راشد الغنوشي ومشروعه : دولة التسول

تصدرت حركة النهضة الإخوانية الأحزاب والمستقلين نتائج الانتخابات. ولا يعنينا إن كان تصدّرها بنسب ضعيفة أو قويّة، لأنّها تمكّنت من استغلال 52 مقعدا وتوظيفها بكيفية ضمنت بها ما يمكن أن يطمح إليه كلّ حزب: جمعت السلطتين التشريعية والتنفيذية، واطمأنّت إلى الرئاسية التي لن يأتيها منها ضرر، بما أنّ التوجّهات العامّة للرئيس الجديد لا تزعجها
أمام هذا الوضع المريح يمكن للملاحظ أن يقول إنّ الأمور استتبّت بالنسبة إلى إخوان تونس، وأن يقول إنّ ركب أبناء البنّا سينطلق قريبا في سبيل تحقيق حلم عاش في دمائهم، ولأجله ظلّوا يناضلون طيلة أجيال، وإنّه بفضل الغنوشي، الابن البارّ للأب الراحل سيعيش الإخوان على وقع نغمات متفائلة من جديد، خاصّة بعد أن فشلوا في الاستئثار بالسلطة في مصر، وأنّ نجمهم قد أفل في السودان بعد حكم دام 30 سنةغير أنّ ما نعيشه هذه الأيام وما نشاهد من حال التوتّر وارتباك في أقوال الإخوان » المنتصرين » وأفعالهم. وما يبلغ آذاننا من شطحات في تصريحاتهم وتنكّر لمواقفهم، وإن كان أمرا ليس بالجديد، جميع هذه السلوكات النهضوية تدفعنا إلى التساؤل عن صفة هذا الانتصار؟؟ وتدفعنا إلى الريبة في دلالته؟؟ حتى كأنّه انتصار مغشوش وغير مكتنز بدلالات الثقة في النفس وإنّما تجده مفعما بالشكّ والحذر وخوف شبيه بحال من الفزع، حتى كأنّه خوف من حاضر مريض وتوجّس من غد قد يحمل إليهم نذيرا إن لم نقل فشلا قد يعيشون أطواره مثلما عاشها إخوانهم بمصر أو السودان. وعلى هذا الأساس نقول: إنّ مسؤولية إخوان تونس مضاعفة، مسؤولية تقوم على أن يحافظوا على السبق في المرتبة الأولى، لأنّ السقوط يفتح باب جهنّم في المساءلة والمحاسبة، ولأنّ السقوط يعيدهم إلى المربّع الأوّل ولهم في إخوانهم خير مثال. نتيجة لذلك فإنّ مسؤولية الغنوشي تاريخية ومفصلية في سيرة الإخوان، أمكن له أن يوفّق في مرحلة أولى. وهو اليوم مطالب بتسطير الخطوط الكبرى للمرحلة الثانية؛ ولا ننسى أنّها مرحلة كلّما شرع في تحقيقها الرجل إلاّ وأصابه شيء من الارتباك، كيف لا وهي أعسر المراحل، وبها يتبيّن إن كان تنظيمه قادرا على الثبات والعمل في مجتمع يتّصف بالحذر منه إن لم نقل يلفظه
استطاعت قائمات النهضة أن تفتكّ نسبة أعلى من التصويت مقارنة بغيرها من القائمات، وذلك رغم غياب برنامج انتخابي، وإنّما اعتمدت خطابا جديدا استعار مفاهيم الثورية التي كانت قد تخلّت عنها منذ سبع سنوات على أقلّ تقدير. ولا نعتقد أنّ تغييب الحديث عن برنامج انتخابي من باب السهو بقدر ما هو محاورة لتجربتهم السابقة وما سوّقوه من وعود انتخابية جامحة خلّدتها الذاكرة الجمعية من قبيل الوعد » بتشغيل 500 ألف منصب شغل إضافي خلال الفترة المتراوحة بين 2012 و2016، وتحقيق نسبة نمو سنوي في حدود 3.6 في المائة، ومن قبيل وعدها بأن يرتفع دخل الفرد التونسي إلى مستوى ستة آلاف دولار، ومن قبيل توفير 300 ألف منصب شغل لفائدة حاملي الشهادات العليا حتى ينزل معدل البطالة إلى 5.1 في المائة سنة 2016. ووعدت الحركة كذلك ضمن برنامجها الانتخابي بأن تكفل القطاع العام بتوفير 100 ألف منصب شغل خلال الفترة الفاصلة بين 2012 و2014″. رفض الغنوشي، ومن ورائه النهضة أن يلتزم هذه المرّة بأيّ وعد، وذلك حتى لا يثوّر على نفسه غبار الماضي القريب. وأمكنه أن يمتطي ظهر السلطة بفضل تشتّت الاتجاهات الإيديولوجية المعروفة بالوسطية وبفضل انحسار التيار اليساري الذي يعيش انكسارا وتفتّتا يعلم الله كم سيأخذ له من الوقت حتى يلملم جراحه. وبرزت ضمن هذه الديباجة الأيديولوجية كتلة التنظيم الدولي متميّزة قليلا عن غيرها، فأمكنها الاستئثار بالمشهد السياسي؛ ودخل الغنوشي لعبة » المحاصصة » التقليدية والتي فيما يبدو مازالت تستهوي الكثير من الأحزاب، فرضيت بأن تأخذ مكانة النداء في إرساء علاقة سرية مع الغنوشي، وإن كانت على دراية بأنّها ستذوق عسيلة السمّ القاتل
المهمّ في جميع ما أبنّا، هو أنّ النهضة/ الغنوشي بدأ في عرض برنامجه بعد أن حماه بغطاء شرعي، وأطلقه من مجلس  « الشورى » ، ليتقدّم به إلى بقية الأحزاب أملا في أن يكون وثيقة تعتمدها الحكومة القادمة. والناظر في البرنامج يلاحظ أنّه قائم أساسا على مقاربة في إصلاح المشروع الاقتصادي يمكن وصفه بالقديم / الجديد، أو قل هو قديم من جهة ما يشتمل عليه من مقاربات ومصطلحات وجديد لأنّ النهضة نفثت في روحه وبعثته من جديد إلى الوجود. وفي الحقيقة هو برنامج اقتصادي يصحّ أن ننعته  « ببرنامج المتسوّلين » ، ولا أثر غير ذلك فيما نقرأ في هذه الوثيقة، ونبيّن ذلك

فنحن لا نأتي بجديد أو بدعة عندما نقول إنّ أهمّ قاعدة قامت عليها سياسة الإخوان الاقتصادية بتونس هي القروض أو طلب الدين، وتقريبا منذ 2012، ولا نأتي بجديد عندما نقول إنّ اجتماعات مجالس البرلمان التي انعقدت للنظر في المسائل الاقتصادية طيلة هذه السنوات إنّما كانت لأجل النقاش في قروض الأف.أم.إي. بل لا ننسى أنّ أوّل من اتصل بصندوق النقد الدولي ( أف.أم.إي ) هو الإخواني عليّ العريض، ومنذ ذلك الحين بدأت قصة تسوّلنا مع هذا الصندوق، وليس بالخفيّ ما تفرضه هذه المؤسسة من شروط لتوفير الدين سواء اقتصاديا أو سياسيا أو اجتماعيا
في الحقيقة ازدهرت وظيفة التسوّل الإخواني في هذه السنوات، بل يمكن أن نقول إنّنا الشعب المتسوّل بامتياز: فقد تحصّلت تونس، وبفضل سياسة الإخوان بين سنتي 2016 و2019 على ما يقارب 50 قرضا، وتلقوها من جهات رسمية حكومية ومن مؤسسات تقرض بنسب أرفع من نسب الجهات الحكومية
وتفيد التقارير أنّ « هذه الديون بحساب الأورو تبلغ (51.6 بالمائة) يليه الدولار (31 بالمائة) ثم الين الياباني (11.4بالمائة)
ورغم تحذير محكمة المحاسبات التي نادت بضرورة « ترشيد الاقتراض من السوق المالية العالمية والحد من كلفته نظرا لصيغة تسديده الذي يتم دفعة وهو أمر يعرّض الدولة الى مخاطر إعادة التمويل« . فإنّ القيمة الجملية للقروض الخارجية المتحصل عليها من 2012 الى ديسمبر 2016 فقط تجاوز 18.725 مليون دينار، ومجمل القروض 123 قرضا
وتشير تقديرات ميزانية 2020 إلى أنّ حجم الديون الخارجية المستحقة في هذا العام ستبلغ حوالي 12 مليار دينار تونسي، أي ما يقارب 25% من إجمالي ميزانية الدولة لهذه السنة
وهكذا نلاحظ أنّ خبرة الإخوان الاقتصادية قائمة أساسا على فنون التسوّل وعلى معرفة الجهات التي يسهل منها التكدّي وإن اتخذوا لبوس » الدين ». وبالمقابل، لم تترجم هذه الديون على أرض الواقع. ولا مراقب ولا محاسب. بل ازدادت تونس العميقة فقرا، وصار التونسي عاجزا عن ملء بطنه وبطون أبنائه الذين يتنقّلون إلى المدارس حفاة عراة
هذه نتيجة التسوّل المقنّع، وهذا حال التونسي وهو يتوجّه إلى صناديق الاقتراع ولا يملك وعدا أو حتى بريق رجاء
ما هو البديل إذن بعد الانتخابات، وبعد أن دعّم الإخوان منصبهم في السلطة؟ هل سيسترسلون في سياسة التسوّل الخارجي، عن طريق الديون؟ لكن، يبدو أنّ الأفق آيلة إلى الانسداد. وعليه يجب ابتداع حلول بديلة: هل في تقديم خارطة طريق اقتصادية جديدة تكسب سياسة الإخوان طابعا جديدا؟ أم في البحث عن حلول ترقيعية لا تخرج عن سياق التسوّل؟
إنّه التأسيس لقانون الزكاة، قانون يحوّل وجهة التسوّل نحو ذاك التونسي الذي تحدّثنا عنه، تونسي يكاد لا يجد ما يستر به عورته. لكن للإخوان قفزات بهلوانية تقيهم الاصطدام مع المجتمع، إذ ليس بأفضل من الحجّة الشرعية التي تكبّل الألسن وتجمّد العقول. ولا يذهبنّ في ذهن القارئ أنّهم سيتركون هذا الصندوق رهين الأهواء؛ بل سيصير فرضا على التونسيين، فإذا بالعملاق المتسوّل مع الخارج هو نفسه المتسوّل مع التونسيين وبقناع شرعي، لأنّ التونسيين مثل غيرهم من المسلمين يدفعون الزكاة طوعا والتزاما، أمّا إدراجها في صندوق فذاك برنامج جديد يقتضي منهم البحث عن شرعية قدسية لترهيب الناس
فصندوق الزكاة بالنسبة إليهم هو » زيادة الالتحام والتكافل والتكاتف بين أفراد المجتمع، بإيجابية الزكاة من خلال إعطاء كل ذي حق حقه من المستحقين في مصارف الزكاة الشرعية، وتنظيم المنفعة بين أفـراد المجتمـع وتفجير طاقات البذل والعطاء، وتحويل الطاقات المعطلة والخاملة إلى طاقات منتجة فاعلـة ومتفاعلة تضيف إلى إنتاج المجتمع، والقضاء على كافة صـور الإسـراف وزيـادة روح، الانتماء والولاء والحرص على مال الأمة ». ولمزيد التوثيق سيستنجد الإخوان بهذه الفقرة التي ذكرنا، وهي مقتطعة من توطئة في القانون الأساسي للبنوك الإسلامية. فيسهل بذلك عليهم أن ينصّبوا البنوك الإسلامية بديلا من البنوك التقليدية التي يحلو لهم وصفها بالربوية
وفي الحقيقة هذه السياسة الاقتصادية الجديدة التي يهلّل بها الإخوان بتونس صالحة من وجهين: استعباد الناس بما تبقّى لهم من مال، هذا من جهة ومن جهة ثانية الشروع في أسلمة المجتمع التونسي الذي ظلّ عصيّا عليهم إلى يومنا هذا، وانتصب حاجزا دون تحقيق حلمهم القائم على أخونة الدولة وأخونة المجتمع وذاك هو التمكين الاقتصادي الضامن للتمكين السياسي والاجتماعي
تلك هي آخر صيحة في برنامج الإخوان بتونس، لكن، هل لديهم رؤية مستقبلية لما قد تؤول إليه أمور هذا المجتمع؟ هل وضعوا في برنامجهم تنبيهات الخبراء مثل ما أفاده رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تونس شوقي الطبيب عندما قال إن « قرابة ملياري دينار تونسي (حوالي مليار دولار) تستنزف من ميزانية الدولة نتيجة غياب الحوكمة والتصرف الرشيد في مؤسساتها »
أم يصحّ فيهم ما قاله فيهم أخوهم في الانتماء كمال أبو المجد؟: » إنّهم لا يتذكرون شيئا، ولا يتعلمون شيئا، فيرتكبون نفس الخطايا، فيثور عليهم الشعب من جديد«

بقلم الدكتورة نائلة السليني