الكلّ في الكلّ

تعرّف الفرقة النّاجية التّونسيّة نفسها بأنّها « الجماعة الإسلاميّة »، بألف ولام التّعريف، مختزلة بذلك جمهور المسلمين – والإسلام نفسه، في في تونس وحدها بل في العالم بأسره – في المنتمين إليها، بغضّ النّظر عن عددهم، وذلك لأنّ « الحقّ القويم » في نظر رأسها الملهم ليس رهنا بالعدد. إنّه الكبر (الّذي أدانه الكتاب)، والعنجهيّة (وهي من شيم « الجاهليّين » في أدبيّات إسلام البدايات) تزيّن لحفنة من شذّاذ الآفاق أنّهم الأصل والمرجع والملاذ، والكلّ في الكلّ، يفنى الكون بما فيه ومن فيه إن لم يمدّوا له – هم بالذّات – يد الإنقاذ. فلا بقاء إذن للإسلام، في شتّى تجلّياته، إلاّ ببقائهم هم حرّاسا له على مدى الدّهر، يسفكون على « جوانبه الدّم » ليسلم « شرفه الرّفيع من الأذى »، على حدّ قول المتنبّي. وقد أوفى الإسلام السّياسيّ بوعوده فأجرى الدّماء أنهارا، ولن يتورّع عن سفك المزيد منها طالما ظلّ محتفظا بين يديه بدفّة الرّيادة الإسلاميّة
والنّتيجة البيّنة للعيان أنّ « الإسلام » توزّع، بفعل هذه النّظرة الاحتكاريّة، على عشرات الفرق، وعشرات الفريّقات المنسلخة عنها، وعشرات فريّقات الفريّقات الّتي ولّدتها الخلافات المحتدمة بينها جميعا حول التّمثيليّة الشّرعيّة للإسلام السّياسيّ الّتي تريدها كلّ فرقة خالصة لها وحدها من دون الآخرين. والحقيقة أنّ الاحتراب كان شأن الإخوان المسلمين منذ ظهورهم على ساحة الفعل السّياسيّ في الرّبع الأوّل من القرن العشرين، واستفحل في الفترات اللاّحقة على إيقاع الأحداث المتسارعة في العالمين العربيّ والإسلاميّ وظهور الدّول الوطنيّة الّتي جاهر الإسلام السّياسيّ لها بالعداء لأنّها، في نظره، وريثة السّياسيّة الاستعماريّة التّغريبيّة الصّليبيّة الصّهيونيّة، وبالتّالي عميلة للاستعمار الجديد، ورفع في وجهيهما معا سلاح : الإسلام
أمّا اسم « النّهضة »، بخلفيّته الإسلاميّة الشّوفينيّة، فهو يمتح من معين المصادرة الّتي يمتح منه مصطلح « الجماعة ». مصادرة تستهدف الماضي والحاضر والمستقبل للإيهام بأن لا تاريخ، ماضيا واليوم ولاحقا، إلاّ تاريخ االإسلام السّياسيّ وفرقه النّاجية، يتحوّل بموجبه معنى لفظة « النّهضة »، بدل التّحليق والطّيران، زحفا في الدّروب العقيمة المعتّمة القاحلة: دروب المدن الفاضلة الّتي اندثرت في غياهب الرّمال. ولا نشكّ أنّ اختيار الإسلام السّياسيّ المحلّي لاسم « النّهضة » مردّه، في نظرنا، إلى رغبة هذا الأخير – كما هو شأنه في علاقته بالدّولة الوطنيّة البورقيبيّة – في الإيحاء بأنّ « الإسلام » هو القاعدة الطّبيعيّة، والضّروريّة أيضا، لكلّ حركات النّهضة. وتغييب الإسلام هو، في نظره، واحد من أهمّ الأسباب الّتي تفسّر فشل حركة النّهضة الّتي انطلقت في منتصف القرن التّاسع عشر في مصر، وانتشرت عبرها إلى عديد الحواضر العربيّة
ومراد الإسلام السّياسيّ هو أن يقيم الدّليل على صحّة (من وجهة نظره طبعا) المعادلة القاضية بأن لا نهضة بدون إسلام. والحقيقة أنّ أقطاب النّهضة العربيّة لم يكونوا غافلين عن هذه الحقيقة، ولذلك نادى علماء الدّين منهم (كمحمّد عبدة وجمال الدّين الأفغاني) بضرورة إصلاح الإسلام. وهذا هو بالذّات وجه الاختلاف بينهم وبين الإسلام السّياسيّ الّذي بنى إيديولوجيّته على ضرورة من نوع آخر، تتمثّل في رفض الإصلاح باعتباره اعتداء على المقدّس الدّينيّ، ومن ثمّ إحياء الإسلام القروسطيّ بحذافيره والعمل بإحكامه في إطار دولة الخلافة الّتي جعلهتا جمعيّة « الإخوان المسلمين » على رأس أولويّاتها
منذ ذلك العهد، وحتّى اليوم، والإسلام السّياسيّ يتابع حلم إعادة بناء صرح الخلافة السّنّيّة وجمع شتات الأمّة الإسلاميّة تحت رايتها، في تجاهل تامّ للواقع الجيوسياسيّ للعالم العربإسلامي نفسه الّذي يتكوّن من عدد من الكيانات الوطنيّة والأثنيّة والعقديّة المتنافرة، بل والمتحاربة أحيانا. ولكنّ العناد (أو عمى البصيرة) بلسم يمدّ أكثر الأحلام طوباويّة بإكسير الحياة والاستمرار. فلا عجب إذن أن تشظّى الحلم الكبير إلى أحلام كثيرة بحجم الأقطار الّتي تكوّن الإمبراطوريّة الخليفيّة المرتقبة، وأن تنشأ في كلّ قطر فرقة ناجية تتعهّد فيه هذا الحلم بأسباب الحياة، يديرها بقبضة من فولاذ رأس ملهم، جمع في شخصه المقدّس سلطان الدّين والسّياسة
ولهذا السّبب بالذّات يرفض رأس الفرقة النّاجية في تونس (الّذي أدان بورقيبة لأنّه أقام نفسه على عرش تونس رئيسا مدى الحياة، متجاهلا أنّه اقترف نفس هذا المنكر عندما أقام نفسه إماما مدى الحياة) أن يحلّق في مجاله الحيويّ أحد غيره، وتكتمل سعادته، ويبلغ به الورع قمم النّيرفانا الفيحاء، إذا رأى أتباعه في حضرته في « مقام الميّت من غاسله » (لأنّهم غبار وضيع لا قيمة له بدون الفرقة، وبدون رأس الفرقة خاصّة)، يقلّبهم كيفما شاء، يصلّون في الشّارع بأمره، ويغضبون لله بأمره، ويهاجرون إلى ساحات الجهاد بأمره، لا يقدرون أن يردّوا له أمرا
وهذا « إنجاز » لم يقدر عليه عدوّه اللّدود بورقيبة، فقد عمد هذا الأخير إلى ركام من الغبار فجعل منه « أمّة » تونسيّة على حدّ تعبيره، أمّا رأس الفرقة النّاجية فقد عمد إلى « أمّة » بورقيبة فحوّلها من جديد إلى « غبار »، تمهيدا لتحويلها إلى عدم حتّى لا تظلّ في تونس رأس مرفوعة إلاّ رأسه
والسّؤال الّذي لا بدّ من طرحه في هذا المقام هو التّالي: إذا كان هذا الفعل من الأساليب الدّيمقراطيّة، فماذا ترى تكون الأساليب الدّيكتاتوريّة الّتي يقال أنّها اندثرت في ربوع « مهد » الرّبيع العربيّ، والأصحّ أن يقال الإسلامسياسيّ؟

الدكتور فرج الحوار