الكابوس المقيت : قيس سعيد…الوهم والحقيقة والمخاطر

« الكابوس المقيت»
كيف يُسلّم اليســـار الفوضوي الدولة الحديثة إلى التيارات اليمينية المتطرفة على طبق من ذهب

قيس سعيد : الوهـــم والحقيـــقة والمخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاطر

قبل المرور إلى المقال، هنالك عدة نقاط وجب توضيحها

أولا، كل الآراء المقدمة ليست الغاية منها التشكيك أو المس في شخص السيد قيس سعيد
ثانيا، المقال تناول بالتحليل فقط المشروع المقدم من طرف السيد ق. س، لأنه ببساطة، المترشح الآخر نبيل القروي لا يعني لي شيء أصلا
ثالثا، المدافعين عن السيد ق. س عليهم مناقشة الأفكار إن أرادوا ذلك، فلا يكفي أن أرشحه فقط لأنه « نظيف »، كما يدعون
-رابعا، شخصيا أعتبر أن تونس تستحق أكثر بكثير من هؤلاء المرشحين، وفي الدورة الرئاسية الثانية قررت عدم التصويت (الإنتخاب الأبيض)، لأنه في كلتا الحالتين، أعتبر أن الخمس سنوات القادمة، سنوات عجاف، ستعمق جراح هذا البلد العزيز
– خامسا و أخيرا، العديد سيعتبر أن التخوفات المعروضة في المقال مبالغ فيها بما أن السيد ق. س لا يستطيع تنفيذ مشروعه وأنه لا يمتلك على أغلبية برلمانية يمكن أن تسانده. أنا أرى أنه من الواجب أن يفهم التونسي كل خيوط اللعبة وان يدرك خطورة الوضع الراهن، خاصة وأن الانتخابات التشريعية الأخيرة عرفت صعود كتلة برلمانية يمكن نسبها لليمين المتطرف ذات النزعة الراديكالية والشعبوية المدمرة والرافضة لمكاسب الدولة الوطنية والمعادية للشريك الأجنبي

لنمر إلى المقال

في الآونة الأخيرة طرح التونسيون عديد الأسئلة اللغز
– هل السيد قيس سعيد (ق. س) سلفي أو إسلامي؟
الجواب هو لا، وهذا بشهادة الذين عرفوه… إلى أن يأتي ما يخالف ذلك
– هل يمكن اعتباره إذن يساري تقدمي؟
بالتأكيد لا. لنقل أنه فقط محافظ، يتجنب الخوض في الصراع الإسلامي/التقدمي ويعتبره ليس من أولويات الثورة وهذا مهم
– هل هناك قوى معينة ترى في السيد ق. س قارب نجاتها؟ وهل يمكن أن تقف وراءه أو أن تستغله قُوَى متطرفة ومتناقضة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين؟
الجواب بالتأكيد نعم
– أخيرا، هل المشروع السياسي الذي يطرحه السيد ق. س يمكن استعماله لتدمير ما تبقى من الدولة الوطنية الحديثة؟
الجواب أيضا يكون بنعم وسنحاول تفسير ذلك

في خطر الالتقاء بين تيارات الفوضى والايديولوجيا

لنفهم أن إمكانية الالتقاء حول مشروع السيد ق. س بين تيارين (يسار راديكالي ويمين متطرف) في ظاهرهما متناقضين يكمن في وجود نفس الهدف لديهما وهو إسقاط الدولة في شكلها الحالي.
وهنا نفهم لماذا نسمع أن السيد ق.س وراءه في نفس الوقت اليساري الماركسي رضا لينين وأيضا رضا بالحاج من أقصى اليمين الذي ينادي بإقامة دولة الخلافة. هؤلاء التيارات تشترك في نكران وجود الدولة الوطنية الحديثة ومكتسباتها، ومصالحهم يمكن لها أن تتلاقى لغاية وحيدة وهي إزاحة الدولة متى سَنَحت الفرصة وتعويضها بأخرى لهذا الطرف أو ذاك، كل وفق رؤيته الإيديولوجية

لمزيد التفسير، لو بحثنا في تاريخ الحركات الإسلامية وفي مرجعياتها من أمثال السيد قطب، لعلمنا أن هؤلاء ينادون بضرورة القيام بثورة لغاية وحيدة ألا وهي إعادة بناء مجتمع من منظور إسلامي بحت، حتى وإن لزم الأمر اللجوء إلى العنف والترهيب والإرهاب
الفكرة تنطلق من نشر البُعد الكارثي وتدمير المجتمع السابق. هذه الحرب تكون موجهة ضد حكام متهمون بالاستبداد وبعدم تطبيق شرع الله، ضد نخب متهمة بالعلمانية والفساد، وأيضا ضد الحضارات الغربية « الكافرة » الاستعمارية الناهبة لثروات البلدان
إذن، فهو طرح فيه نفي كلي للآخر، ان كان من الداخل او من الخارج
في هذا الطرح، يقدم الإسلام السياسي نفسه في ثوب المنقذ النقي، الذي بُعث لمقاومة مجتمع فاسد وتعويضه ببناء مجتمع جديد
كل هذا يقتضي وجوبا أولا تغيير النظام والسيطرة عليه وثانيا، الهيمنة على البنى الاجتماعية : كلنا يتذكر الفيديوهات المسربة لراشد الغنوشي وعبدالفتاح مورو
هذا المسار ينتهي ضرورة بانتهاء الدولة كسلطة مركزية لتحل مكانها سلطة أخرى « جماعية » يتساوى فيها الشأن العام، وينصهر فيها الفرد ليتحول إلى مواطن كامل العضوية في الدولة
هنا يكون لزاماً إلغاء كافة أشكال الفردية، سواء أكانت اجتماعية أو ثقافية، لفائدة هوية موحّدة، الهوية الإسلامية بطبيعة الحال. وهنا ينشأ كيان منسجم ينظّم ويكمل نفسه بنفسه، فيتقلص تدريجيا دور الدولة والمؤسسات وصولاً إلى انصهارها في ما يسميه اليمين المتطرف « الأمة » أو بالأحرى : الخلافة
كل هذا يتم على غرار الفكر الماركسي الذي يعتبر انتصار الدولة الشيوعية تلاشيها واندثارها. ومن هنا نفهم نقطة الالتقاء بين هاته الحركات الشمولية من أقصى اليمين و أقصى اليسار. الاثنان يعتقدان في وجوب اندثار الدولة الحديثة لصالح هيكل شامل ومتوافق. ستندثر الحرية الفردية، وتندثر الحرية الفكرية، وستلغى القوانين البشرية، وسيخضع الجميع لفكرة الحكم الإلهي

الآن وقد توضحت نقطة الالتقاء بين الشيوعيّة المجالسيّة كما يراها رضا لينين والفوضى الخلاقة التي ينادي لها اليمين المتطرف أمثال سيف الدين مخلوف، رضا بلحاج، وروابط حماية الثورة، يمكن لنا العودة لتحليل خطورة ما يدعو إليه السيد ق. س

 في خطر تفكيك الدولة

لا يمر يوم إلا ونتأكد أن الأستاذ ق. س، وهذا ليس من باب الصدفة، مدعوما من عديد الأطراف التي تضع نفسها في ما يسمى «الخطّ الثّوري» ومعاداة «السيستام».
هذه الأطراف متكونة من الإسلام السياسي (حزب النهضة)، من أقصى اليمين (حزب التحرير، ائتلاف الكرامة) وأقصى اليسار الراديكالي. القاسم المشترك لهؤلاء هي النزعة الراديكالية، الشعبوية المدمرة، نفي مكاسب الدولة الوطنية، معاداة الشريك الأجنبي، الخ

لماذا يا ترى؟

أن المشروع الذي يقدمه السيد ق. س في ظاهره ديمقراطي، أهدافه نبيلة من خلال الرجوع دائما إلى الدوائر والجهات لتقرير مصيرها، ولكن، في داخله تركيب «مُتَونس» للمجالس السوفياتية البائسة وإحياء «للجان الشعبية» الليبية في شكل «لجان ثورية تونسية»

الاستاذ ق. س يقدم برنامجا لتغيير نظام الحكم باعتماد المجالس المحلية للوصول إلى تمثيلية تشريعية، فيصبح الحكم من المحلّي إلى الجهوي فالوطني
هذا المسار سوف تفقد فيه كل الأحزاب السياسية أي مبرّر لوجودها، الشئ الذي يدفعها للاضمحلال تلقائيا
هذا المشروع مرتكز على مبدأ الحكم المحلي ولكن لا يتطرق للفرق مع مبدأ السلطة المحلية. وهنا يكمن الخطر. فالفرق شاسع بين الحكم المحلي والسلطة المحلية
وجب علينا التساؤل هل الحكم المحلي سيكون على حساب تواجد الدولة وهياكلها في مختلف تراب الدولة (السلطة المحلية)؟
هل الحكم المحلي يقصد به تفويض لتسيير الجانب الاقتصادي والاجتماعي أو انه سيشمل أيضا الجانب السياسي؟
المصيبة الكبرى إذا استعمل هذا المشروع من طرف المتشددين من اليمين لغاية التمكن من الدولة ككل. فكل هذا الخوف له معنى حقيقي حين يستبدل منطق «الانتقال الديمقراطي» بمنطق «الانتقال الثوري» لغاية وحيدة هي قلب السيستام

الآن نستطيع أن نفهم لماذا العديد التفُوا حول السيد ق. س مُضَخّمين في شخصه الأكاديمي الصادق «النظيف»: حركة النهضة التي فقدت الكثير من خزانها الانتخابي وتريد أن تسترجع عذريتها؛
كل الحالمين بتطبيق الشريعة وإقامة دولة الخلافة؛
الثورجيين الفوضائين أمثال لجان حماية الثورة المنادين بقلب السيستام
كل هؤلاء إذن ينوون الانطلاق مما يقدمه السيد ق. س لإنْهاء سيطرة الدولة في شَكْلها الحالي، وإحْلال سلط محلية ولجَان صورية تحل محلّها، وصولا إلى الهدف المنشود وهو تمْرير المشروع الإيديولوجي

لنتخيل الآن ان السيد ق. س وقع «احتضانه» من أطراف يمينية على غرار حركة النهضة، حزب التحرير، ائتلاف الكرامة وكوّنوا له حزام سياسي لإقامة مشروعه البائس
النتيجة ستكون خلق كائنات مؤد لجة، بيروقراطية، ورجعية مستفردة بالحكم المحلي ومن ثم بالدولة وبكل أجهزتها
هذه هي إذن المفارقة أين نرى كيف أن اليسار الفوضوي يمكن (عن غير قصد او لنقل بسبب تكلس إيديولوجي) أن يسلم على طبق من ذهب الدولة الحديثة إلى التيارات اليمينية المتطرفة
لو حصل هذا السيناريو فسوف تتفكك الدولة، و سيزداد الفقر والبؤس والجهل والخراب، سيتفكك و يتناحر المجتمع، وسنبكي عندها على وطن لن يبقى منه شيء
رأيتم كيف انطلقنا من شعارات رنانة مثل الحكم للشعب، الحكم الديمقراطي المحلي، الصحوة الثورية وتغيير السيستام… إلى كابوس مقيت، إلى حكم فاشي، شمولي، ودكتاتوري
: اقرؤوا تاريخ الحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا، انظروا إلى الخراب الذي حل في كل بلد حكمته الحركات الدينية، ارجعوا إلى الدمار الذي خلفه الحزب البلشڤي الستاليني في روسيا، انظروا كيف كانت وكيف أصبحت ليبيا تحت حكم اللجان القذافية

في باب المساواة والحريات

بالنسبة لهذا الموضوع، فإنه مرتبط بكل ما فسرناه أعلاه. وليس من باب الصدفة أن يكون من أكبر المواضيع التي بدى فيها الاستاذ ق. س متذبذبا وغير قادر على تقديم رأي مقنع لا من خلال تفسير ديني ولا من خلال نص قانوني مواكب للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الكونية
كل هذا يتناقض حتى مع شعار الثورة 2011 الذي يعتمده السيد ق. س # الشعب يريد# هذا الشعب الذي نادى بالحرية والكرامة الوطنية

هذا التغييب للحريات والمساواة كان مقصودا عدم الخوض فيه. فالمحيطين بالسيد ق. س من اليسار «الفوضوي» اقتربوا ايديولوجيا مما تتبناه الحركات الإسلامية. فأصبح خطابهم خطابا محافظا في ما يتعلق بقضايا الحرية الفردية باعتبارها قضايا ثانوية، برجوازية، لا تهم شأن التونسي. وعليه، وجب احترام المقدسات والمعتقدات الدينية للطبقة المضطهدة والمهمشة، عدم المساس بتقاليدها وهويتها. عندها فقط يمكن تكوين « كتلة مجتمعتية » كبيرة متكونة من الفئات الاجتماعية الفقيرة قادرة على قلب النظام السائد. نفهم إذن لماذا رفض الأستاذ ق. س، مثله مثل مكونات الاسلام السياسي، مبدأ المساواة في الميراث والدفاع عن الحريات الفردية.

في باب استبلاه الشعب

عندما يسأل الأستاذ ق. س عن وعوده الانتخابية يكتفي بالقول: ليست لدي أية وعود، الشعب وحده هو الذي يقرر مصيره
الأستاذ ليس لديه أي برنامج لا لمقاومة الفساد ولا للنهوض بالأزمة الاقتصادية، الحل بالنسبة له يخرج من رحم القرار المحلي وبقرار من «الشباب الثوري»، كل في جهته ولصالح جهته
أهذا ما تستحقه تونس بعد 8 سنوات عجاف؟
على كل، وفي هذا الصدد، لم نستمع ولا مرة واحدة للجانب المالي، أو التمويلي للمشاريع (ان وجدت) التي سيقع أحداثها
وفي نفس الصدد، هل بقي أي معنى لسلطة الدولة المركزية، لسياساتها الاقتصادية والاجتماعية، لمشاريعها الكبرى، لسهرها على محاربة القبلية والعروشية والجهويات، الخ…… لا شيء

كلنا يعلم الأزمة الاقتصادية التي تتخبط فيها تونس، من انخرام في المالية العمومية، الاقتصاد الموازي والتهريب، نسبة التداين الأجنبي… ما نرجوه هو فقط أقناعنا كيف أن المشروع المقترح من الأستاذ ق. س سوف يخرجنا من كل هذا، أم أننا سوف نمني النفس باسترجاع ثروات تونس المنهوبة

 ندائي في الأخير إلى

– الشعب التونسي لكي يصوت فقط لمن هو قادر على الحفاظ على وحدة الدولة الوطنية الحديثة والمحافظة على مكتسباتها. من حقكم قبل كل شيء العيش الكريم، في بلد تنعمون فيه بالتقدم، والحرية، والمساواة، بالعدل وتطبيق القانون. هكذا نحفظ كرامة كل تونسي
لا تنساقوا وراء من يرهبوكم بتعلة الإسلام والهوية في خطر، ولا تستكثروا على أنفسكم هاته القيم الكونية التي لا تتعارض مع معاليم الإسلام
– إلى الأحزاب الوسطية الاجتماعية الديمقراطية التقدمية، لا تتعالوا على هذا الشعب، اعتذروا وانصتوا إليه، اعترفوا في ما فشلتم فيه، وابعدوا عنكم الانتهازيين ورؤوس المال الفاسد
إلى هاته الأحزاب، دافعو على الدولة الحديثة، لا تكونوا سذجا وأداة تخريب في أيدي الأحزاب الدينية

بقلم كمـــال ڨرفـــة، استاذ وباحث في الإقتصاد بكلية الإقتصاد والتصرف بسوسة