اتّبع عقلك، فالعقل نبيّ (11) : ازدراء الإسلام السّياسيّ للعقل والتّاريخ والإنسان

الهدف من إصلاح الإسلام هو جعل الإسلام المعاصر يتبنّى العقلانيّة الدّينيّة الإسلاميّة، لأنّه سيقف بها على قدم المساواة مع جميع الدّيانات الكبرى الأخرى، التّوحيديّة والوثنيّة، الّتي تبنّت العقلانيّة الدّينيّة، قاطعة مع إيمان العجائز المطلق والسّاذج. ما المقصود بالعقلانيّة الدّينيّة؟ قبول مؤسّسات وعلوم وقيم العالم الّذي نعيش فيه. وخاصّة اعتناق الدّين العلمانيّ العالميّ، دين حقوق الإنسان، المناسب لجميع الدّيانات، شرط أن تحترم هي قيمه الكونيّة الّتي يسلّم بها كلّ عقل سليم أينما كان: مثلا حرّيّة التّعبير، حرّيّة التّديّن، حرّيّة الضّمير، المساواة الكاملة في الحقوق والكرامة بين الرّجل والمرأة، والمسلم وغير المسلم، والعربي وغير العربي، والمؤمن وغير المؤمن، وبين المؤمنين مهما اختلفت انتماءاتهم الدّينيّة أو الطّائفيّة
العفيف الأخضر، إصلاح الإسلام، ص: 28

– 266 –

كثيرون هم التّونسيّون اليوم الذّين يتمثّلون ببعض حكم أجدادهم، فيقولون متحسّرين على ما فات: « يرحمك يا راجل أمّي الأوّل »، و »شدّ مشومك لا يجيك ما أشوم ». وهذا الكلام، وغيره ممّا في معناه، لا يعني على الحقيقة، كما يتوهّم « المؤمنون الصّادقون » بثورة الياسمين والحالمين يمينا وشمالا بجنّة الخلد (الّتي ستهزم الحداثة نهائيّا وتعلي راية الشّريعة إلى أبد الآبدين) وجنّة الكادحين (الّتي ستملأ قفّة « الزّوّالي » خيرا عميما)، أنّ للدّيكتاتوريّة درجات، يفضل السّابق منها اللاّحق، بل إنّ ذلك يعني فقط أنّ « الماكياج الدّيمقراطيّ » الّذي لطّخ به الإسلام السّياسيّ المدستر (وأذياله ومهادنيه والمتمسّحين بعتباته والخائفين أن يلدغهم بشوكته المقدّسة) وجهه القبيح لم ينطل على أحد
ردود الفعل هذه هي الدّليل على أنّ « الشّعب » يفكّر، ويفكّر في الاتّجاه الصّحيح، وأنّه لن يكفّ عن التّفكير رغم كلّ المغريات الدّنيويّة والأخرويّة الّتي يلوّح بها له الإسلام السّياسيّ وصنوه اليسار الطّفوليّ، لأنّ عقله السّليم (وليست فطرته السّليمة) فتح عينيه على الحقيقة فأدرك أنّ هذين التّنظيمين هما وجهان لنفس العملة، أي أنّهما في الأصوليّة سواء، وإن اختلفا ظاهريّا في تصوّرهما للجنّة، فكلاهما لم يدرك أنّ الشّعب ليس في حاجة إلى « جنّة »، بل هو في حاجة ماسّة إلى « دولة » ترعى حقوقه، وتحفظ كرامته حتّى لا يضطرّه الضّنك إلى اللّجوء إلى : موائد اللّئام

– 267 –

« الكاراكوز الدّيمقراطيّ » الإسلامسياسيّ اللاّعقلاني هو من أقبح المساخر الّتي تستهدف اليوم عقول التّونسيّين الطّيّبين، وخاصّة منهم أولئك الّذين حملهم حسن الظّنّ – الّذي لا يخلو من غفلة أحيانا – على تقديم عامل الاستقامة (المزعومة، وهي في عرفهم السّاذج سليلة التّقوى، وهذه الأخيرة من آيات الملائكيّة الّتي يضفيها « الإسلام » – والإسلام وحده – على « المؤمنين » به – أي أتباع الفرقة النّاجية الدّستوريّة دون غيرهم من التّونسيّين -، المجاهدين في سبيله بالغالي والنّفيس) على عامل الكفاءة، فأوكلوا أمر إدارة شؤون بلادهم إلى من لا دراية له بذلك ليتعلّم « الحجامة في رؤوس اليتامى »، كما يقول مثلنا الشّعبيّ. وقد بادر الإسلام السّياسيّ بالتّعلّم، وما زال يتعلّم إلى اليوم في رؤوسنا الحجامة، ولن يكفّ عن التّعلّم على الأرجح طالما استمرّ « اليتامى » منّا في عرض رؤوسهم الطّيّعة على مقصّه الورع التّقيّ

– 268 –

ازدراء العقل أصل ثابت في إيديولوجيّة الإسلام السّياسيّ الّتي تقدّم عليه النّقل، وتقدّس « التّقليد » على حساب « الإبداع »، فلا مبدع إلاّ الله، وهو وحده العقل المدبّر للدّنيا والآخرة معا. ولن يتخلّى الإسلام السّياسيّ عن قناعاته الغيبيّة الرّاسخة، ولن يغيّر فاصلة واحدة في متونه المقدّسة، هذا إن لم يضف إليها رتوشا إضافيّة لخنق نزعة الحرّيّة في المتنطّعين من التّونسيّين، ولجم أفواه كلّ اللّجان الحقوقيّة المتهوّرة (وفي مقدّمتها لجنة الحقوق الفرديّة والمساواة) الّتي لم تثب بعد للصّواب وتعتذر للشّعب التّونسيّ (كما طالبتها بذلك، بكلّ إلحاح، كريمة رأس الفرقة النّاجية) عن الإساءات المتعمّدة الّتي تلحقها كلّ يوم بثوابته ومسلّماته ومقدّساته.

– 269 –

من مظاهر ازدراء العلم الّتي كرّسها الإسلام السّياسيّ المدستر محاولاته المحمومة لإحياء « العلوم الشّرعيّة »، وفي مقدّمتها علوم القرآن، من تجويد وترتيل وإعجاز وغيره، يليها الفقه الّذي أضحى يدرّس في المساجد إثر الصّلوات المقرّرة، تليه الدّروس الدّعويّة المنفلتة الّتي تستهدف عقول « المؤمنين » بالغسل الباتّ، وتبثّ فيها إكسير الخضوع والخنوع والتّسليم والقدريّة، هذا فضلا عمّا يجري، سرّا وعلنا، في الجمعيّات والمنظّمات المحليّة والخارجيّة تحت ذريعة « تدريس » العلوم الشّرعيّة ومصالحة الشّعب التّونسيّ مع هويّته.

– 270 –

ومن مظاهر ازدراء العقل أيضا، الّتي تمثّل ركنا أساسيّا في إستراتيجيّة الإسلام السّياسيّ، قبل تدستره وبعده، إصراره على تمجيد الإرهاب حينا، وتبيضه حينا آخر بطوفان من التّصريحات والفتاوى الّتي تقدَّم في شكل محاولات متعقّلة لتفهّم غضب الغاضبين فلذات كبد رأس الفرقة النّاجية، والتّقليل من شأن العنف الّذي يمارسونه ضدّ « ضحاياهم » (الّذين قلّ ما يرقون إلى مصافّ « الشّهداء »، هذا إن لم يسبقهم إليها « جلاّدوهم » البررة » ويزجّ بهم هم في خانة « المعتدين »، أو على الأقلّ في خانة « المستفزّين »، طلاّبي البلاء الّذين لا يحصدون عادة إلاّ ما يستحقّون) باعتباره عملا معزولا لا يعبّر عن جوهر الإسلام السّياسيّ الدّستوريّ، المسالم فكرا وممارسة

– 271 –

ومن مظاهر ازدراء العقل والعلم معا، الّتي جعل منها الإسلام السّياسيّ ركنا أساسيّا في إيديولوجيّته الغيبيّة، استهانته بمنطق التّاريخ، بل وبالتّاريخ كلّه. ويتّضح ذلك في محاولاته المتكرّرة لاستثناء مقوّمات « فرقته النّاجية » من مجال التّاريخ، واعتبارها من مجالات السّماء الّتي لا سلطان للتّاريخ عليها، معلنا بذلك، أسوة بالأخباريّين القدامى شرقا وغربا، وجود ضربين من التّاريخ: التّاريخ المادّي الخاصّ بأفعال البشر، والتّاريخ الإلهي. واستيلاء الإسلام السّياسيّ على دفّة الحكم في تونس هو من فعل هذا التّاريخ الإلهي. هذا ما يؤمن به رأس الفرقة النّاجية، وإن لم يصرّح به إلاّ بطرق ملتوية، عملا بسنّته الثّابتة في اعتماد الازدواجيّة تقيّة، وجبرا لخاطر ناخبيه من بني البشر حتّى لا يزورّوا عن صناديق اقتراعه

– 272 –

ومن مظاهر ازدراء العقل والتّاريخ أيضا ما لم ينفكّ الإسلام السّياسيّ يردّده عن « جاهليّة » الزّمن الرّاهن، وضرورة استئصال هذه « الجاهليّة »، المتجدّدة على مرّ الدّهور، الّتي أضحت هدفه الأسمى، والوحيد تقريبا. مقاومة « الجاهليّة » (وليس « الدّيكتاتوريّة » كما يزعم الإسلام السّياسيّ التّونسيّ المهووس، كغيره من التّشكيلات والتّنظيمات الإسلامويّة، بدولة الخلافة التّيوقراطيّة، الذّاهبة في الاستبداد إلى مداه الأقصى) هي كلّ برنامج الإسلام السّياسيّ، وهي كما هو بيّن، لا تمتّ إلى السّياسة بصلة
وهكذا تتّضح للعيان المغالطة الهيكليّة الّتي لم ينفكّ الإسلام السّياسيّ يتخبّط فيها منذ نشأته، والمتمثّلة في ازدرائه الكامل للسّياسة كفعل بشريّ، واستهانته بالبشر (أو بما يسمّيه هو بانتهازيّته المنقطعة النّظير « شعبا »، أو « أمّة »، أو « جماعة ») كقوى فاعلة في التّاريخ، وخاصّة في الجانب « الإلهيّ » منه، وهو مجال احتكره كلّيّا بزعم أنّه النّاطق الرّسميّ المفوّض من السّماء للحديث باسمها وتطبيق تعليماتها

– 273 –

ومن مظاهر ازدراء الإسلام للتّاريخ والجغرافيا معا ما يتمثّل في تجاهله لحقيقة أنّ تونس هي جزء لا يتجزّأ من الكرة الأرضيّة، وأنّها بصفتها تلك لا يمكن أن تعيش خارج مجالي الجغرافيا والتّاريخ لأنّها لا يمكن عقلا وعرفا أن تكون، وفقا لنزوات الأصوليّة السّلفيّة الجهاديّة، مجرّد « دار حرب » أو : دار سلام

– 274 –

ومن مظاهر ازدراء العقل، الّتي تحتلّ مكان الصّدارة في إيديولوجيّة الإسلام السّياسيّ، اعتقاده الرّاسخ أنّ الإيمان الدّينيّ الوراثيّ العجوزيّ هو أرقى أشكال النّبوغ، وأنّ التّفكير العقليّ المتحرّر من ربقة « الثّوابت والمسلّمات » هو أخطر أشكال الجهل. وهذا الضّرب من الجهل خطير جدّا في نظره لأنّه يفضي ضرورة إلى ما يسمّيه « الكفر »، أي إلى التّشكيك في شرعيّته هو بالذّات. أمّا الإسلام فقد أضحى جزءا لا يتجزّأ من الواقع التّاريخيّ والحضاريّ الإنسانيّ. وهو بالتّالي في مأمن من الأخطار الوهميّة الّتي يروّج لها الإسلام السّياسيّ لتبرير عنفه وإرهابه الذّي يستهدف اليوم الإنسانيّة بأسرها.

– 275 –

ومن مظاهر ازدراء العقل أيضا ما يتردّد في أدبيّات الإسلام السّياسيّ عن « الحياء الإسلاميّ »، وعن ضرورة أن يكون المسلمون، إناثا وذكورا، متماثلين مظهرا وسلوكا. وهكذا تكتسح اللّحى وجوه كلّ الرّجال وتطمس النّقب (جمع نقاب) وجوه كلّ النّساء. ولكن، هل تكفي هذه الإجراءات الوقائيّة الإسلاميّة لاستتباب الحياء، وانتصار العفّة على الرّذيلة؟ يجيب الإسلام السّياسيّ بالنّفي على هذا السّؤال، مدفوعا بسوء ظنّه في الإنسان، فهو لديه في مقام الحيوان أو لعلّه أحطّ منه لديه مكانة، لا همّ له إلاّ ما بين رجليه، فيؤكّد أنّ البهيمة لا تستقيم إلاّ بالعصا والسّوط، وبالسّكّين أحيانا.
لذلك لن يهدأ للإسلام السّياسيّ بال ما لم يزجّ بالبشر، الّذين يلقي بهم سوء الحظّ بين براثنه، في إسطبل تماثله وطهرانيّته. ولن يردّه عن غيّه ما يرى اليوم من استحالة إنجاز هذا المشروع اللاّعقلانيّ في إقطاعيّة آل سعود الوهّابيّة، أو في إيران الشّيعيّة.

– 276 –

ليست الخلاعة معيارا يرسم حدود الحياء ويدين الخارجين عنه. لو كان الأمر كذلك، لكانت الآلهة عيّنت لأتباعها مثالا يحتذونه في ملبسهم، ولما تركت الحبل على الغارب للمهووسين والمغامرين وأصحاب الأهواء من أشياع الإسلام السّياسيّ ينتحلون ما أرادوا من هيئات التّنكّر والتّخفّي. وبعد، إن سلّمنا جدلا أنّ اندثار المتنقّبة في جدثها الأسود القبيح هو التزام منها بحرّيّة الملبس (كما يروّج لذلك اليسار الطّفوليّ « المتسامح » إلى حدّ التّفريط في الأمن العامّ)، فإنّ نقيض هذه الهيئة (أي العري التّامّ الّذي أضحى لدى بعض النّسوة شكلا من أشكال النّضال)، يصبح هو الآخر التزاما بحرّيّة الملبس. فلماذا تحترم المتنقّبة وتدان كاشفة نهديها في الطّريق العامّ احتجاجا على « قضيبيّة » الإسلام السّياسيّ؟ ولماذا يناصر اليسار الطّفوليّ الأولى ويزدري الأخرى؟
إن صدق من قال إنّ الشّيء، إذا بلغ حدّه ينقلب إلى ضدّه، فنحن هنا إزاء حالتين قصويين من حالات الخلاعة. لا فرق بين اللاّبس والعاري، فلا معنى للحرّيّة إذا دفع بها التّدافع والتّدافع المضادّ، في درب الاستفزاز. والدّليل على ذلك أنّ الأنظار تتعلّق بهاتين الهيئتين ولا تنتبه لغيرهما من هيئات عابرات الطّريق. وهكذا يستوي العاري والمتخفّي، بغضّ النّظر عن موقف الرّائي من كليهما
والحياء والأخلاق الحميدة ليست من هموم المتدافع الإسلامسياسيّ، فالهمّ الأكبر لهذا الأخير، إذا طلب الشّمس والقمر أو القبر والسّديم، ولجّ في الطّلب، هو أن يضع يده على تونس من الحدّ إلى الحدّ، يعرّيها أو يحجبها. لا أكثر ولا أقلّ. فما يهمّ المتدافع أوّلا وآخرا هو أن يلبس تونس ما يريده هو لا أن تلبس تونس ما تريده هي. فإن تمكّن من لباسها تمكّن من روحها، وإن تمكّن من روحها تمكّن من مصيرها دنيا وآخرة، وإن تمّ له ذلك اعتلى صهوتها، وجعلها له عرشا خليفيّا يتورّك عليه إلى أبد الآبدين ليأتي بما لم تأته الأوائل، يزعم أنّه سيردّ النّسبيّ إلى المطلق، فيجيئ بالعدل مكتملا نضيدا، ويخلع عليها عندئذ اسم « الدّولة – أو الإمارة – الإسلاميّة ».
وهذه فرية مضحكة، كان فيلسوف المعرّة سطّرها في ديوان الموبقات الّذي استقصى فيه نقائص الإنسان الإسلامسياسيّ وعاهاته، فقال :
لَنْ تَسْتَقِيمَ أُمُورُ النَّاسِ فِي عُصُرٍ

وَلاَ اسْتَقَامَتْ، فَذَا أَمْناً وَذَا رُعُبَا

وَلاَ يَقُومُ عَلَى حَقٍّ بَنُو زَمَنٍ

مِنْ عَهْدِ آدَمَ كَانُوا فِي الْهَوَى شُعبَا

ولكم في رأس الفرقة النّاجية خير المثال يا أولي الألباب. ألم تروا كيف صام عن إمبراطوريّة الخلافة الرّاشدة، وعقد العزم على الاكتفاء بوطن الكاهنة، يحلم أن يسبل عليه الحجاب بين يوم وليلة؟ أقول لهذا المتنكّر في اليوم في بدلته الإفرنجيّة الفاخرة، في محاولة يائسة منه لإيهامنا بأنّه طلّق سراب « مدينته الفاضلة » في رمال الصّحاري النّائية، وأضحى معاصرا لنا ومهووسا بهموم زماننا، ما كان قاله المعرّي لأمثاله في العهود الخوالي :
أَرَى دُنْيَاكَ خَالَطَهَا قَذَاهَا

وَأَعْيَتْ أَنْ يُهَذِّبَهَا مُصَفِّي

فلن يكون حظّه من « النّهضة » إن جاز أن يسمّى السّير القهقرى « نهضة » – بأوفر من حظّ من توهّم أنّه سيطير بجناح النّسر، بدلا من جناحه هو، قدما نحو القمّة الشّمّاء، يرطن كلّ منهما بالطّلاسم والمبهمات الكليانيّة، يريدها نهجا قويما تسير على هديه قطعان شيعته من المهلّلين. والحقيقة أنّه لا خير في المتبوع والتّابع، ولا خير في الدّروب تذهب يمينا وشمالا، لا ترتاح قدم الواطئ إلى كليهما، فكلّها على حدّ قول رهين المحبسين :
مَذَاهِبُ جَعَلُوهَا مِنْ مَعَايِشِهِمْ

مَنْ يُعْمِلِ الفِكْرَ فِيهَا تُعْطِهِ الأَرَقَا

وشَرّ المخلّصين المنقذين المهديّين من تسربل في رداء الشّيخونيّة والزّعاماتيّة القشيب، يدلّ به على اللَّه وعباده، وهو في الحضيض من مدارج الجهل والكذب :
إِنْ رُمْتُ مِنْ شَيْخِ رَهْطٍ فِي دِيَانَتِهِ

دَلِيلَ عَقَلٍ عَلَى مَا قَالَهُ خَرِقَا

– 277 –

ومن مظاهر ازدراء العقل، الّتي أضحت في مقام اللاّزمة في خطاب الإسلام السّياسيّ المفلس أخلاقيّا وعلميّا، ما يتحف به أشياعه بين الفينة والأخرى عن آخر المستجدّات في حقل الإعجاز العلميّ الإسلاميّ، باعتباره دليلا على تفوّقه وعبقريّته وفردانيّته وفضله. ولا عجب في ذلك فالفرقة (أو الفرق) النّاجية هي « خير أمّة أخرجت للنّاس »، تنزل عليها الاكتشافات العلميّة الرّائدة من السّماء، كسقوط المنّ والسّلوى على بني إسرائيل، دون أن يحرّكوا ساكنا، ودون أن يتزحزحوا قيد أنملة عن سجّادة خشوعهم وتبتّلهم
في هذا الاتّجاه، قرأت أخيرا خبرا على غاية من الأهمّيّة، رواه أحد أبناء أرض الكنانة المخلصين لفكر الإسلام السّياسيّ وأهله، الغيّورين على إشعاعه، ذكر فيه، نقلا عن مصادر موثوقة جدّا لم يذكر عنها شيئا حرصا على سلامتها، أنّ عددا من أعاظم كبار العلماء الرّوس (لم يحدّد، لأسباب أمنيّة بديهيّة، عددهم، ولم يذكر لنفس الأسباب أسماءهم واختصاصاتهم العلميّة الدّقيقة، وأغفل ذكر المعامل والمخابر والجامعات ومراكز البحث الّتي كانت مسرحا لاكتشافاتهم المذهلة) أثبتوا بالدّليل القاطع أنّ حدّ الجلد الإسلامي بحذافيره، الّذي شرّعه سبحانه وتعالى عقابا للزّناة وشاربي الخمر وغيرهم من المارقين، هو الطّريقة الطّبّيّة المثلى لعلاج الانحرافات الجنسّية وإدمان الكحول، جرّبوها مرارا وتكرارا تحت إشراف أحدث الالآت فتأكّدت لهم نجاعتها ضدّ هذه الأوبئة النّفسيّة والأخلاقيّة الكارثيّة على المصابين بها وعلى محيطهم الضّيق والواسع على حّد السّواء
وقد نسي هذ العالم المصريّ الجليل (ارتأيت بدوري ألاّ أذكر اسمه حتّى لا أعرّضه لخطر الاغتيال من غلاة العلمانيّين) أن يذكر إن كان هؤلاء العلماء الأفاضل اعتنقوا الإسلام بعد ما تبيّن لهم من آيات إعجازه بالبراهين التّجريبيّة القاطعة أم أنّهم (يا للأسف ويا للخسارة، وإن كان الإسلام عزيزا وقويّا بدونهم، ولكنّ أعضاء الفرقة النّاجية، المجبولين على حبّ الهداية لجميع إخوانهم من الصّليبيّين، كانوا يتمنّون لو تنضاف إلى أخوّة الإنسانيّة أخوّة الإيمان، وهي أحرّ وأعمق بكلّ المقاييس من الأولى) تمادوا في ضلالهم. وهو، وإن لم يسعدنا بخبر إسلام هذا الطّاقم العلميّ الرّوسيّ الخطير، لم يتوان في التّنديد بالنّفاق الغربيّ الصّليبيّ النّابع من حقد أصحابه التّاريخيّ على الإسلام وحضارته ونبوغه العلميّ. وذكر الأخ الشّيخ العالم الإسلامسياسيّ الإعجازيّ في هذا الصّدد أنّ الإنجليز والألمان والفرنسيّين، وغيرهم من الشّعوب الأوربّيّة، تلقّفوا هذا الاكتشاف الرّهيب وبادروا باستعماله في مسشفياتهم وعياداتهم العموميّة والخاصّة، فتأكّدوا بذلك من نجاعته الّتي فاقت كلّ التّوقّعات
ولم ينس أن يندّد بالمناسبة بالتّعصّب الغربيّ الصّليبيّ الّذي حمل هذه الأمم على قبول ما كان القرآن بشّر به منذ أربعة عشر قرنا، والعمل به واستثماره والاستفادة منه لفائدة الآلاف من مرضاهم، لمجرّد أنّ فريقا من العلماء الصّليبيّين مثلهم أكّدوا صحّته، وأثبتوها بالقرائن العلميّة الدّامغة. أما كان الأجدر بهؤلاء الحاقدين أن يقرّوا للقرآن، دون غيره من الموسوعات العلميّة القديمة والحديثة، بالسّبق في النّصّ على الفوائد الوقائيّة والعلاجيّة والنّفسانيّة للجلد الشّرعيّ، بدلا من أن ينسبوا هذا الفضل لمن انتحلوه زورا وبهتانا من علمائهم؟
وعبّر الأخ الشّيخ الإسلامإعجازيّ في خاتمة مقاله عن أمله في أن يشفى الغربيّون الصّليبيّون من مرضي الحقد والحسد العضالين هذين عندما يكتشفون، بحول اللّه ومنّه، كنوزا أخرى من الإعجاز العلميّ الإسلاميّ تتّصل بفنون أخرى من الزّجر والتّعزير والتّأديب، أخصّ بالذّكر منها قطع أيمان اللّصوص وأرجلهم، وجزّ رؤوس أهل الحرابة وقطّاع الطّرق ومروّجي المخدّرات، ورجم الزّانيات والزّواني، وشتّى فنون العذاب الّتي أعدّها الرّحمان الرّحيم للمجرمين والضالّين ورؤوس الكفر. فلعلّهم إن نظروا مليّا في هذه الأساليب الزّجريّة والبيداغوجيّة والتّربويّة والدّعوويّة (نسبة إلى الدّعوة) المبتكرة، وأخضعوها للتّجريب والتّمحيص في مخابرهم، واستعانوا في هذا الشّأن بخبرات أخصّائيّي جزيرة العرب، سيقعون فيها – إن شاء القادر القدير – على ما يساعدهم على علاج بعض الأمراض المستعصية
ولا يفوتني أن أشير على العلماء والأطبّاء الغربيّين، استكمالا للفائدة واستدراكا لما سها عنه الأخ الشّيخ الإعجازيّ المخبريّ المصريّ – وجلّ من لا يسهو -، ممّن لم يوغر الحقد والكلب صدورهم على الإسلام، بالإسراع في إجراء تحليلات مخبريّة دقيقة ومفصّلة لماء زمزم المبارك (ولا بأس إن أضيفت إليه أبوال إبل الجزيرة العربيّة دون غيرها من بنات جنسها في أصقاع العالم الأخرى)، فإنّهم سيعثرون فيه، بهدي من العالم العليم، على الأدوية المناسبة لكلّ العلل المستعصية في العالم. ألم يقل المصطفى عليه السّلام إنّ ماء زمزم لما شرب له؟ أليس لهذا السّبب بالذّات سمحت السّلطات السّعوديّة، المتفانية في خدمة حرمي الله سبحانه وتعالى، لضيوف الرّحمان من معتمرين وحجيج بالعودة معهم إلى أوطانهم بما لا يقلّ عن خمس ليترات من هذا الدّواء المقدّس للضّيف الواحد، وأنّ هذا الكرم الحاتميّ – والشّيء من مأتاه لا يستغرب – كان له جليل الأثر على تحسّن الأوضاع الصّحّيّة على هؤلاء الحجيج وعلى أهاليهم، وعلى بلدانهم قاطبة، وعلى الكرة الأرضيّة بأسرها؟
أبشري يا أمّة الإسلام، فقد منّ عليك علماء الغرب الصّليبيّ، وأنوفهم راغمة في المخابر والمعامل والجامعات، بفتوحات غير مسبوقة في الإعجاز العلميّ الإسلامسياسيّ، لا أشكّ أنّها ستفضي في القريب العاجل، إن استمرّت على نفس هذا النّسق، إلى استخراج جلّ الكنوز – أو كلّها إن شاء اللّه، وما هذا عليه بمستحيل – المضمّنة في آي الذّكر الحكيم منذ أكرم اللّه به العالمين ليكون لهم مرجعا ومنارة ومعينا يستنبطون منه ما يحتاجونه في عمارة أنفسهم ومحيطهم. واللّه متمّ أمره، ومعلن إعجازه العلميّ المبين، ولو كره العلماء الصّليبيّون، وزيّفوا الحقائق السّاطعة، وتآمروا على الإسلام ليطفئوا نور اللّه سبحانه. ولن يفلحوا إن شاء اللّه، أو هذا على الأقلّ ما يؤكّده : المفسّرون الّذين يقرأون النّصّ القرآنيّ، بصورة ذاتيّة اعتباطيّة، لكي يسقطوا عليه، بنوع من السّطو، ومن غير حياء، كلّ النّظريّات الّتي أنتجها العلماء المحدثون والمعاصرون في مختلف فروع العلم»

– 278 –

لن ينشقّ القمر رضوخا لمشيئة صحوة الإسلام السّياسيّ، ولو تدستر في كلّ بلدان المعمورة، ولن يعود الزّمن القهقرى ليفصح للمهووسين بالمعجزات الغيبيّة والحقوقيّة من غواة « النّهضة » الغيبيّة، وأذنابها وامتداداتها السّلفيّة والعلمانيّة على حدّ السّواء، عن ملامح « المدينة الفاضلة » الّتي قيل إنّها خرجت من رمال الصّحراء ذات عهد سعيد غابر، ثمّ غارت فيها وطواها النّسيان
هذا هو الواقع الّذي يؤكّده العقل والتّاريخ. فلينطح الإسلام السّياسيّ الصّخر أو فليشرب البحر، فلن يجني من كلّ ذلك شيئا، والأكيد أنّه لن يجني منه « عرشا »، يريده أبديّا، متناسيا أنّه لا وجود لهذا الضّرب من العروش، بما في ذلك عروش « الخلافات » (وليس الخلافة الواحدة) الّتي أتى عليها كرّ الأيّام.

– 279 –

فعل التّاريخ فعله، والتّوراة هي التّوراة، والإنجيل هو الإنجيل، والقرآن هو القرآن، والحقد هو الحقد. والجهاد هو الذّبح والحرق والسّحل والاغتيال والقتل والحزام النّاسف والسّيّارة المفخّخة، وغيرها من أساليب الإقناع والمجادلة بالحسنى والدّعوة بالموعظة والكلمة الطّيّبة الّتي تنزل على الأرواح خرابا ودمارا. يغنّي كلّ كتاب على ليلاه. ولا يغنّي أحد منهم على الإنسان. لكأنّ الإنسان انتفى فيها كلّها، أو استأصل من سورها وآيها، بأمر السّماء ومعابدها المنبثّة في الأنحاء.
لو كان ما ظننته باطلا، هل كان حصل ما حصل اليوم والسّماء في صمتها لا تريم؟ وما جدوى السّماء إن لم تصرخ بوحوش الفلاة أن ارفعوا أيديكم المقدّسة المأمورة القذرة عن بني الإنسان؟ أليس لخير الإنسان نطقت السّماء؟

– 280 –

السّوط والمقرعة، أنّى كان مأتاهما، يجرّدان الإنسان من إنسانيّته فيتراجع القهقرى إلى حيوانيّتة ويقرّ فيها. فإذا استوى وحشا كاسرا أشهر كتابه سلاحا ومضي مجاهدا في الجبال والسّهول والقرى والوديان والمدن، ينشر هديه النّاريّ الحارق في كلّ ما تطاله يده من مرافق الحياة الدّنيا، يضيّق بذلك على أهل الضّلال وطواغيتهم ليثوبوا إلى رشدهم، أو يعطوا بأيديهم فيقادون إلى المسالخ الإسلامدستوريّة العامّة مقيّدين أذلاّء، ويذبحون هناك على الهواء مباشرة ليكونوا عبرة للعالمين

– 281 –

كلاّ، لن أصوم عن عقلي، الّذي جعلته لي قبلة وإماما، لأسعى متعقّبا أثرا مّا لسراب في قيعة، كان آبائي وأجدادي حلّوا فيها قبلي وذرعوها شبرا شبرا، ولم يخرجوا منها بطائل. وماذا في الصّحاري غير الجفاف والعطش؟ وهل في هذين طلاء يشحذ في الحيّ بصره وبصيرته؟

– 282 –

الرّغبة في الرّبح الوفير (أو بعبارة أكثر وضوحا الطّمع الذّي يسمّيه المؤمن الإسلامسياسيّ « أجرا ») هي أساس العبادة. فالعبادة رضوخ لإرادة المعبود لأنّ المتعبّد يعتقد أنّ لمعبوده عليه حقّ الحياة والموت، أي أنّ سلطان المعبود يكمن في قدرته الافتراضيّة على إلغاء قوانين الطّبيعة بكيفيّة تبطل حتميّة الموت الحادّة فيتحوّل الأجل خلودا إذا جاز المتعبّد من محدوديّة الأرض إلى مطلق السّماء، ويتحوّل الشّقاء سعادة، ويتحوّل المنفى صولجانا قاهرا وعرشا ذهبيّا
فإن بطل سلطان المعبود، أو ذهب في ظنّ المتعبّد أنّه بطل، حوّل هذا الأخير وجهه صوب قبلة أخرى يقدّم له ربّها ما ضنّ به عليه إله القبلة السّابقة، فلا فضل، في نظر المتعبّد لمعبود على آخر إلاّ بالبذل، أي الفائدة المرتفعة بلغة أرباب البنوك، وفي مقدّمتها الجنّة تجري من تحتها الأنهار، وتستلقي تحت نخيلها حور العين بانتظار وصول السّعداء ليحوزوا منهنّ ما يكفي لتأثيث حريم دونه حريم سليمان بن داود، وهارون الرّشيد وسليمان القانونيّ، والسّلطان الأحمر شاه بندر الملوك والسّلاطين والأباطرة
ذلك هو جزاء (أو ثمن) من يقبل بالتّجرّد من عقله في مرضاة معبوده. وهذا هو ما تلوّح به أبواق دعاية الإسلام السّياسيّ لمجاهديه في الآفاق، وما تلوّح به أبواق دعاية الإسلام الدّستوريّ اللاّيت (في نظر خصومه من عتاة الغلاة المرابطين في الجبال والثّغور) لأنعامه في فضاءات المساجد المكيّفة بـأموال دافعي الضّرائب. ولكن ثمّة سؤال لا بدّ من طرحه: بماذا يقدّر المؤمن الإسلاميّ « ربحه وخسارته » إذا كان تجرّد من عقله فعلا؟ ذلك أنّ العبادة بمثابة العقد، يلغى بمجرّد أن يخلّ أحد المتعاقدين بشروط التّعاقد، ومن أهمّها، في ما نحن بصدده، أن لا عبادة بدون مقابل؟
لو جازف أحد فعاتب المؤمن الإسلاميّ على « مادّيّته » المفرطة لردّ عليه، مفنّدا زعمه، « أنّ الدّنيا هي طريق إلى الآخرة » ، وأن لا ضير، تبعا لذلك، في أن يحرص الإسلاميّ على آخرة ضحّى في سبيلها بقسط لا يستهان به من دنياه. ولكنّ الحقيقة، الّتي يتغافل عنها المؤمن الإسلاميّ، بوعي أو بدون وعي منه، هي أنّ « الدّين هو في النّهاية نمط للعيش في الحياة الدّنيا من بين أنماط أخرى، بقدر ما هو شكل من أشكال السّيطرة على البشر، أو إدارة شؤونهم. والذّين ينفون ذلك، توكيدا على الجانب الغيبيّ والقدسيّ، ينتهكون المقدّسات بقدر ما يجحدون دنيويّتهم، أو يعيشونها بصورة سيّئة أو مزيّفة » ، وهو بالضّبط ما يتورّط فيه المؤمن الإسلاميّ عندما يخلط بين التّقوى والمصلحة

– 283 –

يجيب الأدب العربيّ القديم بطريقته على كثير من الأسئلة الّتي ما زال يتخبّط فيها اليوم عقل الإسلام السّياسيّ، ومنها ما يتعلّق بعلاقة المتعبّد بمعبوده. انظروا مثلا ما قاله أبو الحسن محمّد بن إبراهيم الإفريقيّ المتيّم، وتملّوا ما نمّق من رائق البراهين ليبرّر تقصيره فيما يراه غيره واجبا من أوكد الواجبات الدّينيّة، فهو يعتبر أنّ الصّلاة يجب أن تكون حكراً على من اصطفاه المعبود بأفضاله من أصحاب النّفوذ والجاه والسّلطان، وأن يعفى من أعبائها، طبقا لذلك، من قضى المعبود في حقّهم بالحرمان، وفقا على المتعارف من قواعد التّبادل وأعرافه، القاضية بأن يكون لكلّ عمل أجر معلوم
تَلُومُ عَلَى تَرْكِ الصَّلاَةِ خَلِيلَتِي

فَقُلْتُ: آغْرُبِي عَنْ نَاظِرِي، أَنْتِ طَالِقُ

فَوَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُ لِلَّهِ مُفْلِساً

يُصَلِّي لَهُ الشَّيْخُ الْجَلِيلُ وَفَائِقُ

وَتَاشٍ وَبَكْتَاشٍ، وَكَنْبَاشَ بَعْدَهُ

وَنَصْرُ بنَ ملْكٍ وَالشُّيُوخُ البَطَارِقُ

وَصَاحِبُ جَيْشِ الْمَشْرِقَيْنِ الَّذِي لَهُ

سَرَادِيبُ مَالٍ حَشْوُهَا مُتَضَايِقُ

وَلاَ عَجَبَ إِنْ كَانَ نُوحُ مُصَلِّياً

لأَنَّ لَهُ قَسْراً تَدِينُ الْمَشَارِقُ

لِمَاذَا أُصَلِّي؟ أَيْنَ بَاغِي وَمَنْزِلِي؟

وَأَيْنَ خُيُولِي وَالْحُلِي وَالْمَنَاطِقُ؟

وَأَيْنَ عَبِيدِي كَالبُدُورِ وُجُوهُهُمْ؟

وَأَيْنَ جَوَارِيَّ الْحِسَانُ العَوَاتِقُ؟

أُصَلِّي وَلاَ فِتْرٌ مِنَ الأَرْضِ يَحْتَوِي

عَلَيْهِ يَمِينِي؟ إِنَّنِي لَمُنَافِقُ

تَرَكْتُ صَلاَتِي لِلَّذِينَ ذَكَرْتُهُمْ

فَمَنْ عَابَ فِعْلِي فَهْوَ أَحْمَق مَائِقُ

بَلَى، إِنْ عَلَيَّ اللَّهُ وَسَّعَ، لَمْ أَزَلْ

أُصَلِّي لَهُ مَا لاَحَ فِي الْجَوِّ بَارِقُ

فَإِنَّ صَلاَةَ السَّيِّءِ الْحَالِ كُلَّهَا

مَخَارِقٌ لَيْسَتْ تَحْتَهُنَّ حَقَائِقُ

وعلى أثره سار الأعرابيّ الّذي سئل عن سبب تركه الصّلاة، فقال :
أَيَطْمَعُ رَبِّي أَنْ أُصَلِّيَ عَارِياً

وَيَكْسُوَ غَيْرِي كُسْوَةَ البَرْدِ وَالْحَرِّ

فَوَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُ مَا عِشْتُ عَارِياً

عَشَاءً، وَلاَ وَقْتَ الْمَغِيبِ، وَلاَ الوَتْرِ

وَلاَ الصُّبْح غِلاَّ يَوْم شَمْسٍ دَفِيئَةٍ

وَإِنْ غَيَّمَتْ فَالوَيْلُ لِلظُّهْرِ وَلِلْعَصْرِ

وإِنْ يَكْسُنِي رَبِّي قَمِيصاً وَجُبَّةً

أُصَلِّي لَهُ مَهْمَا أَعِيشُ مِنَ الدَّهْرِ

وأطرف منه قول أعرابيّ آخر يساوم الإله (مساومة النّدّ للنّدّ) في مقابل عبادته له، ويهدّد بالإمساك عنها إن تأخّر الثّواب المرتقب
أَمَا تَسْتَحِي مِنِّي وَقَدْ قُمْتُ شَاخِصاً

أُنَاجِيكَ يَا رَبُّ، وَأَنْتَ عَلِيمُ؟

فَإِنْ تَكْسُنِي يَا رَبِّ خُفّاً وَفَرْوَةً

أُصَلِّي صَلاَتِي دَائِماً وَأَصُومُ

وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى عَلَى حَالِ مَا أَرَى

فَمَنْ ذَا عَلَى تَرْكِ الصَّلاَةِ يَلُومُ؟

أَتَرْزُقُ أَوْلاَدَ العُلُوجِ وَقَدْ طَغَوْا

وَتَتْرُكُ شَيْخاً وَالِدَاهُ تَمِيمُ؟

ولأبي العلاء المعرّي في هذا المعنى بيتان، عرّض فيهما على ظلم السّماء، فقال يبرّر سلوك من أفضى به الحيف إلى الكفر :
إِذَا كَانَ لاَ يَحْظَى بِرِزْقِكَ عَاقِلٌ

وَتَرْزُقُ مَجْنُوناً وَتَرْزُقُ أَحْمَقَا

فلاَ ذَنَبَ يَارَبَّ السَّمَاءِ عَلَى امْرِئٍ

رَأَى مِنْكَ مَا لاَ يَشْتَهِي فَتَزَنْدَقَا

– 284 –

ثوابت النّاس الطّيّبين هي لقمة الخبز، ولقمة الخبز رهن بالعمل، وليست الصّلاة، على أهمّيّتها عند بعض النّاس، من الأعمال الدّنيويّة المجدية لأنّها بكلّ بساطة لا تطعم خبزا، إلاّ لمن اتّخذ منها « حرفة » من رؤوس الفرق النّاجية، فهو يأكل بها بيفتاكا وكفيارا، ويجمع بها مليارات الدّنانير، ويبني بها أفخم القصور، ويمتطي بها أفخر أنواع السّيّارات والطّائرات والنّساء وأغلاها. ولكن ليس بإمكان كلّ النّاس أن يبلغوا مصافّ الأئمّة الأطهار الأبرار الّذين تنزل إليهم موائد السّماء تباعا، فلا يحتاجون إلى العمل والكدّ ليكسبوا رزقهم بعرق جباههم، فقد اختار هؤلاء، عن رويّة، أن يكسبوا رزقهم بعرق سجّادة صلاتهم

– 285 –

كيف لديانة تزعم أنّها تقدّس العمل أن تلهي أتباعها بالصّلاة عن الشّغل خمس مرّات في اليوم، يؤكّد فرسان المنابر الإسلامسياسيّة المنفلتة أنّها يجب أن تؤدّى في مواقيتها، وأنّ في تأجيلها وجمعها عواقب وخيمة على الحساب البنكيّ الأخرويّ للمكلّف؟ إسألوا الأئمّة الإسلامدستوريّين المرابطين في المعابد مدى الحياة: « ما عملكم؟ » ولا تعجبوا إن أجابوكم عن بكرة فرقتهم النّاجية أنّهم دعاة إسلاميّون، صاموا عن الدّنيا زهدا في وذرها، ينزل لهم اللّه مائدة من السّماء كلّ يوم، وحسابا بنكيّا جاريا مكتنزا كلّ شهر، وسيّارة فارهة كلّ عام، ودورة نيابيّة في مجلس الشّعب كلّ خمس سنوات، وقصرا منيفا كلّ عقد، وأهلا صالحة كلّ شهوة ونزوة، وطائرة خاصّة وأسطولا من المرسيداسات الفارهة (مكتوب على أبوابها الأماميّة: لا إله إلاّ اللّه، محمّد رسول اللّه. هذا من فضل ربّي) ومئات الآلاف من الانتحاريّين للزّعماء والخلفاء والسّلاطين والنّوّاب والوزراء، والمشعوذين منهم على وجه الخصوص، كلّ ثورة ربيعيّة مظفّرة. وأضاف رأس الفرقة النّاجية متلمّظا : وهذا فضل اللّه يؤتيه من يشاء من عباده الصّالحين
قلت: والأنسب أن يقال « الطّالحين ». وهل أكثر نجاسة من يد عاطلة ولسان مهذار؟ وهل أخبث من « مؤمن » أراح بدنه من عناء العمل وأطلق مقوله في عقول « إخوانه » في الإيمان ليثنيهم عن سبيل العمل والصّلاح؟ أليس هذا هو ما يفعله رأس الفرقة النّاجية؟ أمّا أنا، فقد أقسمت أن لا أحيد عن نهج رهين المحبسين ما حييت، وكان رحمه اللّه قال في الزّمن القديم

آلَيْتُ أُثْنِي عَلَى قَوْمٍ بِنُسْكِهِمُ

وَقَدْ تَكَشَّفَ سَهْلُ الأَرْضِ عَنْ غَدَرِ

فرج الحوار

يتبع