الفنّ التونسي في حداد

هل تأثّرتم البارحة مثلما تأثّرت أنا من بوح زينة القصرينيّة و اعترافها بحيائها من نفسها يعتريها كلّما رفعت صوتها بالغناء. في لحظة صحوة الضمير و محاسبة النفس على الهواء ذكّرت زينة نفسها بأنّها امرأة و بأنّها مسلمة و بأنّ صوت المرأة في الإسلام عورة و أنّه من العار رفع المرأة عقيرتها و أنّ الفقر هو الذي أكرهها على ارتكاب المعاصي التّي تحيط عادة بعالم الغناء و الفنّ

و يحار المرء في تأويل صراحة هذه التائبة. فهذه امرأة ما تزال في عنفوان عطائها وهو من العطاء الشعبي الرخيص الذي لا يكلّفها موهبة في صوتها و لا بلاغة في كلماتها و لا حسّا في ألحانها و لا تستّرا في قدّها و لكنّه يغدق عليها، بفضل الله و عونه، من فساد الأذواق، مالا وفيرا و كسبا غزيرا. فلا أظنّ هذه المرأة قد أدركت من العمر و من التفكّر مرحلة التوبة النصوح التّي تعوّد التونسيون، عند بلوغها، أن يعودوا إلى الله تائبين، مستغفرين عمّا سلف من ذنوبهم عاقدين العزم على تدارك ما فاتهم من الالتزام بأركان الدين من صلاة وصيام و زكاة، متوجّهين شطر المسجد الحرام لغسل الذنوب و تطهير الأجساد من أوساخ الدّنيا

و يبقى، ربّما، في عنفوان هذه الحملة الانتخابيّة البلديّة، أن تحمل هذه المرأة، لله في سبيل الله، شعار حزب من الأحزاب المتنافسة الدّاعية إلى إخماد صوت الفنّ لا سيّما ذلك الصوت الذي تصدح به المرأة و يأتينا على لسان زينة، زيّن الله بها وجودنا و دنيانا، أنّ صوت المرأة عورة و أنّ الأجدر بالنساء أن يتّبعن سيرتها فيحسسن بما أحسّت هي به من الحياء و يعزمن على ما عزمت عليه زينة من الخرس و يتوجّهن إلى ما توجّهت إليه من التقوى و العبادة في كنف إسلام رجعيّ لم يعد خافيا علينا

فلو كان هذا الافتراض صحيحا، و ليس لنا دليل قاطع عليه إلاّ إذا أفادتنا قناة الحوار التونسي بحقيقته، فهل يمكن صدور مثل هذه التوبة من علّية رحمها الله ؟ أو من أمّ كلثوم أو اسمهان أو فيروز مثلا ؟ و هل يعتقد المستمع العربيّ و غير العربيّ أنّ الأولى بالمرأة أن تخرس في صوتها و أن يجمد دم الإبداع في عروقها ؟

فعلى قدر تحليق زينة القصرينيّة في سماء الفنّ و على قدر إيمانها برسالتها الفنّيّة باعت اليوم بثمن قليل و فرّطت فيما أوهمتنا سابقا بأنّه معنى وجودها و إنّ نساء تونس الفنّانات الحقيقيّات براء اليوم من هذه المتاجرة الرخيصة بالقيم الإنسانيّة الخالدة

الدكتور الهادي جطلاوي