شريعة الخراب

لا مستقبل لدولة قلّمت مخالب الرّدع فيها خوفا من سباع الفلاة المتنكّرين في بزّة الزّهّاد والصّالحين والهداة، والمتورّكين اليوم على كراسي القرار في البرلمان والوزارات والإدارات والبلديّات، فضلا عن المعابد والمدارس والمعاهد والجامعات والمستشفيات والغابات والأحراش والجبال. ما أن أمسكوا بمقاليد السّلطان (لأنّ السّلطة لا تشبع جشعهم المنقطع النّظير إلى الاضطهاد والتّسلّط) حتّى كشّروا عن نواجذ البطش، وأشهروا هراواتهم في وجه « الدّولة المدنيّة » الّتي احتضنتهم ورعتهم وفتحت لهم، بكلّ أريحيّة، أبواب الحقّ على مصراعيها، ليعبروا منها إلى مقام « الإنسانيّة ». ولكنّهم عضّوا اليد الّتي سدّت رمقهم، وعقدوا العزم على تحويل مؤسّسات الدّولة إلى إسطبلات يمارسون فيها رياضتهم المفضّلة: سياسة الأنعام. وهل من الحكمة أن تساس الأنعام بالرّفق؟
والنّتيجة أنّ الدّولة ستتحوّل عمّا قريب على أياديهم المباركة إلى « دويلات طوائف »، يضرب « أمراؤها » عرض الحائط عيانا جهارا بالقانون المدنيّ الّذي أحلّهم هذه المحالّ لأنّه، كما أعلن ذلك رأس الفرقة النّاجية أخيرا داخل البلاد وخارجها، مخالف للشّريعة الّتي اختاروها لهم نهجا. شريعة الغاب هي، لا ضوابط فيها ولا حدود، يجاهر أتباعها بالعداء للمؤسّسات الّتي منحتهم إرادة الصّناديق مسؤوليّة إدارتها. فما يهمّ أمراء الطّوائف هو البيعة الّتي جادت بها عليهم صناديق الاقتراع. بيعة مجرّدة من كلّ العوائق والكوابح والموانع والمحرّمات الّتي ابتدعتها الحداثة الفاجرة في عهود الجاهليّة الدّيكتاتوريّة الّتي أطاحت بها ثورة الياسمين الفوّاحة، ذات ربيع زمهرير
عمّا قريب ستوصد « الشّريعة » أبواب بعض الوزارات والإدارت والبلديّات في وجوه المواطنين إلى حين يستظهرون بما يثبت أنّهم مؤمنون أوّلا وآخرا، وأنّهم ملتزمون بآداب الحياء الشّرعيّة، وأنّهم مقرّون بصواب ما قرّر أولي الأمر منهم. وهل من حاجة للمواطنة في ظلّ دولة تستظلّ براية الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ؟ إنّه لمن المنطقيّ جدّا، في نظر رئيس بلديّة الكرم (ورؤساء بلديّات أخرى يشاركونه رأيه وإن لم يصرّحوا به على أمواج الأثير كما فعل هو)، أن تكون « الشّريعة » هي المرجع القانونيّ الوحيد لدولة ينصّ الفصل الأوّل في دستورها الثّوريّ على أنّها « مسلمة » من الحدّ إلى الحدّ
أدانت الفرقة النّاجية، على لسان رأسها الملهم كالعادة، تصريحات ذيلها المتهوّر، وأعلنت من جديد، بنفس الحماسة الّتي أبدتها قبل أيّام في استعراضيّة باردو، التزامها باحترام مؤسّسات الدّولة (« المدنيّة » طبعا) والقوانين (« الوضعيّة » طبعا) المعمول بها حاليّا، في انتظار أن يعصف بها عاصف « التّمكين ». وذهبت في الإدانة إلى حدّها الأقصى فأعلنت، بمباركة من مجلس « شوراها »، وعلى لسان رأسها الملهم دائما، أنّ تصريحات تابعها الوفيّ وتلميذها النّجيب (الّذي استوعب جيّدا مبدأ « الولاء والبراء » وقام بتطبيقه حرفيّا في « إمارة » الكرم الّتي شرّفته الفرقة النّاجية بالإشراف على إدارة شؤونها) لا تمثّل وجهة نظرها، المعلن عنها في لوائحها الرّسميّة. وخلاصة القول أنّ حالة هذا « المسلم الغاضب »، الّذي جاز به الغضب – عن حسن نيّة طبعا – إلى مواطن العطب، هو، من دون أدنى شكّ، حالة معزولة، لا يمكن بأيّة حال من الأحوال أن تؤثّر على حسن سير « التّوافقراطيّة » (نسبة إلى التّوافق والدّيمقراطيّة) الّتي وضع رأس الفرقة النّاجية حجر الأساس فيها. فهل يعقل أن يهدم « الإمام » ما شيّده بيمينه، والحال أنّه، كما هو معلوم عند القاصي والدّاني، معصوم من الزّلل ومنزّه عن الأهواء؟
غدا أو بعد غد ستنسج حالات معزولة أخرى على مثال الحالة المعزولة في الكرم، وتهبّ هذه الحالات المعزولة جميعا إلى ساحة باردو لتعلن لنوّاب الشّعب رفضها العمل بالقانون الوضعيّ الفاجر الّذي ورثته الدّولة، فيما ورثت من آفات لا تحصى ولا تعدّ، عن الدّيكتاتوريّة البائدة، وستقسم هذه الحالات المعزولة بصوت حالة معزولة واحدة، وبأغلظ الأيمان، أنّها لن تدنّس أياديها وأقلامها المأذونة بهذا الرّجس الوبيل. فماذا سيكون موقف الفرقة النّاجية عندئذ؟ وماذا ترى رأسها الملهم سيقول للاعتذار عن « تجاوزات » أبنائه البررة الّذين يبشّرون بثقافة جديدة (في بزّة عتيقة، ضمانا لأصالتها الهوويّة) سترقى بالدّولة التّونسيّة من موقع « المدنيّة » الوضيعة إلى مراتب « الاصطفاء » المقدّسة؟
والأكيد لدينا أنّ حالة الكرم المعزولة ليست في الحقيقة إلاّ بالونة اختبار، باركتها الفرقة النّاجية (وإن تبرّأت منها، على عادتها، علنا) تعبيرا عن إصرارها على المضيّ قدما في المطالبة بردّ ما ورد في تقرير « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة ». لذلك قرن صاحب « إمارة » الكرم بين رفضه لزواج المسلمة من غير من لم يثبت إسلامه من « الأغيار » (أي غير المسلمين الأطهار، علما بأنّ لفظة الأغيار هذه هي من اصطلاحات اليهود، ينعتون بها من ليس على دينهم) ومطالبته بإقالة رئيس الجمهوريّة الّذي أفصح عن « كفره » بتجرئه على المطالبة بالمساواة في الإرث بين الذّكور والإناث. يتّضح هكذا أنّ « الحالات المعزولة »، النّاطقة بما تبطنه الفرقة النّاجية مرحليّا لأسباب تكتيكيّة معلومة، تستهدف السّلطتين التّشريعيّة والتّنفيذيّة، وتلوّح ببديل لهما ممثّل في « الشّريعة » الّتي انتصرت لها الفرقة النّاجية عيانا جهارا في باردو
من يصدّق إذن أنّ الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ يمكن أن يدين اليوم « الشّريعة » الّتي باركها وزكّاها بالأمس في باردو؟ كلّ ما في الأمر أنّ الفرقة النّاجية تحبّذ الحشود على الأفراد. وهي لن تتأخّر في دعم حشد الحالات المعزولة حالما تحزم هذه الأخيرة أمرها، وتخرج مطالبة بردّ الأمور إلى نصابها الشّرعيّ، المنصوص عليه بالحرف في الفصل الأوّل من الدّستور الإسلامسياسيّ. عندئذ، سيقول رأس الفرقة النّاجية إنّ هؤلاء يمارسون حقّهم في حرّيّة التّعبير، وأنّ الوقت أزف لتحيين « التّوافق »، حول هذه المسائل الخلافيّة، بما يرضي جميع الأطراف، أي بما يرضي حشد حالاته المعزولة الماسكين بزمام الأمور في الوزارات والإدارت والبلديّات. فإن لم يفض « التّوافق » إلى تقرير ما أرادته الحالات المعزولة، المستظلّة براية الفرقة النّاجية، فمعنى ذلك أنّه « توافق » مغشوش، ينبغي معالجته بالمزيد من الحشود، والمزيد من الحالات المعزولة في كافّة المؤسّسات الّتي أباحتها صناديق الاقتراع لعبث الفرقة النّاجية وجنونها
إنّها لعبة القطّ والفأر، لن ينتصر فيها الفأر أبدا، ولن يدان فيها القطّ ولو خالف قوانين اللّعبة وتجنّى على شريكه في مهزلة « التّوافق » السّمجة. والمآل الحتميّ لهذه « اللّعبة » اللاّمتكافئة معلوم: يُفترس الفأر لأنّه من طبيعة الأمور أن يمزّق القطّ الفأر إربا إربا، ويذهب دم الفأر هدرا لأنّه من طبيعة الأمور أن تذهب دماء الأغبياء هدرا. ومن المعلوم أنّ الشّريعة والقانون معا لا يحميان « الأغبياء ». ويكمن هذا الغباء في الوهم، الّذي وقع « فرقاء » الفرقة النّاجية في حبائله، عندما صدّقوا أنّ هذه الأخيرة يمكن أن تلتزم بقوانين السّباق الدّيمقراطيّ. ما لم يدركه ذكاء (أو الدّهاء السّياسيّ) هؤلاء الفرقاء هو أنّ الفرقة النّاجية لا تؤمن بالسّباق، وأنّ السّياسة لديها « مبارزة » لا بدّ أن تنتهي بموت الطّرف الأضعف
قيم الدّولة المدنيّة توجد اليوم في موقع الطّرف الأضعف. وقد ازدادت ضعفا على ضعف بفعل تخاذل أتباعها وتواطئهم، بل وهوانهم على أنفسهم. والدّليل على ذلك أنّ أشياع مبدأ « التّوافق رغم كلّ شيء » هم الّذين فرشوا سجّادهم الأحمر في طريق الفرقة النّاجية، وهم من مدّوا لها أيادي العين والرّحمة، وهم من سلّموها على طبق من ذهب بلديّة الكرم وبلديّة تونس، وبلديّات أخرى لا نعرف عددها، وهم من « تقاسموا » معهم كعكعة السّلطة دون أن ينتبهوا أنّها قسمة ضيزى، وهم من يصرّون اليوم على خطئهم القاتل باستمرارهم في لعبة « التّوافق » الخرقاء الّتي حوّلها تدافع رأس الفرقة النّاجية إلى فتح مبين. إنّه سيف داموكلاس يسلّطه الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ من حين لآخر على رأس الحمل الوديع الّذي قبل أم يكون للذّئب شريكا
« التّوافق » المزعوم هو معول الخراب الّذي أمدّت به « الدّيمقراطيّة » الفرقة النّاجية لتقوّض به، على مرأى ومسمع من الجميع، صرح الدّولة المدنيّة. وليس رئيس بلديّة الكرم، أو عضوي المجلس البلديّ بقابس اللّذين رفضا التّرحّم على أرواح « الطّواغيت »، الّذين أطاحت بهم رشّاشات إخوانهم من المسلمين الغاضبين، إلاّ فيض من غيض، ولن تلبث هذه القطرات المباركة أن تجتمع فتتكوّن منها الغدران ثمّ الأنهار ثمّ الأقيانوسات الّذي ستجرف كلّ شيء
والحقيقة أنّ هذا « التّوافق » السّخيف يقوم على كذبة بادية للعيان، نستغرب كيف لم يدركها دهاء ذئاب السّياسة من خصوم الفرقة النّاجيّة. وذلك أنّ التّوافق يتمّ عادة بين طروحات متساوية صوابا وخطأ، يفضي التّداول حولها إلى انتقاء الأصلح والأجدى. والأصلح والأجدى هو ما تلاءم (أو توافق) مع الظّروف الرّاهنة. ومن الواضح للعيان أنّ التّوافق، الّذي آل بالبلاد إلى الانهيار والخراب، يهمّ طرفين غير متساويين، بل تستحيل المساواة بينهما لأنّ الفرقة النّاجية، خلافا لشريكها المسالم إلى حدّ الخنوع، تجزم أنّها امتلكت ناصية الحقّ كلّه، وتعلن تبعا لذلك عن رفضها للتّنازل عن فاصلة من قناعاتها السّرمديّة
فعلام ترى تمّ التّوافق إذن إن جاز الحديث عن توافق أصلا؟ الجواب على هذا السّؤال هو ما نشاهده اليوم من شدّ وجذب في السّاحات العامّة، وما نرى ونسمع من مهاترات مجانين الله على المنابر المقدّسة، وما تتفضّل به علينا، من حين لآخر، الحالات المعزولة في قابس والكرم، لتذكّرنا جميعا أنّ الاستمرار بعد اليوم في مهزلة « التّوافق » المشينة غفلة، وأنّ الدّولة الّتي قلّمت مخالبها القانونيّة إكراما لعيون من جعل التّوافق مرادفا للتّدافع والتّمكين لن تصمد طويلا في وجه التّتار الزّاحف، وقد تتحوّل قريبا، بقدرة الفرقة النّاجية وقوّة إرادة حالاتها المعزولة، إلى دويلات طوائف، لا يربط بينها رابط

فرج الحوار