اتّبع عقلك، فالعقل نبيّ (12) : الإسلام السّياسيّ وقضيّة المرأة – المساواة في الإرث نموذجا

أحد الأحكام المسبقة هو أنّ اللاّمساواة بين الرّجل والمرأة هي جوهرانيّة، أي أزليّة، خاصّة عند أقصى اليمين الدّينيّ أو السّياسيّ المعادي للمرأة. لكنّ مجهر الأنثروبولوجيا يكشف أنّ هذا التّفاوت بين الجنسين ليس جوهرانيّا، بل هو ثقافيّ وتاريخيّ. إذن كلّ ما هو تاريخيّ له بداية ونهاية. والتّفاوت بين الجنسين حيلة ثقافيّة، واعية أو غير واعية، وليس قدرا إلهيّا كما يقول المتديّنون، ولا حتميّة بيولوجيّة كما يقول أقصى اليمين الغربيّ
العفيف الأخضر، إصلاح الإسلام: 132

– 295 –

فلتتذكّر نساء تونس أنّهنّ أصبحن، منذ 25 أكتوبر 2011، يعشن في كنف جمهوريّة مدنيّة اتّخذت من الإسلام دينا دستوريّا لها، وأنّ عليهنّ طبقا لذلك أن يحترمن، بكلّ روح ديمقراطيّة (وخاصّة منهنّ الهامشيّات من أيتام بورقيبة وبن علي، وأيتام الفرانكفونيّة والماركسيّة وأذيالهما، وأيتام الحداثة الفاجرة) مشاعر الأغلبيّة المسلمة في لباسهنّ وسلوكهنّ خاصّة عندما تضطرّهن الحاجة إلى التّعامل مع الإدارات ومؤسّسات الدّولة، المسلمة بمقتضى الدّستور، أو بفروعها في كافّة أنحاء البلاد. وعليهنّ ألاّ تغتررن كثيرا بما سطّر في الدّستور عن الحرّيّات الفرديّة، وحريّتي الضّمير والمعتقد، فهي من الرّتوش الّتي أضيفت، بتسامح من الفرقة النّاجية (تشكر عليه)، لطمأنة رعاة عمليّة « الانتقال الدّيمقراطيّ » من الصّليبيّين، لا أكثر وأقلّ
الكلمة الأولى والأخيرة في الجمهوريّة المدنيّة، الّتي تمخّضت عنها ثورة الياسمين المجيدة، تعود للإسلام ولشريعة الإسلام وأخلاقيّات وقيم الإسلام، أحبّ من أحبّ، وكره من كره

– 296 –

بعد أخذ وردّ، وبعد أن أنهك الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ أعصابنا تسويفا ومماطلة، نطق صوته المدوّي بالحقّ بلسان مجلس شوراه الموقّر (مدعوما بصوت كريمة رأس الفرقة النّاجية، ورأس هذا المجلس إيّاه، عملا بقاعدة « الرّئاسة مدى الحياة » الّتي سنّها العلمانيّ الحداثيّ بورقيبة وأضحت اليوم سنّة مقدّسة يتشبّث بها أهل اليمين واليسار والوسط الّذين تقاسموا فيما بينهم – وإن لم يكن بالعدل والسّويّة – كعكة الثّورة الرّبيع العربيّ الشّهيّة)، وخرج علينا بيانه محلّلا هاديا، مذكّرا الغافلين والغافلات من أعضاء « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة » أنّ لتونس « ثوابت ومسلّمات »، ولها في دستورها السّماوي (وهو فوق دستورها الأرضيّ « التّوافقيّ »، بل فوق كلّ الدّساتير الأرضيّة) « نصوصا قطعيّة صريحة » كان على الضّالّين من أبنائها، والضّالاّت من بناتها خاصّة – أن يتوقّفوا عندها ويتملّوها قبل الخوض فيما لا علم لهم به من دقائق الحكمة السّماويّة في مسألة العدل عامّة، والعدل بين الإناث والذّكور خاصّة، علما أنّ السّماء هي أعدل العادلين، لا نقض لما قضت به، ولا رادّ لما قدّرته وفصّلت فيه القول شرحا وإيضاحا في محكم بيانها القويم
بادر الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ بعقد مجلس شوراه رأفة بسيّدات تونس وعذاراها وصبيّاتها أنّ يوردوهنّ المغامرون العلمانيّون الحداثيّون المتغرّبون المنبتّون المستأصلون الملاحدة (المتسلّلون إلى برلمان الشّعب في غفلة من عيون الإسلام السّياسيّ السّاهرة على سلامة الهويّة الشّعبيّة الأصيلة. ولا أصالة لمن شذّ عن مثال فرقته النّاجية ملبسا وسلوكا) موارد الهلكة فيزيّنوا لهنّ أنّ الخير في المساواة تقدّر بموازين البقّالين، فلا يضيع منها قيراط أو غرام واحد من منابهنّ لصالح خصومهنّ من الفحول على مرّ الدّهور. نطق صوت الحقّ الشّورويّ إذن، ومن حسن حظّ النّساء، في تونس الثّوريّة الرّبيعيّة التّوافقيّة، أن فعل وإلاّ لكانت النّساء (أذكّر بالمناسبة أنّهنّ، وفقا لنفس المصدر القطعيّ الصّريح، ناقصات عقل ودين، وبالتّالي ناقصات حقوق وواجبات وإنسانيّة)، انسقن وراء غربان الفتنة العلمانيّة وأنبياء الشّؤم الحداثيّ وصدّقن أنّ المساواة في الميزان، ونسين، لفرط شرههنّ وتهافتهنّ في الضّلال، أنّ الكرامة ليست في القناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة، ولا في الحرير والدّمقس، ولا في أحمال البخور والطّيب، ولا في الحقول والمزارع والواحات والعمارات وفرص التّشغيل والمساواة في الرّواتب، وإنّما الكرامة الحقّ في العفاف والصّون صبّا عليهنّ صبّا، في خدورهنّ الحصينة وأقنعتهنّ المنيعة المسيّجة بالحرام والعيب والرّجم، حتّى لا تبتذلهنّ الأنظار والألسن والأستوديوهات والمسارح والأحضان والشّهوات، وتتلقّفهنّ، بدلا عن كلّ ذلك، جبهات جهاد النّكاح، حيث الثّواب موفور، والأجر مضمون، والمعاد مكفول لمن تبذل منهنّ عرضها بدون حساب ليلغ فيه وحوش الجهاديّين في جبهات الذّبح والسّحل والإبادة في الآفاق
نطق الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ الجمهوريّ (وإن لم ينطق حقيقة باسم هذه الأخيرة ودستورها وقوانينها، بل نطق باسم « الخلافة الرّاشدة » الّتي لم تواته الجرأة للإعلان عن اسمها) إذن فأزاح الغيوم من سماء حاضرة التّيمقراطيّة (أو التّيمقراطيّة الدّيمقراطيّة) النّاشئة، وبدّد ما تراكم منها فوق قبّة برلمان الشّعب (والصّواب أن يقال مجلس شورى الشّعب) حيث يتداول فرسان الشّرعيّة الإسلامدستوريّة جواز المساواة بين الإناث والذّكور من عدمه، فأبان، لمن منعه العشى عن تبيّن الحقّ، ببراعة منقطعة النّظير أنّ « الرّجل ملزم بالإنفاق على زوجته وإن كانت تعمل »، وهو ما يفيد ضمنيّا أنّه، بفعل حقّ القوامة الّذي حازه الرّجل دون المرأة بناء على نفس المصدر القطعيّ الصّريح، ملزم بالإنفاق عليها في كلّ الحالات، حتّى لو لم يكن يعمل هو، وكانت هي، على العكس منه، من العاملات
يستفاد منطقيّا ممّا تقدّم أنّه لا يتزوّج إلاّ قادر على الإنفاق من كسبه الحلال، أو من اعتزم أن يقترض من حليلته العاملة – إن عمل بنصيحة السّنّة الأهلجماعيّة (نسبة إلى أهل الجماعة الّتي تستظلّ الفرقة برايتها) الشّريفة وتزوّج فقيرا فلم يصب ما يأمل من الغنى – ما ينفقه عليها وعلى أطفالهما حتّى يكون على وفاق مع الشّريعة الإسلامسياسيّة الّتي لا يرضيها أبدا أن يكسب الأموال الطّائلة من ليس ملزما بالإنفاق القواميّ (نسبة إلى القوامة)، خاصّة وأنّ النّساء، في عرفه الطّيّب، لسن مطالبات بالعمل أصلا، ويحسن بهنّ، إن رمن صلاح دنياهنّ وآخرتهنّ، أن يقرن في بيوتهنّ. هذا هو ما سطّر بيمينه الكريمة رأس الفرقة النّاجية في مصنّفاته السّديدة، نفع الله بها كافّة المسلمين. فما ما أغرب شأن بنات حوّاء، أعفاهنّ الله برحمته من عناء العمل وهوانه، فأبين إلاّ أن يلقين بأيديهنّ – وأرجلهنّ أيضا – إلى التّهلكة
وقد نسي صوت الإسلام السّياسيّ (الدّستوريّ حينا، والشّريعاتيّ حينا آخر باعتبار المكان والمناسبة)، أن يوضّح للنّساء عامّة، ولصحيحات الرّؤوس منهنّ على وجه الخصوص، عمّن يتعيّن عليه أن يضطلع بالإنفاق إذا كان كلا الزّوجين لا يعمل بفعل البطالة المستشرية في صفوف الشّباب ممّن بلغوا سنّ الزّواج أو تجاوزوها بأشواط، وكان المذكوران، صونا لفرجيهما، تزوّجا على الطّريقة الحزمويّة (نسبة إلى الحزمة التّراوكيّة المقدّسة)، أي عرفيّا. ولكن من حسن الحظّ أنّه لم ينس أن يلحّ، لمزيد الشّرح والإيضاح، على مسألة أنّ الزّوجة « غير مطالبة بالإنفاق على البيت على غرار الرّجل » في كلّ الحالات، وهي مطالبة، وفقا لهذه المصادرة الشّرعيّة، أن تترك بعلها وأطفالها يتضوّرون جوعا، ولو كانت تكسب من عملها الملايين، اعتبارا للقاعدة الشّرعيّة القاضية بأن ما بني على باطل فهو باطل. فالأصل، كما يحدّده المصدر القطعيّ الصّريح، أن لا تنفق المرأة، ولا سبيل للخروج عن هذا الأصل، وإلاّ انقلبت المعادلة وأصبحت المرأة قيّمة على بعلها وأطفالها. وهذا خروج عن سواء السّبيل، وخرق للقانون الشّرعيّ، لا يرضاه الله والنّبيّ والسّلف الصّالح، والنّاطقون اليوم بأسمائهم كلّهم من أشياع الفرقة النّاجية، وبتفويض من هؤلاء جميعا نطق مجلس شوراها، المعصوم بحمد الله ومنّه
والسّبب في تشبّث غبطة رأس الفرقة الدّستوريّة النّاجية (النّاطق اليوم باسم الجمهوريّة المدنيّة (الّتي لا مكان فيها للقوانين الوضعيّة الحداثيّة المتعارضة مع أحكام الشّريعة) بمراجعه الدّينيّة القطعيّة، أنّه قد يكون أدرك جيّدا أنّ رفض مبدأ المساواة في الميراث بين الذّكور والإناث لم يعد له مبرّر موضوعيّ في ظلّ الأوضاع الاجتماعيّة السّائدة اليوم، وما تمخّض عنها من أوضاع اقتصاديّة مختلفة اختلافا جذريّا عن تلك الّتي تحيل عليها مراجعه العتيقة، وأن لا وجود بالتّالي لحلّ لهذه المعضلة إلاّ باللّجوء إلى الإكراه والقهر الكامنين ضرورة في النّصّ السّماويّ، بتعلّة القطعيّة والفوقيّة والقوامة والعصمة والتّعالي، وغيرها من أساليب التّحايل على العقل والعدل وكلّ القيم النّبيلة الّتي يتشدّق بها المتفيهقون على منابر الورع الرّيائيّ في معابد يؤمّها من لا دين له، وإن رئي ساجدا قانتا ممسكا، وعينه ووجدانه في حطام الدّنيا وعرشها الممتدّ في الآفاق. وإيّاهم أراد أبو العلاء المعرّي بقوله في غابر الدّهر، وهم من نراهم اليوم يرفلون في بذخ الغيّ والقسوة، وبهرج الشّورى مصلت كالسّيف

يتْلُونَ أَسْفَارَهُمْ، وَالْحَقُّ يُخْبِرُنِي

بِأَنَّ آخِرَهَا مَيْنٌ وَأَوَّلُهَا

صَدَقْتَ يَا عَقْلُ، فَلْيَبْعدْ أَخُو سَفَهٍ

صَاغَ الأَحَادِيثَ إِفْكاً تَأَوَّلَهَا

وَلَيْسَ حَبْرٌ بِبدْعٍ مِنْ صَحَابَتِهِ

إِنْ سَامَ نَفْعاً بِأَخْبَارٍ تَقَوَّلَهَا

وَإِنَّمَا رَامَ نِسْوَاناً تَزَوَّجَهَا

بِمَا افْتَرَاهُ، وَأَمْوَالاً تَمَوَّلَهَا

طَالَ العَنَاءُ بِكَوْنِ الشَّخْصِ فِي أُمَمٍ

تَعُدُّ فِرْيَةَ غَاوِيهَا مُعَوَّلَهَا

وحقيقة المعضلة، الّتي أجهد الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ نفسه لإيجاد حلّ مناسب لها – يحفظ لنصّه المرجعيّ، الّذي لا همّ له سواه، فوقيّته ويستبيح، في سبيل إرضائه، كرامة نصف الشّعب التّونسيّ، ومن يقف إلى جانبه من تونسيّي النّصف الآخر -، تتمحور حول قضيّة القوامة، وعمادها الاقتصاديّ المتمثّل في النّفقة. فكان لا بدّ لمجلس شوراه من أن يجعل من الإنفاق حقّا ذكوريّا خالصا ليسدّ الطّريق على المطالبات بالمساواة في الإرث بالمطالبة بالمساواة في كلّ شيء، بما في ذلك حقّ الزّوجة في أن لا تشاركها زوجها امرأة أخرى، وحقّها في أن لا يستأثر زوجها دونها بحقّ تقرير مصير العلاقة الزّوجيّة، ومن بعدها طبعا كلّ شؤون البلاد، يضطلع بها دونها، لا ظلما وعدوانا، بل لكونها غير مؤهّله، وفقا للنّصّ المرجعيّ القطعيّ إيّاه، للاضطلاع بمهامّ الحكم والقضاء
والمغالطة في البنية الحجاجيّة لبيان الإسلام السّياسيّ (لا نميّز في الخطاب الإسلاميّ بين مختلف مصادره، فكلّها في الرّفض سواء وإن اختلفت البرهنة في الظّاهر من بيان إلى آخر) تكمن في كونه يصرّ على إخراج قانون اقتصاديّ بشريّ، موغل في القدم، مخرج القانون الإلهيّ الأزليّ، مشرّعا بذلك للتّفاوت المجتمعيّ والحقوقيّ والاقتصاديّ بين الرّجال والنّساء. وليس من الصّعب دحض هذه الحجّة لأنّ الكثير من المصادر النّصّيّة الشّرعيّة القطعيّة المزعومة وقع تجاوزها بفعل التّقدّم الحاصل في الأوضاع التّاريخيّة الإنسانيّة الرّاهنة، كما هو الحال مع العبودّية مثلا. ولهذا السّبب بالذّات لا يتردّد أقطاب الفكر الأصوليّ السّلفيّ في التّأكيد على جواز استرقاق البشر من جديد في ظلّ الخلافة الرّاشدة، وهو ما تمّ فعلا في بعض الأصقاع الخاضعة لسطوة مملكة التّوحّش والهمجيّة الّتي تسمّى الدّولة الإسلاميّة
والسّؤال الّذي قد يتبادر إلى أذهان بعض المتنطّعات من التّونسيّات، بغضّ النّظر عمّا إذا كان رأس الفرقة الدّستوريّة النّاجية واعيا بالتّطابق الغريب بين فكره المالكيّ الوسطيّ – المعتدل بزعمه – والفكر الأصوليّ السّلفيّ الدّاعشيّ، هو التّالي: إذا كانت النّساء، على ما ذهب إليه غبطته، غير معنيّات بالإنفاق بتاتا، فما الفائدة من استمرارهنّ في العمل، وما الجدوى من عملهنّ أصلا؟ أليس في القول بأحقّيّة الزّوج في الإنفاق دعوة صريحة إلى تشريع منع (والتّحريم أليق بالسّياق) النّساء من العمل، أو تشجيع لهنّ عن الامتناع عنه من تلقاء أنفسهنّ لإفساح المجال لأصحاب الحقّ الشّرعيّ فيه بصريح النّصّ القطعيّ الّذي يأتمّ به فضيلته (أو سيادته لمن شاء أن يتوجّه في شخصه إلى شقّه المدنيّ، وإن كان من العسير التّمييز في شخصه المقدّس بين الشّقّين)، لأنّه من المنطقيّ جدّا أن يعمل الملزمون بالإنفاق قبل من « خبزهنّ مخبوز وزيتهنّ في الكوز »؟
أليس هذا المطلب هو الّذي نادى به أقطاب الفرقة النّاجية راهنا، لحلّ أزمة البطالة المستفحلة، وعادت تلوّح به من جديد في أدبيّاتها المراوغة منذ وضعت يدها على دواليب الدّولة؟ فلا غرابة إذن أن هبّت الفرقة النّاجية بنوّابها ونائباتها لقبر هذا القانون الفاجر الكافر – التزاما منها بمرجعيّتها الشّرعيّة القطعيّة، لا باعتبار أنّها انمسخت من تلقاء نفسها (ولضرورات السّياسة أحكام، وكلّ شيء في سبيل الفوز بتونس يهون، ورحم الله الملك الفرنسيّ هنري الرّابع، فقد وجد فيه رأس الفرقة النّاجية خير مثال للبراغماتيّة السّياسيّة) حزبا مدنيّا، وأعلنت عن ذلك في مؤتمرها الأخير -، وإعادة الأمور إلى نصابها حفاظا على هويّة الشّعب طبعا، ورضوخا لإرادته الثّوريّة الّتي تتقاطع – يا للمصادفة السّعيدة! – مع جوهر هذه المصادرة الشّرعيّة الجائرة
ولسنا نعلم على وجه اليقين لماذا يكون هذا القانون الاقتصاديّ، المفضّل للرّجال على النّساء، نصّا شرعيّا قطعيّا واضحا لا جدال فيه، والحال أنّه من أركان المجتمعات البدائيّة منذ أقدم العهود، لا قداسة له إلاّ في المجتمعات الإسلاميّة العربيّة؟ وقد أغفل رأس الفرقة النّاجية أن يفسّر لنا لماذا يتعيّن على هذه الشّعوب خاصّة، دون غيرها من المجمتعات الإنسانيّة المعاصرة، أن تواصل الالتزام بهذا القانون الاقتصاديّ العتيق الّذي أكل عليه التّاريخ والقانون وشربا، والحال أنّ القوانين الاقتصاديّة، أسوة بغيرها من القوانين البشريّة، تتغيّر وفقا لتغيّر الأوضاع والأحوال؟ أليس الحقّ في الإنفاق مكمّلا للحقّ في العمل، فلماذا يجمعان للرّجل ويفصلان اعتباطيّا إذا تعلّق الأمر بالمرأة؟
وأعجب ما في الأمر أنّ رأس الفرقة النّاجية أكّد، بعد أن حشد هذا الكمّ الهائل من الأدلّة والقرائن الشّرعيّة لإبطال مسألة المساواة في الميراث من أساسها، أنّ هذه « المسألة »، أسوة بغيرها من القضايا الإشكاليّة الخلافيّة، « قابلة للحوار »، دون أن يبيّن لنا طرفي هذا الحوار، ومحلّه من الإعراب، والهدف من ورائه. ماذا سيكون موضوع هذا الحوار إذا كانت المسألة، عل حدّ تعبيره، محسومة مبدئيّا؟ يبدو إذن أنّ موقف الإسلام السّياسيّ من مسألة المساواة هذه ليس موقفا مبدئيّا بدليل قول رأس الفرقة النّاجية، النّاطق الرّسميّ باسمه، إنّ حصول هذه المساواة – الّتي يرفضها شكلا وموضوعا – لا يعني بالضّرورة « تملّص الرّجل من مسؤوليّته، [فـ]هو مطالب بالإنفاق على المرأة، ولا يحق له مطالبتها بالإنفاق، أو مقاسمته لأموالها ولراتبها من باب واجب الإنفاق والكرامة ». بهذا قضت إرادة من أزاح أبو المعرّي عن وجوههم القناع، فهتك سترهم، وفضح على مدى الدّهر فساد طويّتهم

أيَا أَنْفُساً مَا صَوْمُهَا وَصَلاَتُهَا

بِدِينٍ لَهَا، بَلْ تَرْكُهَا الظُّلْمَ دِينُهَا

يُؤَثِّرُ فِي حُرِّ الْجِبَاهِ سُجُودُهَا

وَيَشْكُو أَذَاهَا جَارُهَا وَخَدِينُهَا

والبيّن من هذا الطّرح العجائبيّ لاقتصاد الأسرة أنّ النّصّ الشّرعيّ القطعيّ، المعتمد في تجويز المساواة وتحريمها، هو صورة طبق الأصل للنّظام الاقتصاديّ السّائد في المجتمعات البطريركيّة، وهو الّذي تتحدّد فيه قوانين الملكيّة وفقا لبنية العائلة الأبويّة. ويتّضح هكذا أنّ ما يهمّ المشرّع الإسلامسياسيّ، أوّلا وقبل كلّ شيء، هو المحافظة على الامتيازات البطريركيّة الّتي تكرّس الهيمنة الاقتصاديّة للذّكور باعتبارها القاعدة الأساسيّة لهيمنتهم الشّرعيّة الشّاملة على الشّأن العامّ. والمراد من اللّجوء إلى المقدّس الإكراهيّ في هذا الشّأن يتمثّل في إرغام ضحايا هذا النّظام المجحف، من النّساء خاصّة، على القبول بإرادة الذّكور المتغلّبين باعتبارها تعبيرا عن إرادة السّماء. ومن غير السّماء قادرة اليوم على فرض الحيف والجور كشكل من أشكال العدالة الّتي لا تدركها عقول البشر القاصرة لأنّها تصدر عن حكمة متعالية مفارقة، خاصّة إذا ما اعتبرنا, وفقا لتأكيدات النّاطق الرّسميّ باسم الإسلام السّياسيّ، في صيغته المدسترة، أنّ « الأصل هو التّمسّك بهذا المصدر » الشّرعيّ بغضّ النّظر عن تلاؤمه مع أوضاعنا الاجتماعيّة الرّاهنة أو لا، وتلاؤمه مع مبادئ وقوانين الجمهوريّة المدنيّة الثّوريّة الدّيمقراطيّة الّتي نستظلّ كلّنا برايتها؟
ولو افترضنا جدلا أن التمسّك بهذا المصدر « السّماويّ » ضروريّ كما ذهب إلى ذلك الإسلام السّياسيّ، فما الّذي يفسّر استعماله بهذا الشّكل الانتقائيّ بدلا من تعميمه على كافّة مجالات الحياة الاجتماعيّة؟ ألا يدلّ هذا المنطق الانتقائيّ على صواب موقف المطالبين بتطبيق الشّريعة بحذافيرها، بدلا من اعتمادها في بعض المجالات واستبعادها في مجالات أخرى؟ ويتّضح من تدخّلات التّونسيّين على شبكة التّواصل الاجتماعيّ أنّ من تكلّف منهم الرّدّ على تصريحات الرّافضين لمنطق المساواة كان على وعي تامّ بالرّهان الإيديولوجيّ لهذا السّجال وعلاقته العضويّة بالنّمط المجتمعيّ للطّرفين المنخرطين فيه
طرف أوّل، يمثّله الإسلام السّياسيّ والنّاطقين باسمه – وما أكثرهم -، يرى أنّ الحطّ من حظّ الأنثى في الميراث لا يكتمل إلاّ بالحطّ من إنسانيّتها إلى الرّبع أو النّصف، وبخفضها وجوبا لكبح جماح شهوتها العارمة، وبإجازة ضربها وهجرها في المضجع، وبقطع يمينها وعنقها ورجمها إن لزم الأمر، وببيعها في أسواق النّخاسة حتّى يبعث الحريم بعد موت، وتزدهر حضارة الجواري والقيان والسّراري والخصيان، يحشدون في السّجون الذّهبيّة ليكونوا في متناول الذّكور الإسلامسياسيّة النّهمة الّتي أجازت لها مراجعها القطعيّة الملزمة أربع حرائر وجيشا ممّا ملكت أيمانها من الإماء. شغل هذا الطّرف الشّاغل أن يقنعنا اليوم أنّ العدالة تقتضي أن يساوي الواحد أربعا، ويساوي الواحد اثنتين، ويساوي الواحد ألفا أو مليونا، وأن نقبل بذلك ونطأطئ الرّؤوس استسلاما وخشوعا لإرادة الأسانيد والتّصانيف التّعديليّة والتّجريحيّة، تعيث في الحقّ تأويلا وتسويغا، فلا يستجيب لحقّهم « الشّرعيّ » إلاّ وقد لويت عنقه ليّا ذهب بروحه. ذلك ما كان عناه أبو العلاء المعرّي إذ يقول محدّثا عن مجوّزي الحيف بسطوة النّقل المريب

لَقَدْ أَتَوْا بِحَدِيثٍ لاَ يُثَبِّتُهُ

عَقْلٌ، فَقُلْنَا: عَنِ أَيِّ النَّاسِ تَحْكُونَهْ؟

فَأَخْبَرُوا بِأَسَانِيدٍ لَهُمْ كُذُبٍ

لَمْ تَخْلُ مِنْ ذِكْرِ شَيْخٍ لاَ يُزَكُّونَهْ

وطرف ثان يرى أنّ الكرامة كلّ لا يتجزّأ، لا مساومة فيها ولا تنازل، وأنّ الإنسانيّة حقّ يتساوى فيه الإناث مع الذّكور في كلّ شيء، بدون أدنى استثناء، وأنّ للجسد البشريّ حرمة لا تقدر عليها حدود الهول البربريّة الّتي يلوّح بها النّاطق الرّسميّ باسم الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ (وهو بالمناسبة ديمقراطيّ أيضا)، ومن سار على نهجه من فرسان الرّايات الزّرقاء والسّوداء، تتوعّدنا بالعين بالعين، وقطع اليمين، وقطع اليد والرّجل من خلاف، وجزّ الرّؤوس، والرّجم، والحرق، والصّلب، وكافّة طيّبات الحدّ والقصاص والرّدع والتّرهيب والتّعزير الّتي يجيزها، بل يفرضها علينا فرضا، المصدر الدّينيّ القطعيّ الّذي أشهره الإسلام السّياسيّ – الّذي لا علاقة له طبعا بالاستبداد والدّيكتاتوريّة، يقال عنها زورا وبهتانا إنّها مدنيّة علمانيّة حداثيّة ليصدّوا النّاس عن درب التّاريخ (درب الحياة)، ويأخذوا بهم في شعاب الخرافة والمعجزة القاحلة – في وجوه قطيع الأنعان الّذي كان علينا أن نكونه رجالا ونساء، واقترفنا خطيئة رفض هذا القدر الوضيع. نحن اليوم في مفترق طرق، علينا أن نختار بين أن نكون قطيعا يساس بالعصا، أو شعبا يرقى مدارج أحلامه صعدا إلى مطلق النّور ورفاهية السّؤال. أراد لنا الإسلام السّياسيّ، الّذي لا علاقة له بالجمهوريّة وإن احتلّ مكان الصّدارة في دستورها الثّوريّ، أن نرضى بقدر القطيع فرفضنا هذه اللّعنة نساء ورجالا، ووطّنّا العزم على ألاّ نصوم أبد الدّهر عن مذاق الحرّيّة الّتي طعنها المصدر الدّينيّ المقدّس ذات عهد، وما زال يكيل لها الطّعنة تلو الأخرى لعلّها، وقد خارت قواها، تنكتم إلى الأبد.
وخلاصة القول، كما قالت إحدى سليلات الكاهنة، معلّقة على مزاعم من يعتقد أنّ البزّة الكهنوتيّة تصنع الكاهن، أنّ « خطّة مفتي الجمهوريّة » (وهو جزء لا يتجزّأ من أخطبوط الإسلام السّياسيّ المتّصل الحلقات) إهدار للمال العامّ »، لا أكثر ولا أقلّ. فمن المعلوم أنّ « دستورنا مدنيّ، ولا حاجة لنا إلى إفتاء أيّ كان لوضع قوانيننا ». ومن المعلوم كذلك أنّ « القوانين تكون وضعية في الدّولة المدنيّة »، وهي ملزمة باحترام « منظومة حقوق الإنسان الكونيّة الّتي تقرّ المساواة بين الجنسين، وترفض كلّ أشكال التّمييز ». ألا يعني هذا أنّ الدّين « يجب أن يبعد عن الشّأن العامّ » حتّى لا نصاب، على حدّ قول حفيدة الكاهنة، بانفصام الشّخصيّة و »نقرّ الميز بين المواطنين حسب الجنس ».
ذلك هو صدأ العقول الّذي أسهب في وصفه أبو العلاء المعرّي، فقال ينعى العقل لمن لم يزل يزعم أنّ العقل رائده :

لَقَدْ صَدِئَتْ أَفْهَامُ قَوْمٍ، فَهَلْ لَهَا

صِقَالٌ؟ وَيَحْتَاجُ الْحُسَامُ إِلَى الصَّقْلِ

وَكَمْ غَرَّتِ الدُّنْيَا بَنِيهَا، وَسَاءَنِي

مِنَ النَّاسِ مَيْنٌ فِي الأَحَادِيثِ وَالنَّقْلِ

سَأَتْبَعُ مَنْ يَدْعُو إِلَى الْخَيْرِ جَاهِداً

وَأَرْحَلُ عَنْهَا مَا إِمَامِي سِوَى عَقْلِي

ولمن شاء المزيد من الوضوح، نضيف أنّ « السّلطة السّياسيّة سلطة دنيويّة من ألفها إلى يائها، دنيويّة المصدر ودنيويّة الغاية، إذ إنّ مصدرها لا يتعدّى طبيعة الوجود الاجتماعيّ، وغايتها لا تتعدّى الشّرط الاجتماعيّ لسعادة الإنسان في هذه الدّنيا. أمّا السّلطة الدّينيّة، فإنّها، كما تطرح نفسها، متّصلة، بشكل أو بآخر، بالغيب من جهة المصدر والغاية، أو من جهة واحد منهما. وشرط قيامها كعلاقة أصيلة بين آمر ومطيع إنّما هو الإيمان »، وهو غير متحقّق في قضيّة الحال، وغير متحقّق في سائر الأحوال لأنّ البشر جبلوا على الاختلاف، ولن يردّهم عنه لا وعظ، ولا « توافق »، ولا مدفع
ومن البديهيّ الإقرار أنّه لا يمكن أن يفي بهذا الشّرط الأساسيّ إيمان شخص مّا، بالنّيابة عن الشّعب التّونسيّ كلّه أو بعضه، ولو كان هذا المؤمن الاستثنائيّ هو رأس الفرقة النّاجية، أو المهديّ المنتظر، علما أنّ هذا الأخير، كائنا من كان، إنّما يتكلّم، بوعي أو بدون وعي منه لا يهمّ، نيابة عمّن اتّخذ الدّين بضاعة وسلاحا لابتزاز مواطنيه ونوّابه في مجلس الشّعب، يزعم أنّه النّاطق باسم ضمائرهم، والمفصح عن وجدانهم، والمترجم الأمين عن مشاربهم وعقائدهم ومطامحهم، بل والدّفين من أحلامهم. وما يتعيّن علينا أن نعيه كلّنا أنّه لا مكان في الجمهوريّة لإيمان بالنّيابة، أي لإيمان القطيع، ولا مكان فيها لقرقة بعينها بعينها يسير وراءها القطيع مغمض العينين مسلوب الإرادة، ولا مكان فيها لمعبد يشتغل وفقا لآليّات الأحزاب السّياسيّة ومنطقها، ولا مكان فيها لمواطنين يتنكّرون في مسوح الرّهبان ليمارسوا، بمنأى عن المحاسبة والعقاب، رياضتهم المفضّلة المتمثّلة في الاعتداء على القانون الوضعيّ بكلّ الألاعيب والأساليب المراوغة، تمهيدا لإلغائه واستبداله بالشّريعة الإسلاميّة
فلنختر إذن، ولنكن من خيارنا على بيّنة، بين جمهوريّة تتّسع للجميع، لا فرق فيها بين تونسيّ وتونسيّة إلاّ بالمواطنة، وبين مسلخ إسلاميّ سياسيّة دستوريّ ديمقراطيّ يذبح فيه بعضنا بعضا تطبيقا للنّصّ المرجعيّ القطعيّ لأنّه، على حدّ تعبير من لا مكان له ولمراجعه القطعيّة في الجمهوريّة المدنيّة، غير قابل للنّقاش. بكلّ بساطة. ولو ذهبنا في البساطة إلى الحدّ الأقصى لقلنا إذن: نحن، على هذه الأرض الّتي حباها أجدادنا باسم تونس، تونسيّون قبل كلّ شيء، لا نحتاج مزيدا من التّعريف على هذه الصّفة الفصيحة المطلقة. ولمن شاء بعد ذلك من أبناء هذا البلد أن ينتسب إلى ما شاء من الأعراق والملل، فله ذلك على ألاّ يتمّ ذلك على حساب تونسيّته. ومن يفعل غير هذا، فقد خان وطنه. ولا ذمّة لمن خان وطنه ومحض الوفاء لمن يتربّصون بوطنه شرّا
نحن لا نتجنّى بهذا الكلام على أحد لأنّ الإسلاميّين السّياسيّين الدّستوريّين، المنادين في الخفاء بإيواء الشّريعة في الدّستور، وافقوا علنا على استبعادها منه بمحض إرادتهم، ووقّعوا على هذا العهد، فهم ملزمون اليوم بالإيفاء بما تعهّدوا به، على الأقلّ حفاظا على ما تبقّى من مصداقيّتهم الّتي خرّقتها أفانين الازدواجيّة في خطابهم الزّئبقيّ

– 297 –

ليس من اليسير على من أصبح الصّوم عن العقل قوام حياته أن يتصالح مع الجوع الّذي يثير فيه شهيّة المائدة، وهي ممّا لا بدّ منه لابن آدم وحوّاء لكي لا يخرج عن حدّ الإنسانيّة ويتحوّل إلى آلة. وإن عري ابن آدم من إنسانيّته وأصبح الصّوم عن نعمة العقل له طبيعة ثانية، أصبح كبينوكيو الأرجوز، يتوهّم أنّه كائن من لحم ودم، والحال أنّه دمية من وضيع الخشب. والدّمية لا يضيرها البتّة ألاّ تساوي من الذّكر إلاّ ربعه فيرمى بها في فراشه مع ثلاثة من مثيلاتها، أو نصفه على أقصى تقدير فلا تمثل أمام القاضي شاهدة إلاّ وأردفت بأخت لها، ولا يجرح كرامتها أن يخضعها بعلها لسطوة عصا التّأديب الشّرعيّة، ولا يزعجها أن تسرق باسم العدالة السّماويّة القويمة الّتي لم تقدّر لها إلاّ نصف حظّ أخيها من وسخ الدّنيا الّذي يخلّفه الآباء والأمّهات لفلذات أكبادهم من البنين والبنات
والفرق بين الدّمية وبين سيّدها، الّذي يحرّك الخيوط الّتي تمدّها بالحياة من وراء السّتائر، أنّ المسكينة – أو الغبيّة على الأرجح – كثيرا ما تتوهّم أنّها تصدع برأيها وهي تردّد كالببّغاء ما ينهي إليها سائسها الإسلاميّ السّياسيّ الدّستوريّ من أوامر السّماء ونواهيها، معرّضا لها بالأتّون الأخرويّ، يلقي بها فيه إن هي نطقت بغير ما زجّ به في حلقها من مقدّس العقائد والأحكام والحدود تحت سقف البرلمان الإسلامدستوريّ، أو في استوديوهات الإذاعات الإسلاميّة، أو في مدارج الجامعات الإسلاميّة، أو في مكاتب الإدارات الإسلاميّة، أو في رحاب المستشفيات الإسلاميّة، أو في بخار المعابد الإسلاميّة وعجيجها، أو في سائر الفضاءات الإسلاميّة (أي في تونس من الحدّ إلى الحدّ) الّتي أوطأها إيّاها رأس الفرقة النّاجية لتشهد على الملأ أن صدق الفرقة النّاجية الّتي بلسانها يأمر وينهى بلسانه، تقول للمرأة كوني فتكون بقرة تخور ولها بتعاليمها المقدّسة، وتقرع أحيانا قاعدة المقعد البرلمانيّ الصّقيل (الّذي حازته بفضل بركات شيخ فرقتها)، مندّدة بأوغاد الطّريق من زميلاتها وزملائها العلمانيّين الّذين تجاوزوا كلّ الخطوط الحمراء عندما تجرؤوا على المطالبة بمساواة « البقرة » بـ « الثّور » في الميراث، وفي ضلالات أخرى خجلوا أن ينصّوا عليها في التّقرير الأرعن الّذي صاغته « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة » أخيرا، والحال أنّ « الثّور » و »البقرة »، كما نصّت على ذلك النّصوص القطعيّة الصّريحة، على طرفي نقيض بنية وقوّة، وعقلا وإدراكا، وصبرا على مشاقّ الحياة ومنغّصاتها ومكارهها.
ولن يفوت منشّطة إذاعة « الزّيتونة » (أو غيرها من إذاعات الفرقة النّاجية الّتي موّلت بالأموال الطّائلة الّتي صرفت لأعضاء الفرقة النّاجية تعويضا لها – في الدّنيا دون اعتبار الأجر الأخرويّ طبعا – عن الجور الذّي نالها خلال « سنوات جمرها ») أن تحتذي مثال أختها النّائبة الإسلامسياسيّة فتأتي إلى الأستوديو بكوكبة من عباقرة « علماء » جامع الزّيتونة المعمور دفعة واحدة ليعلنوا بصوت إسلامسياسيّ واحد لكلّ ممثّلات البلاد ومطرباته ومربّياته وجامعيّاته وعاملاته ومفكّراته وفيلسوفاته ورياضيّاته، وحاملات ميداليّات الذّهب والفضّة والبرونز فيه، وسائر بنات حوّاء في أكناف المعمورة ؛ يعلنوا لهنّ جميعا أنّ الحقّ لا يعلى عليه ويعلون جميعهنّ بعصا الإصلاح الشّرعيّ، رضين ذلك أو كرهنه. ويعلنون لهنّ أنّه لا خير في « بقرة » تركب رأسها وتجوز طورها حتّى تتوهّم أنّها « تثورنت » (أي أصبحت ثورا) ونبت لها في رأسها الجميل قرنان في قوّة قرني صنوها الذّكوريّ، بل أقوى من قرون كلّ ثيران الحلبة الكونيّة، فلو شاءت لدحرتهم جميعا وجندلتهم ومرّغت مناخيرهم في التّراب
ونحن نقول بدورنا إنّه لا برء لامرأة أفضى بها الولاء والبراء إلى الصّوم عن نعمة العقل فهانت عليها نفسها حتّى ذهلت عن كرامتها فأوطأتها لفحول الفرقة النّاجية يدوسونها بحوافر الغلبة والقهر. فلمّا أمال الهوان جذعها نشوة وسكرا سفحت إنسانيّتها في طريق الفحول لتكون لهم بساطا أحمر يعبرون عليه إلى مجاهل الشّريعة العتيقة يستلّون من خزائنها العامرة ما لذّ وطاب من طيّبات الحياء والحرام والسّجن والعيب والحجاب والغيرة والعرض والنّقاب، يشددن بحبالها كلّ نساء تونس وثاقا حتّى لا يظلّ تحت قبّة سمائها امرأة واحدة لا تنهار رعبا إذا خار فحل على أميال من مرعاها أو مربطها، فكلّ هذه الطّيّبات المباركات هي وليدة « منطق النّصّ المقدّس، والفريضة الإلهيّة، والفتوى الشّرعيّة. فالأمر الإلهيّ هو هو من حيث مخزونه الإرهابيّ، سواء تعلّق بفريضة الحجاب » ، أو بغيرها من الإلزامات الّتي تنعت بالشّرعيّة
لا برء لامرأة ترى أنّ كمالها في أن يغتصبها ميزان الفحل الإسلامسياسيّ نصفا من كيانها، وقد يأخذ العشق بلبّه فيحيلها إلى رماد تدوسه حوافر الفحول في تجوالها بين مخادع الإناث يعيثون فيهنّ حرثا شرعيّا، فهي في مقام دابّة الأرض الّتي تحنّ إلى الضّرب حنين الثّكلى إلى المأتم، لا ترى بأسا أن يشبع الفحل المقدّس وتجوع هي، وينام وتسهر هي على راحته، وتصبر على يمناه وقضيبه وعصاه وسوطه وجوره يستبحنها في كلّ آن، ولا يصبر هو على نأمة من رأسها أو همسة يزلّ بها لسانها، فليست كلّ هذه الطّيّبات إلاّ قطرة من فيض الحكمة الّتي لا تدركها عقول الإناث، وأدركتها عقول الفحول من فقهاء الحلبة الشّرعيّة منذ قديم الزّمان لتكون لقطعان الإناث ناموسا ونبراسا وميزانا لا ينحرفن عنه قيد أنملة
ولو ارتفع في الملأ صوت نشاز وهبّ في وجهي النّائبة والمذيعة، اللاّهجتين ليلا نهارا ببركات الفرقة النّاجية وكرامات رأسها الملهم، فذكّرهما أنّ الإنسان واحد، لا فضل فيه لقضيب الثّور على حياء البقرة، لكانت المرأتان أمسكتا بتلابيبه، وقالتا معترضتين على هذا التّجديف القبيح، أنّ الثّور ثور والبقرة بقرة، وأنّ العين لا تعلو على الحاجب، وأنّ الكفّ لا تعاند الإشفى، وأنّ العصا لا تساوي الحفرة، وأنّ لكلّ كائن في الأرض مقاما يلزمه حياته فلا تطمح عينه إلى غيره، ويعجز عنه إن رامه وابتذل نفسه في سبيله. فإن لجّ الصّوت النّشاز في العناد، متطاولا بتجديفه على الثّوابت والمقدّسات، انهالت عليه وريثتا ثورة الرّبيع المظفّرة، كلّ واحدة من موقعها المؤثّر، بقاصمة الظّهر وذكّرتاه – وإن كانت الذّكرى لا تنفع أمثاله – أنّ الله خلق الرّجل على صورته، وقدّ حوّاء من ضلع أعوج، وأنّ إرادة الرّجل من إرادة اللّه، لا تخرج عن حياضها الطّاهرة إلاّ كافرة مارقة عنيدة من إناث الحواري السّاقطات
وبعد، كيف يمكن أن يخطر ببال امرأة عاقلة أنّ الرّاعي يمكن أن يسوس قطيعهنّ أعزل اليدين؟ أليست العصا من آلات الرّعي في كلّ الحضارات الّتي تعاقبت في المراعي الأرضيّة وازدهرت فيها حدّ التّألّق؟ وهل للأنثى ما بين فخذي الذّكر حتّى تزعم أنّها له ندّا، لا حقّ لها في ما حبته به حكمة السّماء من فضل عليها، وأنّ حكمة الأرض. سامح اللّه الشّيخ الطّاهر الحدّاد وغفر له ما سطّرت يمينه في مصنّف العار الموسوم بـ «بامرأتنا قرتنا في الشّريعة والمجتمع»، ذلك الّذي فتح أبواب الرّعونة على مصراعيها فغادرتها الإناث، ولم تقبل بالعودة إلى الصّواب منذ ذلك العهد المشؤوم، وبارك جلّ وعلا لنائبات الفرقة النّاجية في برلمان الشّعب ولمذيعات إذاعة الزّيتونة ومن سار على هديهنّ من نساء تونس في سعيهنّ الدّؤوب لكبح جماح بنات جنسهنّ اللّواتي تمرّدن على قدرهنّ السّماويّ وطمحن إلى مكان تحت الشّمس في دنيا البشر، بإيعاز من البدع البورقيبيّة البائدة، وبتحريض من فلول أيتام الفرانكفونيّة الّتي أفصح عنها تقرير « لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة » في الفترة الأخيرة

– 298 –

لو سئل أتباع الفرقة النّاجية فردا فردا، بمن فيهم رأسهم المفدّى، عن موقفهم من الحرّيّات الفرديّة والمساواة بين كافّة التّونسيّين لأجابوا بصوت إسلامسياسيّ دستوريّ ديمقراطيّ حقوقيّ واحد أنّهم ليسوا أوصياء على عباد الله، لا علاقة لهم من بعيد أو قريب بملبسهم ومأكلهم ومشربهم، ولا علاقة لهم طبعا بإيمانهم أو كفرهم، ولا علاقة لهم أخيرا بميولهم الجنسيّة، وفي كلمة لا علاقة لهم بكلّ ما يتعلّق بحياتهم الشّخصيّة. وقد تبلغ الحماسة ببعضهم فيقولون إنّ « الدّيمقراطيّة هي شريعتهم »، لا شريعة لهم سواها. وقد قالوا ذلك بالفعل، وكتبوا أيضا مئات التّصريحات والتّطمينات في معنى ما تقدّم. ومع ذلك فقد تفاجأ امرأة يوما مّا بحاجب يسدّ في وجهها باب إدارة رسميّة، تابعة لإحدى وزارات الجمهوريّة المدنيّة (نظريّا حتّى إشعار آخر، الّتي يفترض أنّنا ما زلنا نحيا في كنفها اليوم) بدعوى أنّ « لباسها غير لائق »، أو أنّ فستانها يجب ضرورة أن يكون : تحت الرّكبة
من أصدر أوامره لهذا العون الإداريّ ليتصرّف بهذه الطّريقة مع النّساءء؟ الأكيد أنّ الفرقة النّاجية، الدّيمقراطيّة حتّى النّخاع، لا علاقة لها بهذه التّراتيب، وأنّ الأمر يتعلّق كالعادة بقرار معزول اتّخذته بعض الأطراف دون استشارة الإدارة المركزيّة. وأغلب الظّنّ أنّ الجواب سيظلّ، كغيره من الأسئلة المبهمة، بدون جواب إلى أن نفاجأ يوما، نرجّح أنّه قريب، بقائمة اللّوائح الإسلاميّة في آداب التّعامل الّتي يجب على النّساء والرّجال احترامها في الفضاء العامّ. ومن يدري، فقد يصدر قرار بتعميم لباس البراقع والخمر والنّقب، كما وقع ذلك من قبل في أفغانستان، وإيران (فليقرأ من أراد منكم كتاب الأديبة الإيرانيّة الشّهيرة شاهدورت دجافان « فليسقط الحجاب »، الصّادر في باريس باللّغة الفرنسيّة، وستدركون بشاعة الاستبداد الدّيني)، والسّودان؟ ولا مانع، في عرف الفرقة النّاجية، وأساطين اليساريّة الّذين لا يرون فيها إلاّ مجرّد خصم سياسيّ يتبارون معه بكلّ نزاهة و »ديمقراطيّة » في سباق الحصول على الحكم، أن يتكرّر في تونس ما حدث في غيرها من الإيالات والإمارات الإسلاميّة

– 299 –

الإسلام السّياسيّ، تدستر أو لو يتدستر، لا يمكنه أن يفي بتعهّداته ووعوده الانتخابيّة. وهو، عندما يكذب يخادع ويغدر ويسوّف ويخون لا يهدف إلى استغباء ناخبيه وخصومه على حدّ السّواء، فهؤلاء لا يعنونه تماما، وإنّما يأتي الإسلام كلّ هذه الموبقات، بل وأبشع وأوغل منها في القبح، لأنّه يحيا على هامش التّاريخ والحياة، بل خارجه تماما. ومن الطّبيعيّ جدّا أن يضطرّ إلى الكذب والغدر « تنظيم سياسيّ » (و الأحرى أن يقال « طائفة ») ليس حرّا في اختيار برنامجه لأنّ هذا البرنامج، بكلّ بساطة، جاهز منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرنا، ولا حقّ لأحد في تغيير فاصلة يتيمة فيه. وفيه أنّ السّماء – وما أدراك ما السّماء – أنزلت الحياء على النّساء. والحياء لا يستقيم مع الملابس الخليعة وفنون التّبرّج
إنّ هذا التّصوّر للمرأة، ولجسد المرأة بصورة أدقّ، هو جزء من عقيدة الإسلام السّياسيّ، لن يتخلّى عنها لأنّ رجوعه عنها هو ضرب من « الكفر ». و »الكفر » يعني نهاية الإسلام السّياسيّ في نظر قواعده الّتي تفتقد إلى « واقعيّة » قادتها وأئمّتها وشيوخها. وسيرضخ الإسلام السّياسيّ، بعد أن يستكمل مراسم « تمكينه » لمشيئة قواعده المتعصّبة باعتبارها تعبيرا عن المشيئة الشّعبيّة. والحقيقة أنّ هذه المشيئة هي نفسها مشيئة أئمّته الملهمين، أو مشيئة « سمائه » الأزليّة، فالأمر في نظره سواء

– 300 –

لن يكفّ الإسلام السّياسيّ، الّذي تدستر في تونس، عن استهداف المرأة لأنّ في إخضاعها إخضاع للمجتمع برمّته. إرغام النّساء على القبول بنير الأحكام « الشّرعيّة » سيؤدّي حتما إلى إحكام قبضة الفرقة النّاجيّة على الأسرة، وبالتّالي على أجيال من النّاشئة التّونسيّة ليقولبوها وفقا لمزاجهم الإسلامويّ، كما سبق أن أعلن ذلك صراحة نائب رأس هذه الفرقة، المعتدل جدّا. فلا يصدّقنّ أحد ما قاله، وما قد يقوله، بعض أعضاء هده الفرقة عن مساندتهم للحريّات الفرديّة والمساواة، فإنّهم لا يعنون ما يقولون، وسيزعمون، عندما تنكشف ألاعيبهم بعد حين، أنّ للتّدافع أحكامه الّتي لا تقهر. وقد أتى تدافعهم بما لا تشتهي سفن العلمانيّة والحداثة وحقوق الإنسان

– 301 –

أيّ صراط « مستقيم » هذا الّذي يؤاخذك بجريرة اقترفها هو في حقّك، فيؤاخذك بدنس ورجس هو من بثّهما في كيانك، والحال أنّ حياتك لا تستقيم بدونهما؟ ألم تدن المرأة بالدّم الّذي جعله الصّراط المستقيم جزءا لا يتجزّأ من طبيعتها، تنعدم خصوبتها بدونه؟ ألم تسوّى الأنثى بالطّفل في مداركها لأنّ الصّراط المستقيم زوّدها بعقل « ناقص »، وأكرم سميّها الذّكر بكمال العقل؟ ألم تغبن المرأة في حقوقها المادّيّة والمعنويّة بفعل هذه النّواقص « الهيكليّة » (الّتي ينعتها اليوم الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ « بالشّرعيّة ») حتّى حُطّت إلى نصف قيمة الرّجل، وإلى ربعها أحيانا؟ ألم تعدم المرأة « سياسيّا » بفعل هذه النّقائص « الطّبيعيّة » (أو « الصّراطيّة » على الأرجح) حتّى لقد حذّرت السّماء رعاياها من مغبّة أن تلي « أمرهم » امرأة؟

– 302 –

من الظّلم – للإله وللإنسان معا – أن تبزّ التّشريعات الوضعيّة اليوم الشّريعة عدلا فتنادي بالمساواة فيما تستمرّ « شريعة الله » في الذّود عن « الجور » الّذي حشا به « السّلف الصّالح » متونها قديما في زمن لم تكن فيه العبوديّة وامتهان المرأة من القبائح الحقوقيّة والأخلاقيّة. فما عذر من يصرّ، من أشياع الإسلام السّياسيّ، في المجاهرة بهذه « الكبائر » الّتي أضحت اليوم في المركز من الحسّ الحقوقيّ المعاصر بتأثير من الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، هذه الوثيقة الّتي باركتها الإنسانيّة قاطبة؟ وهل يعني ذلك أنّ علينا أن نسفّه الإنسانيّة بأسرها لنصدّق مزاعم الإسلام السّياسيّ المتمترس وراء « نصوصه القطعيّة الصّريحة »؟

– 303 –

على الإسلام السّياسيّ، الّذي يجرّ أذياله زهوا بدسترته، أن يتذكّر أنّ « الدّسترة » لا تصنع إنجازات سياسيّة، ولا تصنع أمجادا، ولا تعكس وجهة التّاريخ. وليتذكّر خاصّة أنّ الزّعيم الحبيب بورقيبة، عدوّه اللّدود، لم يمت بعد لأنّه حيّ يرزق في وجدان ملايين الرّجال والنّساء. وعليه أن يتذكّر أيضا أنّ أبا القاسم الشّابّي والطّاهر الحدّاد وشكري بالعيد ما زالوا قائمين في تونس الأنوار الّتي يحدّث نفسه باغتيالها. وعليه أن يتذكّر أخيرا أنّ نساء تونس، كما قال ذلك الشّاعر أحمد أولاد أحمد، : نساء ونصف

فرج الحوار

يتبع