الخليفة السادس يرى القِشَّة في عيْن الباجي ولا يرى الوتَدَ في عيْنِه

استعرض المدعوّ حمّادي الجبالي، المتماهي مع الفرقة النّاجية قلبا وقالبا (رغم مقاطعته لها أو طردها له، والأرجح أنّه غادرها ليؤسّس فرقة ناجية أخرى، يكون هو رأسها الملهم وإمامها الأبديّ)، في تدوينته الفايسبوكيّة، الّتي أعلن فيها الحرب على السّيد رئيس الجمهوريّة، واغتنم هذه الفرصة الثّمينة ليعبّر عن مساندته المطلقة لرئيس بلديّة الكرم، ومن قد ينسج على منواله مستقبلا، مشجّعا لهم جميعا على إعلان العصيان على القانون الوضعيّ المعمول به حاليّا واستبداله، حسب رأيه السّديد، « بتعاليم » الإسلام « السّمحاء » لأنّها، على حدّ قوله، من « مقوّمات ديننا الحنيف » (لاحظوا استعماله العاطفيّ التّهييجيّ لنون الجمع)؛ استعرض الحالم بعرش « الخلافة السّادسة » عن ظهر قلب في صدر تدوينته، في شكل ديباجة سخيفة، الاسطوانة المشروخة والممجوجة الّتي ردّدتها الببّغاوات من أمثاله على مدى الأزمان، معتقدا أنّه جاء في محفوظاته الهزيلة هذه بالبراهين الدّامغة الّتي ستفحم « أعداء إسلامه » الحنيف
ولأنّ الشّعبويّة المبتذلة هي كلّ رصيد هذا الرّجل من « العلوم » السّياسيّة، فقد كلّف نفسه مشقّة تدبيج « قصيدة »، رديئة المبنى والمعنى، قرّظ فيها التّضحية، وحرّض فيها « الشّعب » على إزهاق أرواح أكبر عدد ممكن من الخرفان، أسوة بالنّبيّ إبراهيم الّذي لا يعرف عنه خليفة المستقبل إلاّ ما ورد في الكتب المقدّسة (القرآن تحديدا لأنّنا نشكّ أن يكون « مؤرّخنا » جازف بقراءة العهدين القديم والجديد، أي التّوراة والأناجيل)، وهي ليست من كتب التّاريخ المعتمدة الّتي يستشهد بها في السّجالات السّياسيّة الدّائرة رحاها في القرن الواحد والعشرين. وأضاف غبطته إلى هذه التّأمّلات الدّمويّة المؤثّرة بعض الأبزار والأفاويح الوعظيّة، الّتي لا تقلّ ابتذالا عن سابقاتها، ألحّ فيها، بحسّه الدّعويّ المرهف، على طلب « رضا » الله من كلّ سبيل
والسّؤال الّذي يتبادر إلى ذهن قارئ هذه المقامة الرّكيكة هو التّالي: ما جدوى هذه « الثّرثرة » في بيان أسبغ عليه كاتبه طابعا سياسيّا صرفا، أخذ فيه على نفسه أن يطعن في شرعيّة رئيس الجمهوريّة أوّلا، وآلى فيه على نفسه ثانيا أن يحرّض المتجرّئين على حرمة القانون الوضعيّ، الّذي لا يقلّ « دستوريّة » عن إسلامه؟ الجواب على هذا السّؤال يأتي في بداية الفقرة الموالية، وقد استهلّها الحالم بعرش الخلافة « السّادسة » (لماذا السّادسة تحديدا؟ هذا ما لم يوضّحه لنا « المؤرّخ » النّحرير، سليل الفرقة النّاجية. ولو كلّف سيادته نفسه عناء النّظر في كتب التّاريخ الإسلاميّ لكان أدرك أنّه لا يحسن « الحساب » و »التّاريخ » معا) بكلمة « شعبي »، وهو ما يفيد أنّ « الشّعب » المعنيّ هو في مقام الشّيء، يباع ويشترى وفقا للرّغبات والحاجيّات. ومراد صاحب التّدوينة أن يوحي بأنّ « الشّعب » ملك خالص له هو، وليس ملكا لخصمه، ممثّلا في شخص رئيس الجمهوريّة . والوزير الأوّل السّابق، وربّان سفينة « التّرويكا » السّيّئة الذّكر، في نسختها الأولى، لا يتكلّم هنا باسمه الشّخصيّ، بل هو ينطق باسم كلّ فصائل الإسلام السّياسيّ، وخاصّة المدسترة منها ممثّلة في الفرقة النّاجية الّتي انسلخ عنها
ولأنّ « شعبويّة » الطّامح إلى سدّة الخلافة (الّتي تجرّد « حزب التّحرير » لإحيائها وإسنادها إلى « قرشيّ » قحّ عملا بالحديث الذّي ينصّ صراحة على أنّ الخلافة في قريش، لا تخرج عنها حتّى يرث الله الأرض ومن عليها. فهل تأكّد فضيلة الشّيخ الوزير الأوّل السّابق أنّه ينحدر من سلالة قرشيّة؟) لا حدّ لها، فقد توجّه من جديد إلى « الحكم »، الّذي سيحسم الخلاف القائم بينه وبين رئيس الجمهوريّة ومن آزره من المتنكّرين للحقّ، ناعتا إيّاه « بالشّعب التّونسيّ المسلم »، تأكيدا منه، مرّة أخرى، على أحقّيّته هو بالذّات في ملكيّة هذا الشّيء المسمّى : شعبا
يتّضح من كلّ ما تقدّم أنّ وظيفة الدّيباجة البليدة الّتي صدّر بها الدّاعية حمّادي الجبالي تدوينته المتهافتة تتمثّل في تهيئة المقام لعدد من المصادرات الإيديولوجيّة الّتي بنى عليها فضيلته خطابه التّكفيريّ في حقّ رئيس الجمهوريّة وأشياعه، نفصّل القول فيها فيما يلي

1 – مصادرة عقديّة أولى مفادها أنّ « ديننا الحنيف »، على حدّ قوله، فطرة جبل عليها « الشّعب التّونسيّ المسلم ». وقد خان النّاقد الإسلامسياسيّ الحصيف حسّه الدّيبلوماسيّ فلم يشر ولو بكلمة واحدة إلى غير المسلمين من « شعبه »، متناسيا أنّ الفرقة النّاجية، الّتي نشأ وترعرع في أحضانها، فتحت قائمتها الانتخابيّة في المنستير لمترشّح يهوديّ
2 – مصادرة عقديّة ثانية مفادها أنّ « تعاليم » (بدون تحديد، وبدون ضوابط) الإسلام (كذا، وكأنّ « الإسلام »، في نظر معتنقيه »، واحد منجسم متلائم، وكأنّي بالمتربّص بكرسيّ الخلافة يجهل كلّ شيء عن إسلام الشّيعة، وإسلام الخوارج، وإسلام الدّروز، وإسلام النّصيريّة، وإسلام الرّفاعيّة، وإسلام الإسماعيليّة، فضلا عن البابيّة والبهائيّة وغيرها من الملل والنّحل الّتي نشأت في مختلف الحواضر الإسلاميّة) هي تعاليم « سمحاء » (ما المقصود بالسّماحة هنا؟ وما الدّليل على هذه السّماحة؟ وهل السّماحة – إن وجدت – قيمة ثابتة لا تتغيّر مع تغيّر الأحوال؟) ضرورة
3 – مصادرة سوسيولوجيّة مفادها أنّ « هويّة » الشّعب « عربيّة إسلاميّة »، وبناء عليه يصبح الإسلام السّياسيّ هو النّاطق الشّرعيّ باسمه
4 – مصادرة سياسيّة أولى مفادها أنّ الإسلام السّياسيّ، النّاطق الرّسميّ باسم « الشّعب التّونسيّ المسلم »، والذّائد عن « هويّته العربيّة »، يكوّن الأغلبيّة، أمّا أنصار « الحداثة والتّقدّم » فيكوّنون، وفقا لحصافة حمّادي الجبالي الإحصائيّة، « فئة قليلة »، وباسمها ينطق رئيس الجمهوريّة
5 – مصادرة إيديولوجيّة مفادها أنّ الإسلام السّياسيّ هو عنوان « الحداثة والتّقدّم » وأنّ العلمانيّة (الّتي لم يشر كاتب التّدوينة إليها بالاسم) هي عنوان « الرّجعيّة والتّأخّر إلى الوراء آلاف السّنين ». وفي هذا الإطار استعان الطّامع في قميص الخلافة (الّذي رفض عثمان أن يتنازل عنه لأنّ الله هم من قمّصه إيّاه) بحسّه وعلمه التّاريخيّين وأفادنا – لا فضّ فوه – أنّ أعضاء « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة » عادوا بنا القهقرى إلى « سدوم »، مشرّعين للشّذوذ الّذي كان يمارسه شعب لوط. ولسنا ندرى لماذا توقّف « المؤرّخ » العبقريّ حمّادي الجبالي عند هذا الحدّ من « حفريّاته » التّاريخيّة، الّتي سبقه إليها القصص (القصص وليس التّاريخ) القرآني، ولم يذكّر « شعبه العربيّ المسلم » أنّ اللّواط أقدم من لوط وشعبه (اللّذين لا يفيدنا التّاريخ عنهما شيئا) بملايين السّنين، وأنّ « الشّذوذ الجنسيّ » أمر أخطر من أن يعالج في بضعة كلمات، استلفها محرّرها من مصادره، الصّريحة والقطعيّة بزعمه
6 – مصادرة سياسيّة ثانية مفادها أنّ الغلبة (لأنّ الإسلام السّياسيّ يؤمن بالشّوكة ولا يؤمن بالتّمثيليّة) للأصيل وأنّ الهزيمة والبوار للمنبتّ، وهو ما يفيد ضمنيّا أنّ الأغلبيّة الأصيلة، ممثّلة في الإسلام السّياسيّ، هي رمز الوفاء و »الوطنيّة »، وأنّ الأقلّيّة، ممثّلة في رئيس الجمهوريّة والصّائدين في الماء العكر السّائرين في ركبه، هم رمز الخيانة والغدر والعمالة، وقد أشار إليهم المترشّح لسدّة الخلافة، والقانع مرحليّا بسدّة الرّئاسة في قرطاج، بقوله: « النّخبة المؤدلجة المرتبطة بأجندات وإملاءات خارجيّة »، مضيفا أنّهم : نكبة تونس وشعبها
7 – مصادرة سياسيّة ثالثة، في شكل ضربة مزدوجة لقطبي الحكم، مفادها أنّ النّظام القائم عماده « توافق مغشوش »، لن يتوانى الطّامح إلى كرسيّ الرّئاسة في إلغائه حالما يحلّ بقصر قرطاج، ليستبدله بحكومة كفاءات ولائيّة برائيّة (نسبة إلى الولاء والبراء) مكوّنة من رجال من طراز رئيس بلديّة الكرم وغيره من ذوي النّوايا الصّادقة والهمم المتحفّزة، يضعون نصب أعينهم تطبيق مبدأ « تكافؤ الفرص »، ومساعدة « العاملات (كذا) الكادحات »، و »إيجاد الحلول الاقتصاديّة الملائمة »، ومقاومة « الفساد ولوبيات الفساد »، وبطبيعة الحال توفير أسباب : التّنمية والعيش الكريم
من الواضح جدّا أنّ المصادرة الأخيرة تتضمّن إشارات مبتسرة إلى أهمّ فقرات برنامج المترشّح لسدّة « الخلاسة » (نسبة إلى الخلافة والرّئاسة)، أو « الرّئافة »، لا نراها تختلف جوهريّا عن برنامج « أخيه وصديقه »، الّذي شرّفته التّرويكا الأولى بمنصب الرّئاسة، عمادها النّقد لما هو موجود، والحكم عليه بالقصور والفساد، وغيرها من « الموبقات » الّتي يزخر بها المعجم الإسلامسياسيّ والحقوقيّ على حدّ السّواء. ولو افترضنا جدلا أنّ رئيس الحكومة ورئيس الجمهوريّة السّابقين محقّين في نقدهما لأداء نظام الحكم القائم اليوم، فيضحي من المشروع عندئذ لقارئ بياناتهما أن يسألهما عمّا منعهما، لمّا كانا ماسكين بدفّة الحكم بقبضة من فولاذ، عن تنفيذ هذا البرنامج بالذّات؟ لو كانا فعلا آنذاك ما يعدان اليوم بفعله مستقبلا لما كانت تونس تردّت في الدّرك الأسفل من التّراجع والانهيار
والعجب – كلّ العجب – من الفرقنجويّ حمّادي الجبالي، وسميّه الحقوقإنساني (نسبة إلى حقوق الإنسان) المنصف المرزوقي اللّذين رأيا القشّة في عين « الباجي »، ولم يريا الوتد في عينيهما. وهما بصنيعهما المنحاز هذا إنّما يؤكّدان ما أكّدته الحكمة الشّعبيّة (وهي غير الحكمة الشّعبويّة) منذ القدم من أنّ : المتفرّج فارس

فرج الحوار