اتّبع عقلك، فالعقل نبيّ الحلقة (16) والأخيرة : في عوائق المشروع الحداثيّ

إسلام الولاء والبراء، أي الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين ومعبوداتهم، ومؤسّساتهم، وعلومهم، وقيمهم، والجهاد فيهم باق إلى قيام السّاعة […] هو الّذي علينا أن نضعه في أرشيفات التّاريخ، وليس على جدول الأعمال اليوميّ. هذا هو الإسلام، الّذي يجب أن تختار النّخب والجمهور المستنير بينه وبين إسلام العقلانيّة الإسلاميّة المنفتح على العالم الّذي نعيش فيه
العفيف الأخضر، إصلاح الإسلام، ص: 23

– 365 –

يقول المثل العربيّ: « لا يضيع حقّ وراءه طالب ». وقد ضاع اليوم حقّ التّونسيّين في مجتمع حداثيّ يعتقهم من بوتقة الماضويّة المخنقة لأنّ أصحاب هذا الحقّ فرّطوا فيه بمحض إرادتهم، وانسحبوا من ساحة المواجهة ليتركوها نهبا للإسلام السّياسيّ الرّجعيّ، تخفق في سمائها راياته الزّرقاء والسّوداء

– 366 –

يتوهّم « زعماء » اليسار أنّ في رفعه لشعار « قفّة الزّوّالي » دليل كاف على حداثيّته وتقدّميّته، وكأنّه بالبز وحده يحيا الإنسان. إنّه لمن المؤسف حقّا أن يكون « الزّوّالي » المسكين، في نظر حماة حقوقه من اليساريّين، في مقام البهيمة، تسعده كسرة خبز يسدّ بها رمقه

– 367 –

إن لم يكن اليسار – وأقصى اليسار تحديدا – هو صاحب المشروع الحداثيّ وقائده، فمن تراه يكون إذن؟ ومن هو المؤهّل اليوم، في تونس وفي غيرها من البلدان الّتي وقعت في أسر أقصى اليمين الدّينيّ الرّجعيّ، إلى الانتصار لحقوق الإنسان الكونيّة – أو لبعضها على الأقلّ – الّتي انتصر لها تقرير « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة »؟

– 368 –

امتناع أقصى اليسار في الاضطلاع بدوره التّاريخيّ في دفع عجلة الحداثة في تونس هو الدّليل على أنّ « الأقصيين » (اليمين واليسار) لا يختلفان جوهريّا، فهما يصدران عن نفس المنظومة الأصوليّة العقديّة القائمة على الإيمان الرّاسخ بالجنّة، أو بالمدينة الفاضلة، تكون حكرا على المؤمنين أو على الكادحين المعذّبين في الأرض

– 369 –

يرفض أقصى اليمين الإسلاميّ الخوض في مشروعيّة بعض الحقوق الفرديّة، وخاصّة منها ما يتعلّق بالحرّيّة الجنسيّة، معلّلا رفضه بنصوصه القطعيّة المقدّسة. ولكن ما الّذي يفسّر عزوف أقصى اليسار عن الإدلاء برأيه في هذه المسألة؟ ألا يعني ذلك أنّ « الطّهرانيّة » هي إحدى القواسم المشتركة بين « الأقصيين »، وإن اختلفت النّصوص القطعيّة لكليهما. فما هو « شذوذ » و »انحراف » في نظر أقصى اليمين الدّينيّ يغدو « ميوعة » و »انحلالا بورجوازيّا » في نظر أقصى اليسار المحافظ

– 370 –

الحداثة ليست شأنا سياسيّا خالصا، بل هي شأن مجتمعيّ، وذلك لأنّ السّياسيّين سجناء خياراتهم الحزبيّة، الضّيّقة بالضّرورة، وحساباتهم البقّاليّة (نسبة إلى « حسابات البقّال » (calcul d’épicier) الّذي ضربت به اللّغة الفرنسيّة المثل في الحرص) الّتي تقدّر الأرباح والخسائر بالملاليم، ومزاجيّة رؤوسهم الّتي يختلط فيها، إلى حدّ الانصهار التّامّ أحيانا، الخاصّ والعامّ، فيقدّم الأوّل على الثّاني في الغالب الأعمّ. وهذا هو ما يبرّر مثلا حماسة أقصى اليسار لحرّيّة الملبس في حقّ المنقّبة وسكوته عنها في حقّ « السّافرة »، أو احتفاؤه الكبير بـ « شهداء » السّلفيّة الجهاديّة وقلّة اكتراثه بالشّهداء الّذين عصفت بأرواحهم الأذرع العسكريّة للإسلام السّياسيّ، المتحصّنة في الجبال

– 371 –

هل من العدالة أن يقرّ أقصى اليسار بشرف الشّهادة لإرهابيّي الإسلام السّياسيّ، والحال أنّ هذا الأخير، كما تفصح عن ذلك منابر أتباعه وأعوانه، وأذرعه النّاعمة والغليظة، وأذياله المتمسّحين بعتباته وقد تحلّبت أفواههم شرها لعطاياه السّنيّة، ضنّ بهذا الشّرف الأثيل على شكري بالعيد، علما أنّ شكري بالعيد ليس في حاجة إلى لقب « الشّهيد » لأنّه أكبر من هذا « اللّقب » الّذي يتمتّع به اليوم في تونس عتاة المجرمين، وقتلة الأطفال، ومنتهكو الأعراض من « الجهاديّين »؟ فشكري بالعيد كان ضحيّة جريمة سياسيّة اقترفها الإسلام السّياسيّ في عهد جبروته
والحقيقة أنّ « الشّهادة » مصطلح دينيّ بامتياز، ثمّ عمّم في الاستعمال حتّى فقد خاصّيّته الدّينيّة. ولكنّ الإسلام السّياسيّ الماضويّ الثّبوتيّ لا يعترف بالتّطوّر اللّغويّ، وبالتّطوّر المجتمعيّ عامّة، ويتشبّث بالمعنى الشّرعيّ الأصليّ للكلمة، بصفته امتيازا خالصا له ولأتباعه

– 372 –

الإسلام السّياسيّ هو عدوّ الحضارة في كلّ مكان، وإن أفادت تصريحاته أنّه يستهدف بصورة خاصّة الحضارة الصّليبيّة الصّهيونيّة. واقع الحال يدلّ أنّ الإسلام السّياسيّ يولي جلّ اهتمامه لتقويض المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة الّتي أفرزها التّطوّر التّاريخيّ. وحيث أنّه ينكر وجود التّاريخ، ولأنّه يرى التّطوّر تشويها للدّولة الإسلاميّة المدينيّة، وانحرافا عنها، فإنّه يسعى اليوم بدون هوادة إلى إحياء ما اندثر بعد إلغاء النّسخة – أو النّسخ – المغشوشة

– 373 –

ما من شكّ في أنّ الإسلام السّياسيّ واع تمام الوعي برهانات المعركة الّتي تدور رحاها اليوم في تونس، واختار لتحقيقها الأساليب الأكثر جدوى، مستغلاّ في ذلك الآليّات الدّيمقراطيّة. ولا لوم عليه في ذلك، ولكنّ اللّوم على خصومه السّياسيّين الّذين تهاونوا في حقوقهم فلم يستغلّوا نفس هذه الآليّات الدّيمقراطيّة لسدّ الطّريق على الأسلمة التّدريجيّة للمجتمع التّونسيّ. ما الذّي يمنع نظريّا قوى اليسار، الملتئمة تحت راية الجبهة الشّعبيّة، من المطالبة مثلا بحلّ الجمعيّات الأصوليّة الجهاديّة، المتنكّرة في شكل أحزاب وجمعيّات خيريّة، أو المطالبة بغلق الرّوضات والمدارس القرآنيّة، أو المطالبة بوقف مسخرة التّعليم الزّيتونيّ، أو بدعم تقرير « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة »؟
الخوف من الشّعب (« المتخلّف » في ظنّ البعض)، وازدراؤه بسبب ذلك، وتملّقه لنفس هذا السّبب هي من ضمن الأسباب الرّئيسيّة الّتي تعوق عمل اليسار. ومن الملاحظين من يرى أنّ السّبب الأصليّ في هذا الموقف المهادن للرّجعيّة الدّينيّة يكمن في عدم التزام القوى اليساريّة بمبدأ الحريّة، وخاصّة منها ما يهمّ حرّيّتي المعتقد والضّمير. ويمكن القول، بعبارة أوضح، أنّ الخوف من مواجهة المقدّس عموما، ومظاهره المجتمعيّة الخرافيّة بصورة خاصّة، هو الّذي يكبّل أيادي هذا اليسار الّذي يرى -أسوة بأقصى اليمين الإسلاميّ – في الإلحاد تهمة

– 374 –

« حيث المصلحة فثمّة شرع الله » . لو كان الشّاطبيّ بيننا اليوم، لكفّرته الفرقة النّاجية بقوله هذا. والأكيد أنّ المسعورين من أبناء هذه النّحلة كانوا سيطالبون برجمه في السّاحة العامّة، تماما كما طالبوا بذلك في حقّ رئيسة « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة »، فكلاهما اقترف، في نظر الإسلام السّياسيّ، الجريمة الّتي لا تغتفر، وهي المتمثّلة في تقديم « المصلحة » على « النّصّ »، أي في تقديم « العقل » على : النّقل

– 375 –

يتناسى الإسلام السّياسيّ، ظنّا منه أنّ تدستره سيفتح أمامه كلّ الأبواب الموصدة، أنّ المرجع بالنّسبة للدّولة التّونسيّة اليوم هو الدّيمقراطيّة وليس الإسلام، وذلك لأنّ الدّول تعرّف بنظمها السّياسيّة وليس بأديان – أجل بأديان – مواطنيها. والدّيمقراطيّة الّتي قبلت بها الفرقة النّاجية أثناء إعداد الدّستور ملزمة للأغلبيّة والأقلّيّة معا، ولكنّها لا تخوّل للأغلبيّة أن تلغي الأقلّيّة وتتجاهل حقوقها. فلتتذكّر الفرقة النّاجية، الّتي تقدّم نفسها بصفتها « حزبا مدنيّا »، أنّ وجودها مخالف للدّستور الّذي لا يجيز وجود أحزاب بخلفيّات دينيّة، ولتتذكّر كذلك أنّ « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة » لم تبعث للدّفاع عن حقوق المسلمين دون حقوق سواهم من الملل الأخرى

– 376 –

الانسلاخ عن الإسلام ردّة. أمّا انسلاخ غير المسلمين عن أديانهم فهو هداية. والحقيقة أنّه لا فرق بين الفعلين لأنّ المنسلخ عن دينه الأصليّ – لو افترضنا جدلا أنّه اعتنق هذا الدّين بمحض اختياره – يتوهّم – حقّا أو باطلا لا يهمّ – أنّه يهرب من الجحيم إلى النّعيم، يستوي في ذلك اليهوديّ والمسيحيّ والمسلم والبوذيّ والوثنيّ.

– 377 –

المحدّد في الانتماء الدّينيّ العامّ هما عاملي الميلاد والجغرافيا. وقلّ ما يخرج المرء عن جبروت هذين العاملين لأنّ الانسلاخ عن دين لصالح دين آخر هو رهن عوامل فرديّة لا تشكّل أدنى خطر على الدّين المنسلخ عنه، ولا تزيد الدّين المعتنَق قوّة ومصداقيّة

– 378 –

سيكتشف المعوّلون على القوى اليساريّة، في تشكيلتها الحاليّة، للاضطلاع بمستلزمات معركة الحداثة في تونس، أنّهم إنّما على السّراب يعوّلون. والدّليل أنّنا لا نسمع اليوم إلاّ صوت الفرقة النّاجية المجلجل مطالبا باستفتاء عاجل « لتسفيه » تقرير « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة ». أمّا المركزيّة اليساريّة فهي تغطّ في نوم الحياد والعافية، وهو ما يفيد أنّ التّقرير المذكور ورهاناته الكبرى لا يعنيها من قريب أو بعيد لأنّها قد تعوق « قادتها »، الحالمين بعرش قرطاج، عن تحقيق هذا المطمح الّذي سيقلب الموازين في البلد وينقذ « قفّة الزّوّالي » من التّصحير المعيشيّ

– 379 –

قد يكون من المفيد لأتباع الفرقة النّاجية أن يقرأوا – إن كانت القراءة من شيمهم – تصريحات معتنقي المسيحيّة من تونسيّي ما بعد « ثورة الرّبيع » (الّتي لم تتمخّض حتّى عن طيف وردة)، وسيدركون عندئذ أنّ « الهداية » ليست بالضّرورة في اعتناق الإسلام

– 380 –

يبدو أنّ المشكل، الّذي يعوق تحقيق العدالة الاجتماعيّة، يكمن في « قفّة الزّوّالي » وليس في النّظام الاجتماعيّ الجائر الّذي أوجد « الزّوّالي ». هذا على الأقلّ ما يوحي به تمسّك اليسار بهذا الشّعار. ولو تفحّصنا مليّا مراميه لاتّضح لنا أنّه شعبويّ المنزع، لا يختلف جوهريّا عن شعارات « الصّدقة » و »الزّكاة » الّتي يتشدّق بها أقصى اليمين الدّينيّ، بصفتهما من أهمّ ركائز : اقتصاد المنّ

– 381 –

الأديان لا يلغي بعضها البعض. هذا ما يتّضح بجلاء في علاقات الإسلام باليهوديّة والمسيحيّة بصورة خاصّة. غاية ما في الأمر أنّه تعارض معها، بل وجاهر لها بالعداء أحيانا، ولكنّه لم يوفّق في إزالتها. وهو ليس المنهزم الوحيد في هذا الميدان، وليس المنهزم الأخير. وكذلك الشّأن بالنّسبة لمعركة « الإسلام السّياسيّ »، الّذي ازداد صلفا بعد دسترته، في معركته « الدونكوشيتيّة » مع الحداثة تحت شعار المحافظة على الأصالة، أي على الموت، لأنّ ما لا يتحوّل ميّت بالضّرورة.
وما غاب عن فطنة الفرقة النّاجيّة ورأسها الملهم، وهي الّتي تقود وإيّاه قاطرة الإسلام السياسيّ، أنّ الأصالة ليست في ما يدعوان إليه من جمود وخمول، وإنّما هي في ما سطّر بين دفّتي تقرير « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة »، المتناغم مع التّاريخ ومتطلّبات الحياة المعاصرة

– 382 –

عندما قال المعرّي بيته الشّهير

خُصِصْتَ بِعَقْلٍ فَاتَّبِعْهُ *** فَكُلُّ عَقْلٍ نَبِيٌّ

لم يكن يقصد أنّ العقل مواز للنّبوّة في بعدها الدّينيّ، ولكنّه يقصد أنّ العقل خير مشير وملهم في شؤون الحياة الدّنيا والتّغيّرات النّاجمة عن تبدّل الأحوال والظّروف. وقد كرّر هذا القول بطرق مختلفة، كما في قوله مثلا: « لا إمام سوى العقل ». أمّا الحقائق الغيبيّة فليست في حاجة إلى الاستدلال العقليّ. لذلك كان خطاب أبي العلاء أخلاقيّا بالأساس، لا أثر فيه للسّجال اللاّهوتيّ الّذي كان دائرا في زمانه حول الذّات الإلهيّة
ولكنّ المعرّي كُفّر ببيته هذا، وبأبيات كثيرة أخرى مسجّلة في ديوانه الموسوم بـ « لزوم ما لا يلزم ». وقد بلغت الحماسة بواحد من هؤلاء المتشدّدين إلى التّعبير عن حسرته الشّديدة لأنّ الموت سبقه إلى روح هذا « الزّنديق ». ولو تأخّر الموت عن موعده قليلا لكان القائمون بحقّ الله في الأرض، الّذين أهدروا دم رهين المحبسين، طبّقوا ما تقرّر في حقّه شرعا
وأنا قد سرت في هذا السّفر على نهج أبي العلاء، فأعرضت عن السّجال اللاّهوتيّ العقيم (الّذي بات اختصاصا محكمتفتيشيّا (نسبة إلى محاكم التّفتيش) إسلامسياسيّا (نسبة إلى الإسلام السّياسيّ)، واقتصرت على استعراض الأدواء الّتي تنخر كيان المجتمع التّونسيّ بسبب نبذه للعقل وتجريمه له بإيعاز من النّقويّين الطّهرانيّين الّذي لم ينفكّوا يحذّرون المسلمين من دنس حضارة الغرب وفكره، وعلومه خاصّة. ولكنّني لن أعدم من سيرفع في وجهي تهمة « الكفر » بدعوى أنّني تجاوزت الحدود، وخرجت عن المألوف، وانقدت لدواعي الهوى، واعتديت على المقدّسات… إلخ

– 383 –

لا يجوز بأيّة حال من الأحوال أن ينعت الحقوقيّ اللاّدينيّ أو الملحد بالكافر والمنافق لأنّ هذه التّسميات هي من قبيل الإسقاط الهجين الّذي لا ينسجم مع المقوّمات الفكريّة للعصر الرّاهن. متى تدرك الفرقة النّاجية أنّها لن تغيّر تونس بلغتها العتيقة ومصطلحاتها المهترئة، وأنّ عليها، إن أرادت أن تبلغ صوتها لتونس، أن تكلّمها بلغة الأحياء لا بلغة الأموات؟

– 384 –

خطيئة الإسلام السّياسيّ تتمثّل في سعيه المحموم لإلغاء الحاضر، أي التّاريخ، ليحلّ محلّه ماضيه الأسطوريّ الخلاّب، ممثّلا في المدينة الفاضلة الّتي يزعم أنّ إسلام البدايات أقامها في طيبة (المدينة). ولكنّ من يقرأ مصنّفات المؤرّخين القدامى والمحدثين لا يقع على أثر لهذه الجنّة الأرضيّة في صفحاتها الملطّخة بدماء المواجهات القاسية بين صحابة النّبيّ الأبرار، لا تختلف جوهريّا عن كلّ المواجهات الّتي تحدث عادة للاستئثار بتراث زعيم مؤسّس

– 385 –

إن كان التّمسّك بمعتقدات الآباء والأجداد فضيلة، فلماذا ترى أدين عرب عصر الدّعوة لمجرّد أنّهم رفضوا الانسلاخ عن دين أسلافهم لاعتناق الدّين الجديد؟ ألا يفيد ذلك أنّ كلّ متمسّك بالقديم ورافض للجديد هو كافر بالضّرورة، لأنّه يقف ضدّ قانون الحياة؟ والإسلام السّياسيّ، الّذي يستميت اليوم في الدّفاع عن القديم المتآكل من شرائع الإسلام، هو كافر في ميزان مؤسّس الإسلام نفسه لأنّه يرفض الإقرار بمبدأ التّطوّر الّذي لا حياة للإسلام بدونه

– 386 –

ما تجدي المسلمين أفرادا وشعوبا مزاعم دعاة التّخريف والهلوسة حول ما يسمّى « الإعجاز العلميّ »؟ ماذا عسى المسلمون سيستفيدون من هذا الهذيان، وهل ترى هذه الأكاذيب الفاقعة هي الّتي ستحفّزهم على خوض مجالات البحث العلميّ بطريقة عمليّة أم أنّها ستدفعهم إلى الاكتفاء بهذه « الإنجازات » المعجزيّة الوهميّة؟

– 387 –

إذا كان الكفر – أي المعارضة – تهمة يدان بها مقترفها، فالإيمان تهمة هو الآخر لأنّه الوجه الآخر لنفس العملة، يمكن بمجرّد « ثورة ربيعيّة » أن يتحوّل إلى نقيضه. وهكذا أضحى « كفّار » الأمس القريب هم « مؤمنو » اليوم. وهذا مصداق قول من قال إنّ الفكر التّكفيريّ سلاح ذو حدّين. ولكنّ المعضلة أنّ الإسلام السّياسيّ لا يؤمن بقول الرّسول: « لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين ». ولو كان من المؤمنين به لكان ألغى هذه التّسميات، الهجينة والعقيمة، ولكان استبدلها بلفظة « المواطن »، فهي الوحيدة اليوم الكفيلة بحفظ كرامة الجميع

– 388 –

القرآن حدّد بوضوح مصطلحات زمن الدّعوة فسمّى الموالين لصاحب الدّعوة « مؤمنين »، ونعت معارضيهم « بالمشركين » حينا، و »الكافرين » حينا آخر. أمّا أعداء الدّعوة الجديدة من الدّاخل فنعتهم « بالمنافقين ». هذه المصطلحات، « السّياسيّة » في جوهرها، لا تنطبق على أوضاع زماننا لسبب بسيط جدّا: لقد انقضى زمن الدّعوة منذ ما يربو عن أربعة عشر قرنا

– 389 –

صنّف الغزالي كتابا ألحّ فيه على ضرورة « لجم العوامّ » عن الخوض في « علم الكلام ». ما أحوجنا اليوم إلي من يلجم المشعوذين والمهووسين ومجانين الله الأمّيّين من الخوض في ما ليس في متناول مداركهم

– 390 –

ماذا يفيدنا اليوم فقه فقهاء الأزمنة الغابرة، وماذا عسانا واجدون فيه من حلول لمعضلات لم تكن لتخطر لهم على بال؟ ولا لوم عليهم في ذلك، ولكنّ اللّوم – كلّ اللّوم – على من زيّنت له همّته القاصرة أنّ بإمكان الأموات أن يسوسوا بكلّ كفاءة ونجاعة شؤون الأحياء

– 391 –

نسمع عن دول تبذّر أموالا طائلة للنّهوض بقطاع « البحث » في مجال « الإعجاز العلميّ ». ألم يكن من الأجدى للعلم والعلماء وللبلد الّذي يتكبّد هذه المصاريف الباهظة لو أنفقت هذه الأموال في تنمية الحسّ العلميّ، وتشجيع مجالات البحث في ما يعود بالنّفع على النّاس والبلد معا؟

– 392 –

نحن نعيش في عالم تغيّرت فيه كلّ الثّوابت، حتّى تلك الّتي كانت تعتبر من البديهيّات، ومنها مفهوم « الجنس » مثلا الّذي لم يعد يقتصر على التّمييز الشّكليّ الظّاهريّ بين الذّكر والأنثى. هذا هو الموجود فعلا اليوم، ولا جدوى في رفض ما هو موجود لأنّ الرّفض، والإمعان فيه، لن يغيّرا من واقع الحال شيئا

– 393 –

الإيمان بالإسلام ليس حتميّة جينيّة. وبناء على ذلك فلا فضل للإسلام (في صيغته السّياسيّة المدسترة) على غيره من الدّيانات الّتي يعتنقها تونسيّون، قلّوا أو كثروا لأنّ الحقوق (أو الفضل بلغة الإسلام السّياسيّ) يحدّدها مبدأ المساواة، ولا علاقة لها بالعدد. وهذا هو بالذّات المبدأ الّذي يرفض رأس الفرقة النّاجية، المتسربل تمويها في بدلة عصريّة، الإقرار به. ولأنّه يؤمن أنّ كلّ الحقّ للأغلبيّة العدديّة، وأنّ على الأقلّيّات العدديّة أن تنكتم، وتسير « الحيط الحيط » إن رغبت في العافية، أو تنفجر غيظا، فقد رفض استقبال : لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة

– 394 –

العلماء القدامى أجدر بالاحترام من المتحدّثين اليوم باسمهم على منابر الاجترار لأنّهم أبدعوا ما يفيد عصورهم واكتفى اللاّئذون براياتهم اليوم بترديد أقوالهم ترديد ببّغاوات السّيرك.

– 395 –

التّماثل بين أفراد مجتمع مّا أمر لم يحصل قديما، ولا يمكن أن يحصل اليوم، ولن يحصل مستقبلا ولو زعم رأس الفرقة النّاجية العكس، وأقسم بالأيمان المغلّظة أنّه سيأتي ما لم تستطعه الأوائل

– 396 –
الإكراه في الدّين يفسد العلاقة الوجدانيّة – وهي جوهر الإيمان – بين المؤمن ومعبوده، فتتحوّل العبادة إلى حركات ميكانيكيّة تنجز خوفا أو رياء أو خداعا. وهذا هو حال العبادة اليوم في فسطاط الإسلام السّياسيّ الّذي ابتكر، فيما ابتكر من الرّوائع الفرجويّة، الصّلاة الطّريقيّة القائمة على مبدأ حقوقيّ لا مطعن فيه، مفاده أنّ الإسلاميّين « ملاّكة » وليسوا « كرّاية » (أو « كُرّاي »)، وهو ما يفيد ضمنا أنّ من ليس منهم من التّونسيّين هم « كرّاي » فقط يمكن أن يطالبهم « الملاّكة » الإسلاميّون بالخروج من « ملكهم » في أيّ وقت يشاؤون

– 397 –

إنّه لمن الخزي أن تحتفي « الأمّة » الإسلاميّة برافعي راية الفكر التّكفيريّ الدّمويّ، من أمثال ابن تيميّة الّذي أغدقت عليه الوهّابيّة لقب « شيخ الإسلام »، وتتجاهل فيلسوفا عظيما كابن رشد، الّذي أضحى منذ عصر التّنوير الأوربّي مرجعا عالميّا. والطّامة الكبرى أنّ هذا الازدراء للفكر التّنويريّ الإسلاميّ ليس حكرا على الأصوليّة الدّينيّة، بل تشترك فيه معها الأصوليّة اليساريّة. فمن اليساريّين من يعتقد أنّ « التّراث الإسلاميّ » بطمّ طميمه تراث رجعيّ متخلّف، ولا يخجلون من المناداة بإلغائه كلّيّا

– 398 –

موت الضّمير الأخلاقي هو باب مشرع على كلّ الموبقات والجرائم لأنّ في زواله زوال لمكارم الأخلاق. أمّا الضّمير الدّينيّ الإسلامسياسيّ فهو ضمير انتقائيّ ومنحاز، وعنصريّ حتّى النّخاع، همّه أن يستأثر بالكون لنفسه ولو اقتضى ذلك إفناء البشريّة

– 399 –

أما كان الأجدر برجال اللاّهوت الإسلامسياسيّ المتبزنطين (أي الثّرثارين، نسبة إلى الجدل البيزنطيّ) أن يتساءلوا، إزاء تواتر أحداث التّقتيل والتّنكيل والاغتصاب، كيف لنحلة تجيز تعذيب المخالف وإعدامه أن تدرّ على أتباعها فيضا من الرّحمة والإيثار والتّقوى؟
وما أجمل ما قال أبو نواس متعجّبا – ومدينا في نفس الوقت هذا الاعتداء الفاحش على أبسط قواعد المنطق السّليم – من هذه المفارقة

رَبٌّ غَفُورٌ رَحِيمٌ

لَهُ عَذَابٌ أَلِيمُ

هَذَا كَلاَمٌ مُحَالٌ

لاَ يَرْتَضِيهِ حَكِيمُ

– 400 –

ثورة « الرّبيع العربيّ » مجرّد زوبعة في كأس بالنّظر إلى النّتائج الكارثيّة الّتي تمخّضت عنها. والسّبب في ذلك أنّ هذه « الهبّة » لم تكن نتاجا لثورة ثقافيّة وعلميّة، كما هو الحال مثلا مع الثّورة الفرنسيّة. ومن المؤشّرات العديدة الّتي تدلّ على اقتراب اندلاع الثّورة الثّقافيّة في تونس تقرير « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة » الّذي رفضه أقصى اليمين الدّينيّ، وخذلته القوى السّياسيّة، « التّقدّميّة » بزعمها، وانتصر له المجتمع المدنيّ والمثقّفون من كتّاب وشعراء وأساتذة جامعيّين وفنّانين من شتّى الاختصاصات. هؤلاء هم عصب الثّورة المرتقبة، وهي ثورة ثقافيّة بامتياز، لا مكان فيها لأصوليّي اليمين واليسار لأنّهم للشّمس أعداء

فرج الحوار