اتّبع عقلك، فالعقل نبيّ (7) : في التّناقضات الهيكليّة للإسلام السّياسيّ الدّستوريّ

كلّ إصلاح حقيقيّ هو إعادة تأسيس، هو ابتكار لنموذج جديد من العقلانيّة الدّينيّة، الّتي لا تعترف من الدّين، خاصّة في المعاملات، إلاّ بما يقبله العقل الّذي جسّدته وثائق حقوق الإنسان. كلّ إصلاح دينيّ يمرّ بقتل رمزيّ للأب؛ في موضوعنا، يمرّ بالقطيعة مع لامعقول التّراث، وبحلّ مشكلة تنفيذ الجديد بالأدوات القديمة
العفيف الأخضر، إصلاح الإسلام: 33

– 161 –

ليس من الثّوابت مبدأٌ يذبح الإنسان على هياكل التّكلّس والغلوّ والهوس بتعلّة أنّ هذه « الآفات » هي ممّا لا يستقيم إيمان دينيّ بدونه. وإن بطل الإيمان بطل الدّين كلّه. وليس من الشّطط أن يباد الثّلثان الخبيثان من « أمّة » مّا حفاظا على ثلثها الطّيّب المبارك. بذلك صرّحت « النّصوص » المقدّسة. ولا بدّ من إنجاز ما تقرّر نصّا

– 162 –

الثّوابت – السّماويّة بزعم المنافحين عنها – أرضيّة قلبا وقالبا لأنّها قصرت همّها، في نظر أشياع الإسلام السّياسيّ قبل تدستره وبعده، على « وسخ الدّنيا » (ممثّلا في دفّة الحكم وما يترتّب عنها من جاه ووجاهة وامتيازات وثروات طائلة، وتسلّط لا حدود له، وقطع للألسنة، وبتر للأعضاء، وضرب للرّقاب تنفيذا لحدود الله)، وتنكّرت للمبادئ الرّوحيّة السّامية، وفي مقدّمتها : التّقوى

– 163 –

الإنسان والحرّيّة والمواطنة هي الثّوابت الّتي لا قوام للعمران بدونها، وكلّ ما عداها جزئيّات وهوامش تهمّ فئات دون أخرى، لا يجوز بحال أن يلزم بها الجميع. والإيمان الدّينيّ من ضمن هذه الجزئيّات لأنّ مجاله الفرد أوّلا ولأنّه مختلف بالضّرورة حتّى فيما يهمّ أهل الدّيانة الواحدة. ويكفي الفرد ليكون مؤمنا أن يكون إنسانا حرّا ومواطنا مستقيما. وهذا ما تضمنه الدّولة المدنيّة لكلّ مواطنيها بدون استثناء، شريطة ألاّ ينقلب « التّديّن » سياسة معبديّة، أي تأليبا على الدّولة المدنيّة ومناداة صريحة للإطاحة بها.
وخلافا للدّولة المدنيّة، الّتي تكفل لكلّ مواطنيها ما به يكونون أحرارا، فإنّ الإسلام السّياسيّ يسعى إلى جعل « الإيمان الدّينيّ » فوق كلّ اعتبار، وهو ما يعني إلغاء عامل الحرّيّة، على الصّعيدين الفرديّ والجماعيّ، باعتباره من أعظم أسباب الفتنة. والفتنة، كما يقول المثل، أشدّ من القتل

– 164 –

الإنسان هو أقدس الثّوابت على الإطلاق، وأبقاها على وجه الدّهر، وكلّ ما عداه غثاء يتذرّع به أعداء الإنسان للنّيل من الإنسان بمباركة سماء لم تفوّض أمرها لأحد لأنّ السّماء ليست في حاجة إلى مساعدة أحد من بني الإنسان، وخاصّة إلى هؤلاء الّذين يزعمون أنّهم كرّسوا حياتهم لخدمتها. وهل أبعد في الضّلال من « خامل كسول » يزعم أنّه يستنفد جهده في خدمة « المقدّس »؟

– 165 –

لا علاقة للسّماء بجسدي وروحي وضميري، ولو زعمت العكس، ولن يحول زعمها بيني وبين الأرض فهي قبلتي أوّلا وآخرا. فالحياة هي مجال تنمية الجسد والرّوح معا، فيهما لهما كلّ أسباب الصّلاح والفساد. أمّا تعاليم السّماء فقلّما يلتفت إليهما الجسد والرّوح لأنّهما صيغا على قياس « كائن سماويّ » لا علاقة له البتّة بالكائن الأرضيّ الّذي يسمّى الإنسان. والدّليل على ذلك أنّ أتباع الإسلام السّياسيّ لا يختلفون عن شركائهم في السّاحة السّياسيّة فسادا وجشعا وتكالبا وأنانيّة، ويمتازون عنهم بالرّياء والازدواجيّة

– 166 –

لا فرق في عرف الإنسانيّة بين سويّ وشاذّ، فكلّهم في الإنسانيّة سواء، وفيهم كلّهم للحيوان نسب، لا فرق في ذلك بين القابع في معبد واللاّئذ بحانة. وبدون التّنسيب، الّذي لا معنى « للحقيقة » بدونها، يتحوّل الإنسان إلى « وحش »، أي إلى ملاك أو شيطان. والحكمة تقتضي أن نقرّ اليوم، كما قال ذلك شكسبير منذ قرون وأكّده نيتشة من بعده، أنّ في داخل كلّ إنسان « ملاك » و »شيطان ». لا يشذّ عن هذه القاعدة أحد. فليشيطن أشياع الإسلام السّياسيّ « كفّارهم » (أي معارضيهم) ما شاؤوا فلن يجعل منهم ذلك ملائكة، ولن يمنع « شياطينهم » أن يشيطنوهم بدورهم

– 167 –

شكري بالعيد أعظم من لقب « الشّهيد » الّذي ضنّ به عليه قاتلوه لأنّه في الحقّ (والحقّ اليوم أن تكون للدّولة المدنيّة ولقيمها نصيرا)، وفي الباطل هم (لأنّهم ينسفون أركان الدّولة المدنيّة في الوقت نفسه الّذي يتظاهرون فيه بحمايتها) ولو زيّن لهم وهمهم أنّهم في الذّرى من مدارج الاصطفاء. وحاشا أن يصطفي الله من ألغى فيه العقل الّذي أكرمه به تمييزا له عن بهيمة الأرض ليمتشق مدية القصّابين يذبح بها الحقّ – حقّ الله (ومنه خاصّة أن لا إكراه في الدّين) الّذي يزعم أنّه عنه يذود – من الوريد إلى الوريد

– 168 –

يا أتباع الإسلام السّياسيّ، تملّوا جيّدا نصوصكم المؤسّسة العتيقة وستدركون دونما عناء أنّها وليدة ماضيها المتناهي قدما، وأن لا سلطان لها على ما لم تدركه من الأحقاب والعصور. بل تملّوا ما سطّرت أيمانكم في بدايات القرن الماضي، ممّا تعهّدته أيديكم بالتّشذيب والتّطوير لاحقا، وستدركون عندئذ أنّ النّصوص، مثلها مثل أجسادكم، لا تصمد لعامل الزّمن، وينالها ما ينال أجسادكم من الوهن، وأنّه لا حياة إلاّ للطّريف الجديد. أمّا القديم الواهي فإلى زوال

– 169 –

لا سلطان لمالك وأبي حنيفة والشّافعيّ وابن حنبل – وغيرهم من جهابذة الماضي السّحيق – على زماننا إلاّ إذا سلّمنا – وأشياع الإسلام السّياسيّ لم يستنكفوا للأسف من التّسليم بذلك – بأنّنا نحن الأموات وهم الأحياء. ولا يسلّم بذلك عاقل، فقد تدبّر أئمّة الماضي أمور دنياهم بحسّ عصرهم (وهم بذلك استحقّوا لقب العلماء، ولم ينالوه اصطفاء كما يتوهّم مريدوهم المترضّين عليهم اليوم)، وما قرّروه بهذا الشّأن لا علاقة له بهمومنا ومعضلاتنا وحسّنا. والدّليل على ذلك أنّ مرّ الأيّام وكرّ اللّيالي أبطل الجزء الأعظم من شرائعهم. ومن يزعم العكس فقد جعل هؤلاء « الأئمّة » في مقام الله والنّبيّ، لا ينطقون إلاّ حقّا

– 170 –

لو كانت الشّريعة من أمور السّماء لكانت أخرجت للنّاس دفعة واحدة. ينسى – أو يتناسى بالأحرى – رؤوس الفرق النّاجية الّتي امتهنت الاتّجار في الضّمائر – أنّ المدوّنة الّتي تكوّن ما عرف بعد ذلك بالسّنّة النّبويّة، تكوّنت على مرّ قرون، ولم تظهر « صحاحها » للوجود إلاّ في القرن الثّالث. فهل يعني ذلك أنّ المسلمين الأوائل كانوا على ضلال، وهم خيرة « السّلف »؟ ويزداد الأمر تعقيدا لو أخذنا في الاعتبار أنّ لكلّ مذهب من المذاهب الإسلاميّة المعروفة اليوم « سنّته » المعتمدة، وأنّ هذه « السّنن » تسفّه بعضها البعض في مواجهات لم يهدأ أوارها منذ ما يزيد عن عشرة قرون. فعلى ما يمكن أن يعوّل المسلم المعاصر في هذا الخضمّ من التّناقضات المتطاحنة، وكيف بإمكانه أن يطمئن إلى واحدة من هذه السّنن ويقطع بانحراف الأخرى؟
الانحياز إلى طرف دون آخر يعني أنّ على المسلم المعاصر أن ينخرط في معارك الماضي (بين الرّافضة والنّاصبة خاصّة)، ويتلهّى بها عن مقتضيات راهنه الملحّة، علما أنّه لن يوفّق في حسم ما عجز أصحاب هذه القضايا المستعصية عن حلّه في حينه، هذا فضلا عن أنّ أغلب هذه القضايا (ومنها قضيّة الخلافة) قد تجاوزها الزّمان، بشهادة أتباع الإسلام السّياسيّ نفسه الذّين قبلوا بمبدأ الدّولة المدنيّة

– 171 –

ليس في إضفاء العصمة – والعصمة مصادرة، والمصادرة من مظاهر الإرهاب الفكريّ – على المتون المقدّسة المعتمدة ضامن لصحّتها. ومن بإمكانه اليوم، والحال غير ما كان عليه قديما، أن يقطع بصحّة ما قيل أو كتب على مرأى ومسمع من الدّنيا بأسرها؟

– 172 –

ليس من دليل على أنّ السّماء تكلّمت يوما، أمّا الأرض فهي لم تنفكّ تتحدّث إلى الإنسان بأسرارها منذ اتّخذها له ولنسله وطنا. فلنصرف اهتمامنا إلى الأرض إذن ولنترك أمور السّماء للسّماء، فهي أدرى بإدارتها منّا

– 173 –

إنّه لمن التّجاوز أن يقال عن أمر مّا إنّه سماويّ لأنّ الأوامر والنّواهي كلّها وضعيّة، صاغها الإنسان وفقا لما تقتضيه ظروف مكانه وزمانه. هذا ما يفصح عنه بجلاء علم الأديان المقارنة. وهذا ما يفسّر كذلك الوشائج الّتي تربط العقائد بعضها ببعض تناقضا وانسجاما حتّى إنّه يضحي من المستحيل فهم ديانة مّا (الإسلام مثلا) بمعزل عن الدّيانات الّتي ظهرت في محيطه الجغرافيّ

– 174 –

لماذا يجوز لعمر بن الخطّاب ما لا يجوز لأحفاده من إنسان اليوم؟ أليس هو من ألغى النّصّ الصّريح فقرّر أنّ زواج المتعة من الكبائر؟ ولماذا يجوز للشّافعي ما لا يجوز لأحفاده من علماء اليوم؟ أليس هو من قرّر أنّ الحديث – ولو كان من حديث الآحاد – يمكن أن يلغي صريح النّصّ؟ فلماذا يكون من المبطلين اليوم من قرّر أنّ التّمييز بين الذّكر والأنثى من الجور الّذي لا يليق أن يضاف إلى الله العادل الحكيم؟
لو كان المقصود بصريح النّصّ هو نصّ القرآن لما كان لحدّ الرّجم وجود. وما قيل في تبرير إزالة هذا النّصّ من المصحف، ممّا تداولته كتب التّفسير والحديث، لا يمكن لأيّ عقل سليم أن يقبل به اليوم. كيف يمكن أن نطمئنّ بخصوص قضيّة بمثل هذه الخطورة إلى أحاديث لا تتوفّر فيها أدنى شروط الصّحّة؟

– 175 –
ليس من العلماء من تقوم المسلّمات الموروثة لديه مقام البراهين. ومن البراهين الدّامغة أنّ « ظلم » الأوائل للأواخر هو منتهى العدل، فلا يستقيم أمر الخلف إلاّ بالإجراءات الظّالمة (تسمّى تجاوزا أحكاما، وتنعت لمزيد الإفحام بالسّماويّة) الّتي استقام بها أمر السّلف. بيد أن لا أحد من علماء اليوم تساءل عمّا إذا كان أمر السّلف مستقيما فعلا. ولم يتساءل منهم أحدا كيف بالإمكان أن يكون « الظّلم » قاعدة للعدل؟ ولم يتساءل أحد منهم عمّا إذا كنّا ملزمين بإقرار ما أضحى اليوم ظلما صراحا في تقدير البشريّة كلّها. ومن أقبح الظّلم ما ينال النّساء باسم شريعة لا يخطر ببال أحد من « فحول علماء » اليوم أن يتساءل عن السّبب في محاباتها للرّجال.
– 176 –

ومن الثّوابت الّتي لا غبار عليها أن يطالب « مؤمن » اليوم، إن خاف على نفسه الفتنة، بإلغاء العبوديّة. وهكذا يصبح ملك اليمين حقّا شرعيّا دستوريّا يزيد الأسرة « الإسلاميّة » (السّعيدة بالضّرورة) تماسكا ومناعة. لا يجب أن يعتدّ « المؤمن الأصيل » بما يردّده الحقوقيّون المارقون عن لاأخلاقيّة العبوديّة والاسترقاق الجنسيّ، فهذه الاعتبارات الواهية ممّا لا يقدح في « الفطرة السّليمة » الّتي جعلها المؤمن له منهاجا

– 177 –

ما معنى أن يضاف السّيف إلى الشّهادتين في أعلام دول ورايات فرق اتّخذت لها « الإسلام » شعارا؟ هل يعني ذلك مثلا أنّ السّيف من الثّوابت « الإسلاميّة » باعتباره رمزا للسّلام المقترن فطرة بهذه العقيدة السّمحاء؟

– 178 –

ما الحيلة فيمن إذا شاركك لعبتك خرّق قانونها تخريقا، يروم أن يكسب رابحا وخاسرا، يزعم أنّه الثّابت الّذي لا معنى للعالم بدونه، به وحده ينعقد السّلام أو تندلع الحرب؟

– 179 –

« أنا أو الطّوفان ». هذا هو شعار صاحب القبلة، لا شعار له سواه، تستوي لديه القبلة والطّعنة، فكلتاهما لديه من الثّوابت، وكلتاهما لديه سلاح فتّاك يثخن في الفاسقين المعاندين استقطابا وتصفية

– 180 –

ليس الإنسان هو همّ صاحب القبلة، وإنّما كلّ همّه في إله السّطوة والبأس الّذي ابتدعه له وهمه، يصبّ في ذراعه إكسير النّصر فيضحي الكون له ضيعة يسوسها بما يخطر في وهمه من نزوات الغلبة، يقول إنّها المشيئة الّتي لا رادّ لها، ثابتة في الزّمان والمكان ما استمرّ الوجود

– 181 –

إن مدّ صاحب القبلة يده العليا ليضع في يدك السّفلى كسرة خبز فاعلم أنّك أضحيت بصدقته تلك حطب جهنّمه. من جحيمه الّذي أضحيت له وقودا ستخرج، بعد أن يحترق الكون برمّته، جنّة خلده، لن ينالك من نعيمها إلاّ كسرة الخبز، إليك تمتدّ بها إليك اليد العليا منّا

– 182 –

ومن الثّوابت والمسلّمات أن تسوس اليد العليا اليد السّفلى زكاة وهداية ووعظا ودعوة لا تني إلى « الصّراط المستقيم » الّذي أقامت عليه اليد الطّولى – فهي والعليا سواء – عرش سطوتها المقدّسة

– 183 –

لو جازفنا بالتّسوية بين نسائنا ورجالنا، أسوة بكلّ الإنسانيّة، لفقدنا نعمة الاصطفاء (والاصطفاء من الثّوابت الّتي لا تفريط فيها) الّذي جعلنا نبدو في نظر أنفسنا : خير أمّة أخرجت للنّاس

– 184 –

العلم ليس خصما للدّين، فلكلّ منهما مجاله وأساليبه، ولكلّ منهما دروه. هذا ما يؤكّده العلم على الأقلّ، أمّا الدّين فيعتقد، على العكس من ذلك، أنّه مؤهّل للقيام بدوره وبدور غيره، بل وبكلّ الأدوار قاطبة، باعتباره قيّما على الدّار الفانية، وضامنا للدّار الآخرة

– 185 –

ليس من همّ العلم، كما يشيع ذلك رؤوس الإسلام السّياسيّ، تسفيه « الحقائق » الدّينيّة، والبرهنة على خطئها، وذلك لأنّ مجالات بحثه وأساليبها لا تتلاءم مع طبيعة هذه « الحقائق ». ولكنّ زعماء الإسلام السّياسيّ ودعاته لا يتورّعون عن التّأكيد أنّ « حقائق دينهم » بزّت اكتشافات العلوم قاطبة، وكسبت قصب السّبق زمانا ومكانا

– 186 –

يسطو الإسلام السّياسيّ على منجزات العلوم في كلّ الميادين تحت ذريعة « الإعجاز ». وهل أوهى من مصادرة تتعالى على كلّ المبرّرات وتزعم أنّها من عضل اليقين قدّت؟

– 187 –

ثمّة من يتوهّم أنّ الإيمان الدّينيّ بمثابة المعادلة الرّياضيّة، وأنّه من الطّبيعيّ جدّا لذلك أن يرى في كلّ منحرف عن قبلته مخطئا مصرّا على خطئه، يؤكّد أنّ واحدا وواحدا يساويان ثلاثة، بدلا من أربعة. ذلك لأنّ المهمّ بالنّسبة للإسلام السّياسيّ ليس في الخطأ بنفسه، بل المهمّ في نظره أن يختلف عنه الآخرون في الخطأ، فلا يقرّون -وهم صاغرون طبعا – أنّ خطأه هو الحقيقة

– 188 –

آمن بما شئت وبمن شئت، ولكن لا يأخذنّك الغرور فيزيّن لك أنّك أفضل العالمين قبلة. هذا ما لن يقبل به أتباع الإسلام السّياسيّ رغم أنف كلّ الدّساتير الوضعيّة

– 189 –

إن أردت أن لا يستهين أحد بقبلتك فلا تستهن بقبلة غيرك، فلا فضل لقبلة على أخرى مهما كثر أتباعها أو قلّوا. وهذا أيضا ما لن يقبل أتباع الإسلام السّياسيّ رغم أنف « التّوافق » الّذي أحكم قبضتهم على جزء من « الأمر »، ولكن ليس على « الأمر » كلّه. والحقيقة أنّ الإسلام السّياسيّ لا يريد أن يشاركه في « أمره » أحد

– 190 –

الويل لمن زيّن له وهمه أنّه حلّ في الكون ليطهّره من الرّجس. وقد وقع الإسلام السّياسيّ بمحض اختياره في هذا المأزق، وهو مستمرّ فيه حتّى يستأصل دابر الكفّار من الوجود. ولن يتمّ له ذلك أبدا لأنّ « الكفّار » يفوقونه عددا وعدّة

– 191 –

ليس أغرق في « الجاهليّة » من عالم تراق فيه الدّماء على أرصفة الورع الغثّ، ويستوي فيه البشر مع بهائم الإسطبل. وفي الكون اليوم دول لا تختلف أقدار الإنسان فيها عن أقدار الأنعام، تتناهبها شفرات القصّابين تعزيرا وحدّا. وفي الكون دول أسعفها الحظّ بتجاوز هذه الوضعيّة المهينة، ولكنّها تحلم بالعودة إليها، ودسترت الإسلام السّياسيّ فيها ليجعل من حلمها هذا واقعا

– 192 –

التّماثل العقديّ أسطورة فجّة يسبغها المهووسون على أسلافهم. وكلّ سلف في نظر خلفه مثال وقدوة. ومن « حقائق » هذه الأسطورة أنّ الأسلاف كانوا جسما واحدا، ويدا واحدة، وقلبا واحدا، وصفّا واحدا في مواجهة من يبغي بهم الدّوائر

– 193 –

نحن وأسلافنا في الفضل والنّقصان سواء، فكلّنا من الإنسان، لا يمكننا بحال أن نخرج عن حدّ الإنسان. ومن السّخف – الّذي لا يوازيه سخف – أن يتوهّم الآدميّ أنّ بإمكانه أن يكون « ملاكا » أرضيّا

– 194 –
القبلة قبلة لا يزيد في فضلها ولا ينال منها أن كانت في السّماء أو الأرض، فكلّ القبلات أرضيّة ما دامت تطمح إلى إدارة شؤون الأرض. أمّا شؤون السّماء فلها ربّ يديرها بحكمته

– 195 –

كيف لا يرعوي من لا ينفكّ يردّد على منابر البهتان أنّ من ثوابته الاقتداء دوما بسيرة « الأطهار »؟ وهل فعل أطهاره غير أن تحاسدوا وتنابذوا وتباغضوا ثمّ احتدمت بينهم الضّغائن فاقتتلوا وأثخنوا في بعضهم البعض حدّ النّكاية؟ في التّربة الخصبة لهذه المآثر الباهرة نبتت إحن الماضي وترعرعت حتّى أضحت اليوم في كثافة شجر الأدغال

– 196 –

أن تجعل من الإيمان بالله خيارا حزبيّا يعني، فيما يعني، أنّ « الله » يمكن أن يكون محلّ أخذ وعطاء، يرضى به البعض ويردّه البعض الآخر، تماما كما هو الحال مع المبادئ والقيم الّتي تعتمدها الأحزاب المدنيّة. هذه هي الجريرة العظمى للإسلام السّياسيّ، يتحمّل وزها معه كلّ من واطأه عليها من الأشياع والأذناب والغربان النّاعقة مع كلّ قائم

– 197 –

الطّامة العظمى أنّ « الدّعاة » و »الشّيوخ » و »العلماء »، وغيرهم من فرسان المنابر المنفلتة من عقالها، حوّلوا الله إلى جبّار جاف سفّاح سفّاك للدّماء. فعلوا ذلك و »المسلمون » – أو بالأحرى الأغلبيّة السّاحقة منهم – من حولهم يباركون ويصفّقون ويكبّرون ويهلّلون

– 198 –

العجب من أئمّة المساجد الّذين لا ينفكّون يدعون بالهداية للكفّار (المحلّيّين والخارجيّين) وهم يعلمون جيّدا أنّ الله يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء

– 199 –

الدّعاء بالهداية هو منتهى الازدراء لأنّ الدّاعي يعتبر نفسه أذكى من المدعوّ له، وأبصر منه بحقائق الأمور، ويحكم بناء على ذلك، دونما دليل (وهل تحتاج الحقائق الدّينيّة إلى برهان؟)، أنّه على الحقّ وأنّ المدعوّ له على ضلال

– 200 –

يعتبر الإسلاميّ السّياسيّ أنّ « إيمانه » هو علامة من علامات النّبوغ والتّفوّق، بل إنّه لدى رؤوس هذه الفرقة من آيات النّبوغ الّتي يستبيحون بموجبها الأعراض والأموال والأرواح والبلدان

– 201 –

هل الكبر والازدراء والتّعالي من آيات التّقوى الّتي تقرّرها الشّرائع السّماويّة؟ سؤال كم أودّ لو يجيب عنه أحد رؤوس الفرق النّاجية الّتي تعيث اليوم في أرواحنا وبلداننا فسادا. وأمنيّتي أن يشرح لي هذا « العالم المتبحّر » في حقائق السّماء كيف يمكن أن يتحلّى بالتّواضع، ويعتمد التّسامح منهاجا حياتيّا، من هو على يقين أنّه واحد من : خير أمّة أخرجت للنّاس

– 202 –

نحن نملك الدّليل القاطع على انحراف الإسلام السّياسيّ. يكفي لذلك أن نتذكّر بحار الدّماء الّتي أراقها إعلاء لكلمة « فريته » الّتي يسمّيها تجاوزا « الإسلام ». وهل أدلّ على فساد هذا الانحراف من المشاحنات والمواجهات والحروب الّتي تخوضها أطياف الإسلام السّياسيّ (الّتي تتكاثر تكاثر الأرانب) ضدّ بعضهم البعض؟ وهل أضرّ بالإسلام (إن ظلّ لهذه الكلمة من معنى في هذا الخضمّ) من هذه القلاقل الّتي تثار باسمه وتستظلّ برايته رغما عنه وعن الأغلبيّة السّاحقة من المنتسبين إلى محيطه الجغرافيّ والحضاريّ؟

– 203 –

« مجلس الشّورى » هو في نظر أعضائه من الإسلاميّين صورة ممّا كان يسمّى قديما « أهل الحلّ والعقد »، وصورة مصغّرة لما أضحى يسمّى برلمانا في الأنظمة الّتي جعلت الدّين قواما لسياستها، تطبيقا لمبدأ « الإسلام دين ودولة ». وحيث أنّه ليس بالإمكان أكثر مّما كان، وحيث أنّ الأنظمة التّيوقراطيّة تستلهم كلّها مثال « المدينة الفاضلة » الرّسوليّة، فإنّ دولة الإسلام السّياسيّ في تونس لن تكون مختلفة قلبا وقالبا عن دولة آل سعود الوهّابيّة أو دولة الخمينيّ الشّيعيّة في إيران، على ما بين المذهبين من اختلاف في الظّاهر. والفرق بين الدّولة الإسلاميّة التّونسيّة المرتقبة، وبين الدّولتين المذكورتين آنفا، أنّها ستكون دولة فقيرة، وأنّ الفقر سيؤول بها إلى ما آل إليه الصّومال، وفي أفضل الأحوال إلى ما آل إليه السّودان

فرج الحوار

يتبع