معجم الإسلام السّياسيّ

نشاط الفرقة النّاجية، النّاطقة الرّسميّة باسم الإسلام السّياسي المحلّي بكلّ أطيافه، ليس من السّياسة، وإن كانت حلبته في الظّاهر السّاحة السّياسيّة، وذلك لأنّ « دينسياسةً » (نسبة إلى الدّين والسّياسة معا، وتغليب الأوّل على الثّانية إلزاما، وفقا للمعايير التّقوسياسيّة المعتمدة) تدار في المعابد وفي قمم الجبال وكهوفها، وفي أوكار المكائد والمؤامرات، وعلى أرصفة التّورّع التّهييجيّ الاستعراضيّ. ولهذا السّبب بالذّات يعجز المعجم السّياسيّ العاديّ عن الإيفاء بلطائف عبقريّة هذه اللّغة العجيبة، وأفانين بهلوانيّاتها الاصطلاحيّة
المنقذ الوحيد من هذه الورطة التّواصليّة يتمثّل في إصدار معجم مختصّ في لسان الفرقة النّاجية يشرح لبسطاء النّاس، من غير أولي الحلّ والعقد ومن يدور في فلك هذه النّحلة المقدّسة من المريدين والمهلّلين، والشّعّاريّين (أي الأجراء العرضيّين المردّدين للشّعارات) والمسخَّرين من كلّ ناحية وصوب، والفضوليّين من الغوغاء ؛ يشرح لكلّ هؤلاء، ولبقيّة البشر من بعدهم، مصطلحات الدّينسياسة، أو الإسلامسياسة تحديدا

ويتعيّن على واضعي هذا القاموس أن يتحرّوا جانب الدّقّة في تحديدهم للمفردات الّتي يجب إدراجها في هذا السّفر. وليكن تعويلهم في ذلك على ما يتردّد في تصريحات رأس الفرقة النّاجية وأعضاده المقرّبين، وكتبة إلهامه المعتمدين، وحلقة مريديه من الإعلاميّين والبروباغنديّين والدّعاة والمحتسبين والمفكّرين والفلاسفة. وليكونوا على يقين أنّ عملهم لن يكون يسيرا لما يتّسم به المعجم الإسلامسياسيّ من اضطراب وخلط، مردّه أوّلا إلى الطّبيعة الازدواجيّة لخطاب ممثّليه، من القادة والقاعديّين على حدّ السّواء، ومردّه ثانيا إلى انحرافه عن أخلاقيّات الفعل السّياسيّ المتعارف عليها شرقا وغربا، والقائمة على ضرورة احترام قوانين « السّباق » السّياسيّ، واحترام كلّ طرف فيه لتعهّداته إزاء الآخرين. وحتّى يكون ذلك ممكنا في الحدّ الأدنى، يجب أن تتكلّم الأطراف كلّها نفس اللّغة، وإلاّ استحال التّفاهم بينها

ها هنا تحديدا تكمن المعضلة. وسببها أنّ الإسلام السّياسيّ لا يتكلّم اللّغة الّتي يتخاطب بها فرقاؤه في السّاحة السّياسيّة التّونسيّة. فإذا اتّهمه هؤلاء بالممطاطلة والمراوغة والإبهام والتّلبيس والتّعمية، زعم أنّهم لم يفهموا ما قال لقصور هيكليّ في ملكة إدراكهم، أو أنّهم قوّلوه ما لم يقل، أو أنّهم أخرجوا تصريحاته من سياقها بقصد تحريفها وتشويه النّاطقين بها. فلا عجب إذن أن عُيّن من أبناء الفرقة شرّاح معتمدون لفكّ الألغاز الّتي تضمّنتها عديد تصريحات رأسهم الملهم، تمثّلت غالبا في تعويض نصوص هذه التّصريحات بنصوص أخرى من إبداعهم، كان الأحرى بهم لو مكّنوا منها إمامهم ليتلوها هي بدلا عن طلاسمه

ونرجّح أن يكون هذا المعجم محدود المداخل لأنّ عدد الألفاظ المضمّنة فيه سيدور إجمالا حول مصطلحات ثلاثة لا غير، هي: « الإسلام » و »الشّريعة » و »الخلافة »، الرّاشدة طبعا، وترتيبها في سلّم الطّوباويّات الإسلامسياسيّة « السّادسة »، شاء التّاريخ ذلك أو أباه. وما عدا هذه الأقانيم الثّلاثة فزوائد وهوامش ورتوش إيديولوجيّة وإستراتيجيّة، كما هو الشّأن مثلا مع « التّدافع »، و »التّمكين »، و »الدّولة المدنيّة » (والأصحّ أن يقال: « المدينيّة »)، و »البيعة »، و »البلاء والولاء »، و »الخفض » (أو ختان النّساء الّذي قال عنه أحد أعوان رأس الفرقة النّاجية إنّه مجرّد عمليّة جراحيّة تجميليّة، لا أثر لها إطلاقا على المرأة)، و »الجهاد » طبعا، ورائعة العصر وفريدة الدّهر، المتّصلة به والمكمّلة له، المسمّاة « جهاد النّكاح »، وغيرها من التّحف والرّوائع الّتي سجّلها التّونسيّون في عهد « التّرويكا » السّيّئة الذّكر

وتبقى المرأة وكرامتها، وإكرام الإسلام السّياسيّ لها كما لم يسبق أن أكرمها غيره من البشر. والإسلام السّياسيّ، لأسباب معلومة يخجل أن يفصح عنها، جعل من قضيّة المرأة العمود الفقريّ لإيديولوجيّته الأسريّة، وجنّد لتطبيقها طاقاته وموارده الغيبيّة و »الفكريّة »، حشدها كلّها رأس الفرقة النّاجية في أحد مصنّفاته ليفضي منها، بعد لفّ ودوران، إلى أنّ المرأة، بناء على وظيفتها « التّكميليّة » (أمّا الوظيفة الأساسيّة فهي للرّجل بدون منازع)، ينحصر دورها في الإنجاب. وهذا هو بالذّات ما سعى أتباعه في المجلس التّمكينيّ إلى إثباته في الدّستور، ولكنّهم لم يوفّقوا في ذلك

ومن آيات هذا التكّريم المنقطع النّظير أنّ الإسلام السّياسيّ جعل المرأة، بحكم ما تقدّم، مضافة لبعلها في كلّ الحالات، لا تنطق في حضرته إلاّ بالسّمع والطّاعة، غايتها القصوى مرضاته وسعادة بطنه وفرجه، وأزاحها، اعتمادا على مراجعه ونصوصه القطعيّة، من إدارة الشّأن العامّ كلّيّا. ولو شئنا أن نتبسّط في هذا الموضوع لتطلّب ذلك منّا كلاما كثيرا يفيض عن هذا المقام. لذلك سنكتفي بالعيّنات الثّلاث التّالية، نسوقها على عواهنها كما وردت في بعض الأصول القطعيّة للإسلام السّياسيّ قديما وحديثا، لن نعلّق عليها بكلمة واحدة حتّى لا نتّهم بالتّأثير على قرّائنا سلبا أو إيجابا
وفيما يلي النّصوص الثّلاثة

1 – عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: أَتَى رجل بابنته إِلَى رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَسلّم فَقَالَ: إِن ابْنَتي هَذِه أَبَت أَن تتَزَوَّج. فَقَالَ لَهَا رَسُول الله أطيعي أَبَاك. فَقَالَت: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَا أَتزوّج حَتَّى تُخبرنِي مَا حقّ الزَّوْج على زَوجته. قَالَ: حقّ الزَّوْج على زَوجته لَو كَانَت بِهِ قرحَة فلحستها، أَو انتثر منخراه صديدا أَو دَمًا ثمَّ ابتلعته مَا أدَّت حَقّه. قَالَت: وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَا أَتزوّج أبدا / « حسن الأسوة بما ثبت عن الله ورسوله في النّسوة »، ص 557-558، رَوَاهُ الْبَزَّار بِإِسْنَاد جيّد وَرُوَاته ثِقَات مَشْهُورُونَ

2 – عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَسلّم وقَالَت: أَنا فُلَانَة بنت فلَان. قَالَ قد عرفتك، فَمَا حَاجَتك؟ قَالَت: حَاجَتي إِلَى ابْن عمي فلَان العابد. قَالَ: قد عَرفته. قَالَت: يخطبني، فَأَخْبرنِي مَا حقّ الزَّوْج على الزَّوْجَة، فَإِن كَانَ شَيْئا أُطِيقهُ تزوّجته. قَالَ: من حَقّه أَن لَو سَالَ دَمًا وقيحا فلحسته بلسانها مَا أدَّت حَقّه. لَو كَانَ يَنْبَغِي لبشر أَن يسْجد لبشر لأمرت الْمَرْأَة أَن تسْجد لزَوجهَا إِذا دخل عَلَيْهَا لما فَضّله الله عَلَيْهَا. قَالَت وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ لَا أَتزوّج مَا بقيت الدُّنْيَا » / نفسه: 558، رَوَاهُ الْبَزَّار وَالْحَاكِم وَكِلَاهُمَا عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد اليمامي عَن الْقَاسِم بن الحكم وَقَالَ الْحَاكِم صَحِيح الْإِسْنَاد

3 – وَعَن ابْن عَبَّاس أَن امْرَأَة من خثعم أَتَت رَسُول الله صلّى الله عَلَيْهِ وَسلّم فَقَالَت: يَا رَسُول الله أَخْبرنِي مَا حقّ الزَّوْج على الزَّوْجَة، فَإِنِّي امْرَأَة أيّم فَإِن اسْتَطَعْت وَإِلَّا جَلَست أَيّمَا؟ قَالَ: فَإِنّ حقّ الزَّوْج على زَوجته إِن سَأَلَهَا نَفسهَا وَهِي على ظهر قتب أَن لَا تَمنعهُ نَفسهَا، وَمن حقّ الزَّوْج على الزَّوْجَة أَن لَا تَصُوم تَطَوّعا إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِن فعلت جاعت وعطشت وَلَا يُقبل مِنْهَا، وَلَا تخرج من بَيتهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِن فعلت لعنتها مَلَائِكَة السَّمَاء وملائكة الرَّحْمَة وملائكة الْعَذَاب حَتَّى ترجع. قَالَت: لَا جرم لَا أَتزوّج أبدا. رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ » نفسه: 560

فرج الحوار