الشّريعة السّمحاء !؟

صدّع الإسلامسياسيّون « المعتدلون » (كما يدعون) رؤوسنا، منذ عودتهم إلى الأضواء بفضل الثّورة الّتي لم ينفقوا في سبيلها قطرة عرق واحدة (وحقّقها بدلا عنهم وعن غيرهم من المشتغلين بالسّياسة، شباب هذه البلد ببذل الدّماء والأرواح الغالية)، بالحديث عن الشّريعة، وعن ضرورة العمل بها، رغم موافقتهم على إقصائها من دستور الجمهوريّة المدنيّة الّتي يزعمون أنهم من أنصارها، بل والاقتصار عليها كمصدر وحيد للتّشريع، فيما يذهب أولي الشّطط منهم، وفي مقدّمتهم من أطلقوا على أنفسهم اسم « أنصار الشّريعة »، إلى ضرورة الإسراع بتطبيقها لانتشال المجتمع من براثن الجاهليّة. فما المقصود بالشّريعة، وما هي المبادئ الّتي يتعيّن إدخالها حيّز التّطبيق ليتصالح الشّعب التّونسي أخيرا مع مقوّمات هويّته « الأبديّة، الثّابتة » ثبوت الحجر، هذا إن صحّ أن ثمّة في الكون ما هو ثابت على الدّوام؟

يقول رأس الفرقة النّاجية، النّاطق الرّسميّ باسم الإسلامسياسيّين « الوسطيّين المعتدلين »، أنّ الإسلام هو الشّريعة، جاعلا بذلك الجزء في مقام الكلّ، ومختزلا، على طريقة الإسلاميّين الأصيلين، إسلام العلوم والحضارة والفنون والآداب في نصوص الأحكام، الّتي لا تمثّل إلاّ نسبة العشرة في المائة من النصّ القرآنيّ. هذه هي الجريرة العظمى الّتي يقترفها مدّعو التّجديد من أضراب رأس الفرقة النّاجية في حقّ الإسلام وحضارته عندما يضيفون إلى هذه جناية الاختزال العظمى هذه جناية أخرى، لا تقلّ عنها خطرا، فيزعمون، دون ما دليل يعضد دعواهم، أنّ الإسلام دين ودولة. وهكذا يقيم الإسلامسياسيّون، الّذين دسترتهم مهادنة خصومهم العلمانيّين، خدمة لمشروعهم السّلطوي الاستبداديّ القروسطيّ الفاشستيّ، المعادلة التّالية

الإسلام = الشّريعة = الدّولة = كلّ السّياسة

لذلك أُطلق على هذه الإيديولوجيّة الانتقائيّة المخلة اسم الإسلام السّياسيّ، في قطيعة تامّة مع التّاريخ الموضوعيّ لإسلام البدايات الّذي يبيّن بما لا يدع مجالا للشّكّ، منذ حادثة السّقيفة الشّهيرة، أنّ السّياسة – وما عرف بعد ذلك بمعضلة الإمامة – شأن دنيويّ بحت، لا علاقة له من قريب أو بعيد بالعقيدة أوّلا، وبتسيير الشّؤون العامّة ثانيا، باعتبار أنّ هذه الأخيرة وظيفة السّياسة بامتياز. فالخلافات الّتي تخبّط فيها المسلمون الأوائل، وخاصّة منهم هؤلاء الّذين يطلق عليهم أحفادهم اليوم اسم « السّلف الصّالح »، كانت معقّدة وشائكة إلى حدّ تعذّر معه عليهم حلّها بالطّرق السّلميّة، فاضطرّوا إلى خوض حروب دامية ذهب ضحيّتها مئات الآلاف، أو الملايين ربّما، من البشر، ولكنّها لم تزد الخلافات إلاّ احتداما، وساهمت في تكريس واقع الفرقة والتّشتّت الّذي لا نزال نجني تبعاته الوخيمة إلى يوم النّاس هذا في الصّدام القائم بين الإسلام السّنّي والإسلام الشّيعيّ، كما يتجلّى ذلك، على سبيل المثال، في الحرب الأهليّة الدّائرة رحاها في سوريا وفي المواجهات الدّمويّة اليوميّة في العراق، هذا فضلا عن التّطاحن والتّشاحن الطائفيّ الّذي لا يكاد يهدأ في لبنان والبحرين والسّعودية وغيرها
ولو سألنا الإسلامسياسيّين، بمختلف طوائفهم، عمّا يقصدون بالشّريعة، لأجابوا بأنّها حكم الله الّذي لا محيص عنه لتستقيم أحوال البشر، ويعمّ الوفاق والسّعادة أهل الأرض قاطبة بعد أن يتولّى المؤمنون إرشادهم إلى الطّريق السّويّ. والإسلامسياسيّون لا يفصحون عادة عن الوسائل الّتي سيلجأون إليها لبلوغ هذا الهدف النّبيل، ويربأون بأنفسهم عن العنف بدعوى أنّ الإسلام الّذي يدعون إليه هو التّسامح بعينه، ولكنّهم لا يستنكفون مع ذلك من تصنيف أصقاع الكون إلى أراضي دعوة وأراضي حرب، مانحين أنفسهم، بدون تفويض من أحد، حقّ تملّك ضمائر العباد ومصائرهم، ومستهجنين من يتّهمهم، في مسلكهم هذا، بالإرهاب، في بعديه الفكريّ والماديّ
ولو سألناهم عن الكيفيّة التّي سيتحقّق بها حكم الله على الأرض، ومن سيتولّى هذه المهمّة بدلا عن الله، لأجابوا بدون تردّد، معتدليهم وغلاتهم على حدّ السواء، أنّهم هم المؤهّلون دون البشر جميعا للاضطلاع بهذه المهمّة السّامية، وأنّهم، خلافا لكلّ من سبقهم من أضرابهم في سالف الدّهور والأعصار – وما أكثرهم – سيملأون الأرض عدلا كما ملئت جورا. فإذا اعترض عليهم معترض فذكّرهم أنّ هذه المهمّة تعذّرت على السّلف الصّالح، الّذي هم به بزعمهم يقتدون، فأسرفوا في الدّماء وأتوا من العظائم ما لا حصر له بذرائع دينيّة واهية، قابلها خصومهم بمثلها، حتّى بات لكلّ فريق إسلامه الّذي يذود عنه، زاعما أنّه هو المنهاج الصّحيح، وغيره كفر وتجديف – لو جازف أحد بملاحظات من هذا القبيل، إذن لأقام الإسلامسياسيّون الدّنيا ولم يقعدوها ولاتّهموه بالتّحامل والافتراء، ولرموه بكلّ الموبقات، ولوصموه بالزّندقة وأهدروا دمه. وهم بسلوكهم هذا يرومون أن يحملوا الناّس حملا على تصديق دعواهم، وتسليم أمورهم إليهم يصرّفونها على هواهم، وفقا لما يزعمون أنّه شريعة الله
وأول أحكام هذه الشّريعة يقضي بامتهان المرأة واستعبادها واستبعادها تدريجيّا من الحياة الاجتماعيّة. وعليه، فإن اقتحامها للفضاء العامّ، الّذي لا مكان لها فيه شرعا، يجب أن يتمّ وفقا لإجراءات صارمة تصون الأخلاق العامّة من أخطار التّفسّخ والرّذيلة. لذلك لا يجوز للمرأة أن تبرز إلى الشّارع بدون حجابها الشّرعيّ، أي كاسية من رأسها إلى أخمص قدميها، وهو إجراء وقائيّ ضروريّ، ولكنه غير كاف في بعض الحالات. لذلك يستحسن أن يكون برفقتها – وهي الّتي قدّر لها المولى عزّ وجل أن تكون ناقصة عقل ودين – محرم من ذويها، لا ضيْر أن يكون أصغر أولادها أو أحفادها. والحقيقة أنّ المرأة ليست في حاجة إلى مغادرة بيتها إطلاقا، فهي ليست مطالبة بالمساهمة في الدّورة الاقتصاديّة لأنّ وظيفتها الوحيدة، كما حدّدها رأس الفرقة النّاجية شخصيّا، تكمن في إنجاب أكبر قدر ممكن من الرّجال الّذين سيتولّون في مستقبل الأزمان واجب الذّود عن حياض الشّريعة المقدّسة في حربها المستمرّة ضدّ كلّ طواغيت الأرض
وحيث أنّ الحاجة كبيرة إلى هؤلاء المجاهدين، فإن حكمة العزيز القدير قضت أن يحوز الرّجل الواحد أربع نساء، فضلا عمّا ملكت يمينه. وعليه، فإنّ المصلحة تقتضي اليوم أن يصلح الإسلامسيّون ما أفسده غلاة العَلمانيّين فيشرّعوا تعدّد الزّوجات ويبطلوا القانون الجائر بمنع العبوديّة حتى يتسنّى للفحول منهم أن يشتروا لفرشهم، صونا منهم لفروجهم المعرّضة دوما لخطر الفتنة، ما لذّ وطاب من الجواري، أو إذا ما استحال هذا الأمر، لأسباب موضوعيّة معلومة (مردّها إلى تبعيّة مجتمعاتنا وخضوعها لإملاءات المشركين والكفرة من طواغيت الغرب)، أن يُعمّم جهاد النّكاح من الآن فصاعدا، فلا يُقصر على زمن الحروب، باعتبار أن المؤمن الحقّ هو مجاهد على الدّوام لأنّه في صراع دائم مع الأهواء والفتن، وهو لذلك في أشدّ الحاجة إلى ما يشدّ همّته في حربه المقدّسة هذه. وليس أدلّ على هذا التوجّه اليوم من مناداة السّلفيّين بحرّيّة الممارسة الجنسيّة وفقا لنواميس شريعتهم القويمة الّتي لا تعترف بالنّواميس القائمة، ولا تقدّر النتائج الكارثيّة لهذه الممارسات الشاذّة (الّتي لا تختلف جوهريّا عن العلاقات الحرّة الّتي ينادي بها من يوصمون بالعَلمانيّين، وإن اختلفت المنطلقات) على النّسيج الاجتماعيّ عامّة، والعائليّ خاصّة
وثاني أحكام هذه الشّريعة الرّبانيّة إقامة حدود السّرقة والحرابة والزّنا والقصاص، ممثلّة في قطع اليد اليمنى، أو اليد اليمنى والرّجل اليسرى، والرّجم وضرب العنق بالسّيف، كما هو الحال اليوم في البلدان الّتي تزعم أنها تطبّق الشّريعة الإسلاميّة. وواقع الحال أن هذه الأحكام البربريّة لا تنال إلا الفقراء والمعدمين، ولا تطال كبار اللّصوص وعتاة الفسّاق والزّناة ممّن يطلقون على أنفسهم لقب « أولي الأمر ». ولو سألنا المنادين بتطبيق هذه الفظائع عن الدّاعي لاعتماد هذه العقوبات البدنيّة القاسية، الّتي لا يمكن إلاّ أن تشوّه الإسلام وتزيد من تكالب أعدائه عليه، وذكّرنا أن هذه العادات كانت جائزة في القديم لتوافقها مع عادات ذلك الزّمان، وأنّه أليق بمقاصد الشّريعة السّامية أن يعتمد اليوم غيرها ممّا يؤدّي وظيفتها، وشرحنا لهم أن القطع في اللّغة هو الكفّ، وهو لا يقتضي ضرورة النّيل من الحرمة البدنيّة للكائن البشريّ، وأن الله يوصي بالرّفق والعفو ويستنكف من إراقة الدّماء بالطّريقة البشعة الّتي تُمارس اليوم في بعض البلاد المنسوبة إلى الإسلام – لو قام أحد بكلّ ذلك لقضى أنصار الهمجيّة الساديّة – الشّرعيّة في زعمهم – في حقّه بحدّ الحرابة جزاء وفاقا له على خروجه عن إجماع الأمّة
وثالث أحكام هذه الشّريعة السّمحاء طاعة أولي الأمر، وهو من أوكد واجبات المؤمن وأخطرها شأنا، خاصّة إذا ما كان بايع هذا الأخير على الطّاعة. فالإخلال بالبيعة هو في مقام الكفر، والخروج عن الإمام مروق ومكابرة عقابها الموت الزّؤام، وقبول المؤمن بإمامة من لا أهليّة له من دعاة الجاهليّة وحماتها كبيرة لا تغتفر. لكلّ ذلك يتعيّن على أهل الصلاح والتّقوى أن يبذلوا قصارى جهدهم لإقامة حكم الله في الأرض، وذلك بمحاربتهم لأهل الأهواء والبدع – وهو رابع أحكام هذه الشّريعة الغرّاء – ومناصبتهم العداء، والتّضييق عليهم وعلى مناصريهم وأشياعهم ومؤيّديهم من الغوغاء والسّفلة والجهلة، وإرغامهم جميعا على الرّضوخ لحكم الله، إن طوعا وإن كرها
ولا يجب أن يكترث جند الله الميامين بما يرمونهم أعداؤهم به من تهم التعصّب والإرهاب، فلا قيمة لمثل هذا اللّغو في عرف من جعل الحقّ غايته ومرامه، ولا قيمة لاعتراض المارقين على ما يروم الصّادقون من عباد الرّحمان بهم من الخير والعافية. وإنّه لمن المفيد أن يتذكّر أنصار الشّريعة أن الجاهل يصنع بنفسه ما لا يصنعه العدوّ بعدوّه، وأنّهم في سعيهم المحمود هذا إنما يقودون هؤلاء الحمقى والمغفّلين إلى الجنّة، عنوة إن لزم الأمر. ولا ضير في ذلك في منظار الشّريعة، لأنّ العبرة بالنّوايا الحسنة، وما يترتّب عنها من نتائج طيّبة
هذه هي الشّريعة الّتي يسعى إلى إقامتها من لاذ بقمم الجبال من جند الرّحمان، ومن هرع إلى أرض الشّام لينصر أهله من ظلم الطّغاة وزبانيتهم، ومن دبّجوا دستور الجمهوريّة الثّانية في تونس وحشوها بما يجيز قريبا تحويلها إلى إمارة ربّانية ترفرف فيها أعلام الخلافة الرّاشدة. فطوبى لأولي الألباب، والويل – كل الويل – للمكابرين والمعاندين من أهل البدع، ولو كان عددهم في عدد حبّات رمال الشّواطئ الّتي انتزعها المجاهدون الصّادقون من براثن المشركين والمشركات اللاّئي كانوا، بدعوى السّياحة، يعيثون فيها فسادا، ويتعاطون فيها أبشع أنواع الرّذيلة عيانا جهارا

فرج الحوار