خطر على بقائها؟

– 228 –

يزعم « الإسلام السّياسيّ »، خلافا لما يقرّه الإسلام في كتابه المقدّس، أن « الإيمان » فرض عين (« ومن يتّبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين »)، وليس فرض كفاية (« فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر »)، فهو إنّما يؤمن اليوم عنّا ولنا (نحن المفرّطين في هذا الواجب المقدّس)، ومن أوكد واجباته أن يحملنا حملا (ليزجّ بنا في « جنّته » نرسف في أغلال « إيمانه » الآليّ البليد) على الاحتذاء به هو دون غيره

– 229 –

المؤمن و »الكافر » هما المقابلان المعاصران لمصطلحي « المناضل » و »المعارض »، وإخراجهما من هذا السّياق تحديدا يجعل منهما آليّة من آليّات الإرهاب الفكريّ

– 230 –

إيديولوجيّة الإسلام السّياسيّ، في صيغته المحلّيّة المخاتلة، تقوم على تناقض يتّضح في تعريفه لنفسه كحزب مدنيّ ذي خلفيّة دينيّة. وهذا يعني ضمنيّا أنّه يطمح للجمع، صلب نظام واحد، بين الإباحة والإلزام، وبين الحريّة والعبوديّة. فهل هذا ممكن فعلا؟

– 231 –

الدّين يفترض التّقيّد، على المستويين الفرديّ والجماعيّ، بجملة من المبادئ العقديّة والسّلوكيّة والاستمرار عليها حتّى الموت. فكيف يمكن لهذا النّظام الثّابت أن يكون قاعدة لإدارة الشّأن العامّ، وهو مجال دائم التّحوّل؟

– 232 –

الإسلام ليس استثناء بين الأديان، يجري عليه ما يجري على كلّ النّظم والظّواهر من الضّعف والقوّة والتّراجع. ولن تمنح الدّماء الّتي تراق اليوم الإسلام عنفوانه، ولن تزيد في عدد أتباعه، ولن تقيم الدّليل على مزاعم الإسلام السّياسيّ بأنّ الإسلام دين ودولة. فقد كانت المسيحيّة هي الأخرى دينا ودولة. وقد سقطت دولة المسيحيّة، واستمرّت المسيحيّة. ولم يسقط الإسلام بدوره بعد سقوط الخلافة

– 233 –

ليس من حقّك أن تدخل الجحيم باختيارك لأنّ الإسلام السّياسيّ قرّر أن يدخلك « جنّته » الدّستوريّة المدنيّة رغم أنفك لتنعم فيها بطيّبات الكبح التّحريم الّتي ستحوّلك إلى « خروف » طيّع وديع، يركع حيث له يراد له أن يركع، ولا يرفع رأسه أبدا بانتظار أن يؤذن له بذلك. ولن يؤذن برفع الرّؤوس لأحد في جنّة الإسلام السّياسيّ إلاّ لأهل الحلّ والعقد الّذين انتخبتهم « المشيئة » ليكونوا لأمّة الإسلام السّياسيّ أئمّة وهداة

– 234 –

لقد بلغ الفحش التّقوويّ في بلادنا مداه الأقصى. ومن مظاهر هذا الفحش أن تحوّل الإسلام على أيدي السّماسرة الّذين احتكروه إلى علم إكسبرمنتالي (أي تجريبيّ) يستدعي إقامة معامل في الهواء الطّلق لتنهض فيها كعبة تجريبيّة يستعملها « العلماء » ليشرحوا « لطلبة علمهم » تعاليم الحجّ وأسرارها. لقد بلغت الهلوسة بمجانين الله مداها، وقد يبلغ بهم « حرصهم العلميّ التّجريبيّ قريبا على احتذاء مثال « العالم » الكويتيّ (قد أقصّ عليكم خبره في يوم من الأيّام) الّذي هدته عبقريّته التّجريبيّة إلى مصاحبة « طلبته » إلى الجبّانة ليشرح لهم بطريقة عمليّة أحكام التّكفين والدّفن، وليقيم لهم الدّليل على صحّة ما يروى عن :عذاب القبر

– 235 –

شركات استثمار المقدّس تشتغل على مدار السّنة. لم يتطوّر في تونس بعد الثّورة المجيدة إلاّ تجارة العمرة الّتي تدرّ أموالا طائلة على الدّولة الوهّابيّة السّعوديّة، تنفق الجزء الأعظم منها في قتل الأطفال في اليمن. هذا الضّرب من التّجارة هو أقبح أنواع الفساد الّذي يمارس تحت مظلة الإسلام السّياسيّ وبمباركة منه في تجاهل تامّ لاقتصاد البلاد المنهك

– 236 –

لكلّ دين صكوك غفرانه، وقد آلى الإسلام السّياسيّ أن يمنح كلّ المستظلّين برايته، والمقبلين أفواجا أفواجا على « صناديق اقتراعه » صكوك غفران بريئة من كلّ الشّوائب (ومن شبهة الرّبا خاصّة) ستفتح لهم (بدون أدنى ريب) أبواب الجنان باعتبارهم من المصطافين المجاهدين الّذين هبّوا لنصرة الإسلام في الوقت الّذي تكالب عليه أعداؤه من العلمانيّين

– 237 –

ولد الإسلام المشهديّ الفرجويّ في خضمّ الأحداث الّتي تلت ثورة الياسمين الفريدة. ولأنّ هذا الضّرب من « الإسلامات » لا يختلف جوهريّا عن التّظاهرات الكرنفاليّة فقد هجر المساجد واكتسح السّاحات العامّة والطّرق السّيّارة والشّواطئ والملاعب ليقيم الدّليل على انتصار الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ رغم أنف المنطق الجمهوريّ المدنيّ، ورغم أنف الحداثة الّتي تزعم ألاّ توافق بين الدّين والسّياسىة

– 238 –

من العسير أن ينقلب بائع خضر إلى طبيب أو مهندس كهربائيّ أو أستاذ جامعيّ مختصّ في الرّياضيّات، ولكنّه من اليسير جدّا لنفس بائع الخضر هذا أن ينقلب إلى « عالم زيتونيّ »، أي إلى كاراكوز دينيّ. والعجيب في الأمر أنّ هذا الدّعيّ، ومن سار على نهجه من المغامرين (وما أكثرهم زمن الثّورات المشبوهة)، لم يدن أيّ منهم بتهمة انتحال شخصيّة من قبل النّيابة العموميّة، ولم يطالبهم أحد بالاستظهار بالدّيبلومات الّتي استحوذوا بموجبها على لقب « شيخ ». وأعجب العجب أنّ الإسلام السّياسيّ، الغيّور على مؤسّسة الزّيتونة، والغيّور أكثر على « الإسلام »، لم يندّد بهؤلاء المحتالين، بل لقد فتح لهم ذراعيه وشملهم بعطفه. ألا يعني ذلك أنّه لا يتولّى المحتالين إلاّ من كان محتالا مثلهم، وأنّ الطّيور لا تقع إلاّ على أمثالها؟

– 239 –

ليس للشّطط الدّينيّ حدود طالما لم يقيّد بضوابط، وهو ما يرفضه الإسلام السّياسيّ الّذي يريد أن يحتكر كلّ شيء لصالحه بمقتضى الأحكام الجمهوريّة المدنيّة الدّستوريّة الّتي لا يؤمن بها، وينادي عيانا جهارا بالإطاحة بها. ومن مظاهر الشّطط أن يقدّم بناء المساجد على بناء الملاعب ودور الثّقافة ودور الشّباب، وغيرها من المرافق العموميّة. لقد بلغ الشّطط مداه عندما تقرّر إقامة مسجد داخل مستشفى سهلول بسوسة الّذي يشكو من الاكتظاظ. وقد برّر هذا « الخيارالسّورياليّ » بتعلّة أن الاعتمادات الضّروريّة لإقامة هذا المرفق (الصّحّي هو الآخر باعتباره سيساهم في علاج نفسيّات المرضى، قد يكون من المفيد أن يلحق بقسم الأمراض النّفسيّة ليضطلع فيه « أطبّاء الرّوح » من كاراكوزات الدّجل الدّينيّ، الذّين فتحت أمامهم أبواب السّجون على مصراعيها، علاج المرضى بالقرآن والرّقى والأدعية الشّرعيّة، وغيرها من أساليب العلاج المتطوّرة الّتي تفتّقت عنها عبقريّة الإسلام السّياسيّ)، والمتأتّية من التّبرّعات، لن يكلّف ميزانيّة الدّولة فلسا واحدا. ونسي وزير الصّحّة، ومن حوله من المستشارين الصّحّيين، أنّ هذا المعبد سيقام على أرض تابعة للمستشفى كان من الضّروريّ أن تخصّص لتوسعة أقسام المستشفى أو لإحداث أقسام جديدة

– 240 –

الإسلام السّياسيّ احتكاريّ انقلابيّ في جوهره، يستوي لديه العنف المسلّح والسّباق الدّيمقراطيّ، فكلاهما لديه وسائل لاستتمام التّمكين الّذي سيمهّد له الطّريق نحو الحكم المطلق تحت راية « إسلامه » منذ ظهر إلى الوجود وحتّى يرث الله الأرض ومن عليها. وإذا نضج التّمكين واستوى جيّدا تزول « الحمامة » الّتي توشّي راية الإسلام السّياسيّ اليوم ويأخذ مكانها « السّيف »، رمز العزّة والغلبة الّذي سيجرف ما بقي في تونس من مظاهر « الجاهليّة » وشوائب « الحداثة »، بما في ذلك الدّستور الّذي « دستر » الإسلام لتحلّ محلّه « الشّريعة » الصّالحة لكلّ مكان وزمان

– 241 –

إيديولوجيّة الإسلام السّياسيّ تقوم على الشّعار الاستبداديّ الشّهير الّذي جهر به لويس الرّابع عشر تشريعا حكمه القائم على حقّ إلهيّ لا ينازعه فيه أحد: عقيدة واحدة (الكاثوليكيّة، يقابلها الإسلام السّياسيّ الّذي سطا على « الإسلام » واختزله حدّ المسخ)، ملك (الملك الشّمس، ويقابله الخليفة في الدّولة الإسلاميّة ذات الحقّ الإلهيّ) واحد، قانون واحد، يقابله الشّريعة الإسلاميّة في مفهومها الإسلامويّ كمجموعة من الإجراءات القسريّة الإكراهيّة الّتي ستحقّق مجتمع التّماثل الأريتمتيكيّ لأوّل مرّة في التّاريخ البشريّ
وكلّ ذلك منصوص عليه في الدّستور الّذي يقرّ في فصله الأوّل أنّ « تونس دولة مسلمة ». وحيث أنّ الفصول الدّستوريّة الملتبسة يتأوّلها « الأقوياء »، على حدّ قول رأس الفرقة النّاجية، فيضحي من المشروع إذن للإسلام السّياسيّ المكتسح أن يتأوّل هذا الفصل على هواه، لا على « شركائه » العلمانيّين في اللّعبة السّياسيّة »، أو بالأحرى – وهذا هو الأصحّ طبعا – في : اللّعبة التّمكينيّة

فرج الحوار

يتبع