الفرع والأصل

صرّح بعض رؤوس ما يسمّى بـ « السلفيّة العلميّة » أنّهم لا يعترضون مبدئيّا على الدّيمقراطيّة كنظام في الحكم ما لم تتعارض مع الشّريعة، معرّضين بذلك إلى أنّه ثمّة إمكانيّة لاتّفاق الشّريعة مع الدّيمقراطيّة. ويلتقي هذا الموقف مع ما كان صرح به رأس الفرقة النّاجية، داخل البلاد وخارجها، حول اعتماد تنظيمه لتصوّر مقاصديّ للإسلام تتمازج فيه الشّريعة مع مقتضيات الحداثة. وقد يكون موقف منظّر الحركة وزعيمها هو الّذي يفسّر ما ذهب إليه أحد أعضاده المقرّبين من أنّ الفرقة النّاجية لا ترى تناقضا بين إسلاميّة الدولة ومدنيّتها
ولو تدبرنا هذه الآراء الثّلاثة لأمكننا أن نستخلص منها النّتائج التّالية

* الإسلام لا يتناقض مع المدنيّة، بل إنّه على عكس ما يعتقد أعداؤه يؤكّدها ويدعمها
* الإسلام لا يتناقض مع الحداثة، بل إنّه على عكس ما يعتقد أعداؤه يؤكّدها ويدعمها
* الشّريعة – بصفتها جوهر الإسلام ورديفه كما يزعم السّلفيون الثّلاثة الّذين أشرنا إليهم آنفا – لا تتناقض مع الدّيمقراطيّة، بل إنها على عكس ما يعتقد أعداؤه يؤكّدها ويدعمها

ويُستخلص ممّا تقدّم أن الإسلام هو جماع المدنيّة والحداثة والدّيمقراطيّة، وهو بصفته هذه صالح – وهنا مربض الفرس – لأن يكون أساسا للحكم في الوقت الحاضر كما تؤكّده المراجع « الإسلاميّة–المدنيّة–الحداثيّة–الدّيمقراطيّة » الثّلاثة الّذين أتحفونا بهذه النّكت الطّريفة الّتي كانوا استخلصوها بحصافتهم وعبقريّتهم من نظريّات أسلافهم الأفذاذ، نخصّ بالذّكر منهم، مع اعتبار الأسبقيّة التاريخيّة: أحمد بن حنبل، وأحمد بن تيميّة، ومحمد ابن قيم الجوزيّة، ومحمّد بن عبد الوهاب، وحسن البناّ، وأبو الأعلى المودودي، والسيّد قطب، وواسطة العقد وحافظ العصر وعالم الغبراء يوسف القرضاوي
والإسلام الّذي يتحدّث عنه كلّ هؤلاء – والمتأخّرون منهم على وجه الخصوص – ليس الّدين التّوحيديّ المعروف، وإنّما هو إسلام الإسلامسياسيّين المتمثّل في إيديولوجيّة سياسيّة تقوم على مُسلّمة مفادها أن الإسلام دين ودولة (وهذا يصحّ على كلّ الأديان بدون استثناء)، لا يستقيم أحدهما بدون الآخر، خاصّة إذا ما أخذنا في الاعتبار أنّ الإسلام – الّذي يدين به هؤلاء – هو منهاج حياة يتعيّن على كلّ البشر أن يلتزموا بتعاليمه. وعليه، وتأسيسا على مقولة « الحاكميّة »، ومفادها أن الحكم لله وحده دون البشر جميعا (وهي مقولة خارجيّة في جوهرها استحوذ عليها الإسلامسياسيّون – خوارج اليوم – وألبسوها لبوس الحاضر)، فإن الأخذ بالشّريعة – وهي كلّ الإسلام في عرف رأس الفرقة النّاجية ورهطه – أمر لا مناص منه حتّى لا يقع « المؤمنون » بين براثن الجاهليّة الجهلاء، ويخسرون بذلك دينهم ودنياهم
والإسلامسياسيّون الّذين أحيوا هذه المبادئ السّامية، ونادوا بها على المنابر، وقاتلوا من أجلها بماء الفرق، والقنابل، والدّسائس، والمحاولات الانقلابيّة، والاغتيالات، والتحصّن في الجبال، واستعانوا على إنجاح أمرهم هذا بمن واطأهم عليه من أهل الكتاب في الغرب الخبيث، يقدّمون أنفسهم اليوم بصفتهم مخلّصين لبني جلدتهم، ولسائر العالمين، من رجس الشّرك والكفر والزّيغ والضّلالة، وأنّهم وحدهم – وهم المصطفون الحائزون على إجازة خطّيّة من السّماء – المخوّلون للقيام بهذه المهمّة المقدّسة وإشاعة الأنوار الّتي ستدحر الظّلمات إلى الأبد. لذلك أطلق الإسلامسياسيّون التّونسيون على فرقتهم النّاجية « النّهضة » مطلقا، حتّى يستقرّ في أذهان معاصريهم من الضّالّين أنّ أسّ النّهضة ودعامتها هو الإسلام، ولا شيء آخر غيره. وهم يشيرون بذلك، من طرف خفيّ، إلى فشل مشروع النّهضة السّابق، الّذي قام منتصف القرن التّاسع عشر، ويعزون فشله إلى انحرافه عن التّعاليم الإسلامسياسيّة الّتي بنوا عليها دعوتهم
يتبيّن ممّا تقدم أن الإسلام، في صيغته الإيديولوجية الإسلامسياسيّة، هو الأصل، أي أصل كلّ شيء، ما تقدّم منه وما تأخّر (وهذا يعني، فيما يعني، أنّه اختزل التّاريخ برمّته ووضع له حدّا)، وأن الدّيمقراطيّة والمدنيّة والحداثة – وهي في أساسها بدع غربية دخيلة – هي فروع توجد نماذجها الأصليّة صلب الإسلام الصّحيح الّذي يبشّر به أنبياء هذا الزمان، من أمثال رأي الفرقة النّاجية، ومن آمن برسالتهم ووافقهم على هواهم. وعليه فإنّ المنطق يقتضي إلغاء المبادئ المغشوشة بمسميّاتها الغربيّة واستبدالها بنماذجها الأصليّة، وبمسمّياتها الإسلاميّة ممثّلة في « الشّورى »، و »الحقّ الإلهي »، وعلويّة « النّقل على العقل »، و »ولاية الفقيه »، و »تطبيق الشّريعة »، لأنّها وحدها الكفيلة بإقامة دولة العدل والمساواة والكرامة والاستقامة والرّخاء
ونحن لا نرى بأسا في أن يفكّر هؤلاء كما يحلو لهم، وأن يدعوا إلى جنّتهم كما يدعو غيرهم إلى جنّاتهم، ولكنّنا لا ندرك تماما معنى إصرارهم على مطابقة مبادئهم الإسلامسياسيّة الأصيلة بنظيراتها الغربيّة المغشوشة، لإقامة الدّليل على تلاؤمها وتكاملها وانخراطها جميعا في منظومة القيم الكونيّة الّتي يصرّ الإسلامسياسيّون على رفضها باعتبارها مناقضة لخصوصيّاتهم الثّقافيّة، الّتي يختزلونها في الخصوصيّة الدّينيّة، ولا شيء غيرها. وأعجب ما في سلوكهم هذا أنّهم، في محاولاتهم المحمومة هذه، يتوجّهون بخطاباتهم التّلفيقيّة المتهافتة إلى الغرب وأساطينه الفكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة قبل مواطنيهم. وآخر هذه المحاولات ما قام به رئيس الفرقة النّاجية في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، حيث حاضر غبطته عن الإسلام والدّيمقراطيّة، وعن التّحول الدّيمقراطيّ الّذي يرعاه هو شخصيّا في تونس، باعتباره أنموذجا رائدا للتّكامل بين الإسلام المعتدل – الّذي حوّل تونس في أقلّ من سنتين إلى إمارة إسلامسياسيّة بائسة يمارس فيها الاغتيال عيانا جهارا – والقيم الحداثيّة الغربيّة
سؤالنا إلى رأس الفرقة النّاجية، ومن واطأه على فكره ومنهجه، هو التّالي: إذا كان « الإسلام » هو الأصل، وهو بصفته هذه مكتف بذاته، فما الدّاعي إلى كلّ هذا اللّغط حول « المدنيّة » و »الحداثة » والدّيمقراطيّة »، وما الدّاعي لكلّ هذا الجدل العقيم عن التّوافق مع أعداء هذا الطّرح الأصيل، أي مع أنصار الباطل والضّلالة؟ ما حاجة الإسلامسياسيّين إلى هذه المبادئ الوضعيّة الزّائفة الّتي ثبت بالدّليل القاطع فسادها؟ ولماذا يقدّمون التّنازل تلو التّنازل لأهل الأهواء والبدع، المنادين بهذه الضّلالات الغربيّة والمنافحين عنها؟ إذا كان « الإسلام »، كما فقهه الإسلامسياسيّون، هو المدنيّة والحداثة والدّيمقراطيّة، فلماذا لا يقرّ رأس الفرقة النّاجية علنا – باعتبار أنّه أقرّ بذلك سرّا – بصواب ما جهر به أحلافه الموضوعيّون من غلاة السّلفية في ما ذهبوا إليه من أن الدّيمقراطيّة كفر ورجس من عمل الشّيطان، يتعيّن على المؤمن الحقّ اجتنابه زمن ضعفه، ومقاومته باللّسان واليد زمن التّمكين؟
ممّا وممّن يخاف رأس الفرقة النّاجية، ومن تراه يهادن بتصرّفه المزدوج الملتبس هذا؟ أليست هذه الازدواجيّة، في القول والفعل، من آيات النّفاق والرّياء والغشّ والمخاتلة الّتي يعمد إليها السياسيّون لتحقيق مآربهم المشبوهة، وهي ليست بالتّأكيد من شيم المؤمنين الّذين يؤمنون بمبدإ الصّدق في القول والإخلاص في العمل؟ والنّفاق هو من أساليب الخداع، فمن ترى رأس الفرقة النّاجية يخدع اليوم: « أعداء الإسلام » الدّاخليين من العلمانيّين والستالنيّين الغلاة، أم « أعداء الإسلام » الخارجيّين من رؤوس الكفر والطّاغوت العالميّ، وعلى رأسهم « الشّيطان الأكبر »، الّذي خصّه غبطته برائعته عن تلاؤم الإسلام مع القيم المدنيّة والحداثيّة والدّيمقراطيّة؟
بعبارة أوضح: لماذا يقدم رأس الفرقة النّاجية الفرع – ممثّلا في المدنيّة والحداثة والدّيمقراطيّة بصفتها إبداعات إنسانيّة متطوّرة عبر التّاريخ – على الأصل، ممثّلا في مبادئ الإسلام وتعاليمه الثّابتة؟ كيف مزج عبقريّ « النّهضة » الثّابت بالمتحوّل، والمقدّس بالمدنّس، والحقّ بالباطل، والإيمان بالكفر؟ لماذا يحرص رجل مثله على ودّ رؤوس الكفر والطّاغوت، فيتحوّل إلى ديارهم ليبرهن لهم أنّه، باعتباره النّموذج الكامل للمسلم المعتدل، يدين بنفس القيم الّتي يدينون بها هم، فيجعل منهم الأصل ويضع نفسه موضع الفرع والتّابع؟
فليحزم الإسلامسيساسيّون أمرهم وليبيّنوا لنا بكلّ وضوح ما هو الأصل وما هو الفرع؟

فرج الحوار

الصورة : رأس الفرقة الناجية في مقر جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية